أشواك البراري.. طفولتي (4)

جميل السلحوت | القدس – فلسطين

 

من الميلاد إلى المدرسة

ولادتي:

          أمّا أنا فقد أنجبتني أمّي بعد أحد عشر شهرا من ولادتها لشقيقي ابراهيم، وهذا يعني أنّني ولدت في الثّلث الأوّل من شهر آذار –مارس- 1949، لكنّني أحمل شهادة ميلاد مكتوب فيها أنّني مولود في 5 حزيران-يونيو- 1949، حسب تقدير طبيب الصّحّة الذي قدّر عمري عند دخولي المدرسة في العام الدّراسي 1955—1956. وليته اختار يوما غير هذا اليوم، الذي أصبح لاحقا في عام 1967 ذكرى هزيمة ماحقة، وما ترتّب عليها من مآسي واحتلال أهلك البشر والشّجر والحجر، وبولادتي كنت الابن السّابع لأبي، خمسة أبناء أنجبتهم زوجة أبي وواحد أنجبته أمّي، في حين لم تنجب أيّ منهما أيّ بنت وقتئذ، ولاحقا أنجبت زوجة أبي ابنتين، وأنجبت أمّي سبع بنات؛ لتكون خلفة أبي 21 شخصا، 12 ابنا، و 9 بنات.

      أنجبتني أمّي التي كانت “حردانة” في مغارة “بثغرة قصّاب” عند بداية منطقة الحرذان، حيث كان يسكن والداها في خشّبيّتين مسقوفتين بألواح الزّينكو، أمام حاجب حجريّ، حفر فيه جدّي لأمّي كهفا له مدخل طويل منحدر كرقبة جمل هرم، عندما أنجبتني كان والداها وبعض أخواتها وبقرة في المغارة. ولمّا خرجت إلى الحياة وأطلقت صرختي الأولى، فرحت بذلك جدّتي لأمّي كافية حميدان حسن شقير وقالت –كما روت لي أمّي-: “ولد يا أمينة ريته مبروك”، في حين عقّب جدّي “الله لا يردّك ولا يردّه”.

        لم تكن الولادة في المستشفيات معروفة بين الأهالي، وحتّى الدّاية القانونيّة لم تكن معروفة أيضا، وكانت بعض المسنّات يساعدن النّساء في المخاض، حيث كانت المرأة في المخاض تجلس القرفصاء على قدميها، تساعدها بعض النّساء الشّابّات قويّات البنية بأن يمسكن تحت إبطيها؛ لتبقى مرتفعة عن الأرض، حتّى تنجب وليدها، وهذه الطّريقة ربّما تتسبّب بسقوط رحمها؛ لتعيش ما تبقّى لها في مأساة! تبدأ بطلاقها، وباستغابتها سوءا من الآخرين رجالا ونساء! ومن تتعسّر ولادتها تموت؛ فترتاح من عذابات الدّنيا! لكنّ اللعنة تطارد وليدها الذي ماتت عند إنجابه! فيصفونه “بقاتل أمّه” ممّا يسبّب له أمراضا نفسيّة تصل إلى درجة الجنون. وفي السّتّينات كانوا يحضرون داية من بيت لحم اسمها “كاترين” للمرأة التي تتعسّر ولادتها، ونادرا ما كانوا ينقلون المرأة متعسّرة الولادة إلى المستشفى الحكومي “الهوسبيس” في القدس.

عندما علم والدي بأنّ أمّي أنجبت ولدا، أرسل عمّي الأكبر موسى صحبة المختار حسين ابراهيم شقير ليردّاها، غير أنّ جدّي لأمّي أصرّ على عدم ردّها حتّى يحضر زوجها بنفسه، وهذا ما حصل.

وأنا لا أزال أتساءل عن ولادتي وأمّي “حردانة” فهل كان هذا بداية شقاء لي ولوالدتي، أم هي الصّدفة؟

      أبي هو من اختار اسم جميل ليكون اسما لي، وهذا الاسم يحمله قبلي العمّ المرحوم جميل خليل السلحوت، المولود بدايات عشرينات القرن العشرين، ممّا أثار غضب والدته المرحومة عليا حسن مشعل شقيرات، فهدّدت بخنقي حتّى الموت! – لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ اطلاق اسم على مولود جديد يحمل اسم ابن سابق في العائلة، يعني أنّ حامل الاسم الأوّل سيموت-. فهل ولادتي جاءت شؤما على العائلة الممتدّة؟

   وهل كوني الابن رقم سبعة لأبي، يعني فأل خير، خصوصا وأنّ لهذا الرّقم دلالات دينيّة، ودلالات أخرى في الثّقافة الشّعبيّة؟ لكن بغض النّظر عمّا كان يعتقده جيل الآباء والأجداد فقد عشت طفولة شقيّة بالمقاييس كلّها، وهذا لم يكن مقصورا عليّ وحدي، بل هذا ما عاشه أبناء جيلي جميعهم، وإن بشكل متفاوت، فقد كان مولد شقيقي ابراهيم الابن البكر لأمّي، والسّادس لأبي مصاحبا لنكبة شعبي الفلسطينيّ في العام 1948، وما صاحب ذلك من تشريد حوالي 950 ألفا من أبناء هذا الشّعب من ديارهم هربا من ويلات الحرب، وما صاحبها من مجازر ارتكبت بدم بارد وبتخطيط من العصابات الصّهيونيّة، كمجازر دير ياسين، الطنطورة، الدّوايمة وغيرها، وجزء منهم لجأ إلى ما بات يعرف لاحقا بالضّفّة الغربيّة، وإلى قطاع غزّة. وهذه المناطق كانت تعيش على الاقتصاد العفويّ، المتمثّل بالزّراعة البعليّة التي تعتمد على مياه الأمطار غير المنتظمة، ومعروف أنّ دول شرق المتوسّط تحظى بمياه الأمطار التي تكفي للزّراعة البعليّة، خصوصا الحبوب، بمعدّل سنة من كلّ أربع سنوات. صاحب النّكبة أربع سنوات محل متتالية، 1948-1952م، ممّا جعل النّاس في ضائقة من العيش، ولولا مساعدات وكالة غوث اللاجئينUNRWA  والتّمور العراقيّة، حيث أنّ العراق ألغى تصدير التّمور، وحوّل انتاجه منها إلى مخيّمات اللاجئين، وما بات يعرف بمناطق الخطوط الأماميّة، أي المحاذية لحدود دولة اسرائيل التي قامت في 15 أيّار –مايو-1948 على 78% من مساحة فلسطين التّاريخيّة؛ لحصلت مجاعات أهلكت البشر.

وأنا ولدت بعد تلك النّكبة بعام واحد، أي في الأزمة الاقتصاديّة التي عمّت المنطقة. مع التّأكيد أن أسرتنا كانت ميسورة قياسا بالآخرين، فوالدي كان يملك أموالا وفّرها من عمليّات التّهريب بين الأردنّ وفلسطين زمن الانتداب، كما كان يملك مخزونا من القمح يكفي أسرتنا لأكثر من خمس سنوات، إضافة إلى قطيع من الأغنام الحلوب، كان عدده يتراوح بين 150-250 رأس غنم.

***

أيتام في حياة الوالدين:

           نظرا لسنوات المحل المتلاحقة، فقد رحل بعض مربّي الأغنام من عرب السّواحرة – ومن ضمنهم أبي- بأغنامهم إلى منطقة الكرك جنوب الضّفّة الشّرقيّة عام 1951، وبنوا خيامهم بجانب وادي الباذان قرب مضارب قبيلة الحمايدة الأردنيّة المعروفة، اصطحب والدي والدتي معه، تركاني أنا وشقيقي ابراهيم برعاية زوجة أبي-رحمها الله-، تركاني وأنا لم أكمل السّنة الثّانية من عمري، وشقيقي ابراهيم ابن السّنوات الثّلاثة، تركانا بلا والدين. أنجبت أمّي شقيقتي جميلة هناك، وعندما اغتيل العاهل الأردنيّ الملك عبدالله الأوّل في ساحات المسجد الأقصى في 20 تموز -يوليو-1951، عادوا إلى البلاد بعد مضايقات من أبناء المنطقة؛ بسبب اغتيال الملك. وكما أخبرني والداي لاحقا فقد تركانا من باب الحرص علينا؛ كي لا نتحمّل مشاق السّفر مشيا على الأقدام لمسافات بعيدة، ولكونهم لا يعرفون أين سيكون المستقرّ! فهم بدو رحّل يتنقلون من مكان لآخر طلبا للعشب والماء.

ولكم أن تتصوّروا حياة طفلين بهذا العمر يتركان كالأيتام بلا أب وبلا أمّ، صحيح أنّ زوجة أبي رعتنا، لكن لا أحد يغني طفلا عن حضن والدته.

***

رعاية الأطفال:

       لم تكن أيّ رعاية للأطفال وقتذاك يمكن ذكرها، كان “السماط” ظاهرا على من كانوا لا يستطيعون قضاء حاجتهم خارجا، علاج السّماط المتعارف عليه كان عبارة عن تراب أحمر ناعم بدل البودرة، وكان التّراب يلتصق بجلودهم الغضّة فيسلخها دون رحمة.

 من الغريب أنّهم كانوا يلفّون الطفل الوليد بقطعة قماش “لفاع” يثبّتونها بقماط يلفّونه على الطفل، لا يتركون من جسده ما يظهر أو يتحرّك سوى رأسه، ويستمرّ على هذا الحال حتّى يحبو وينجو بنفسه. كانوا يعتقدون أنّ الطفل الذي لا يُلفّ بهذا “اللفاع” سيكبر كسيحا أو برجلين معوجّتين في أحسن الأحوال!

أمّا علاج من يمرض من الأطفال ومن الكبار فكان يتراوح بين الجعدة المغليّة وهي نبتة شديدة المرارة، وبين الكيّ بالنّار على البطن. وبطني لا يزال مليئا ببقايا تلك النّيران التي عولجت بها!

ومن علاج الأطفال عندما يصابون بالحصبة أو السّعال الدّيكيّ أنّهم كانوا يسقونهم ملعقة من حليب أتان “حمارة”.

   ومن الأمور التي لا تصدّق أنّهم كانوا يكوون الطفل الرّضيع على نافوخه، عند الحدّ الفاصل بين عظم الجمجمة وعظم الرّأس، حيث لا يكونان متّصلين عند الولادة، كانوا يعتقدون أنّ هذا الفراغ لا يلتحم إلّا بالكيّ! وكان أخي طه-رحمه الله- وهو الابن الخامس لأبي آخر من كووه على نافوخه في الأسرة، ومن حظّ البنات أنّهنّ لم يخضعن للكيّ على النّافوخ، ولا أعلم كيف انتهت تلك العادة.

     كما كانوا يكوون الطفل بمسلّة حديديّة تحت لسانه”، ويعتقدون أنّ من لا يُكوى سيكبر أخرسا! وقد حميت أبنائي من “اللفاع” ومن الكيّ تحت اللسان أو على أيّ مكان في الجسم، ومن “بودرة التّراب الأحمر”، وخاصمتني والدتي -رحمها الله- بسبب ذلك، وكلّهم كانوا ينتظرون أنّ ابني البكر المرحوم “قيس الأوّل” المولود في 20-4-1978سيكبر بساقين معوجّتين، وأخرس أيضا. بدأ قيس الكلام وهو في شهره الرّابع، ثمّ حبا في الشّهر السّادس، ومشى بعد أن أنهى عامه الأوّل، وقلّدني كثيرون بعد ذلك، حتّى انتفت هذه العادة بشكل شبه كامل مع بدايات القرن الحادي والعشرين.

    من عادات تلك المرحلة هي “تبخير” الأطفال الذّكور لحمايتهم من العين الحاسدة! أمّا البنات فإنّهنّ لا يتعرّضن للحسد! وكانت الأمّهات والجدّات تملأ الواحدة منهنّ يدها بالملح، وتحوم بها حول الطّفل وهي تردّد تعويذات معيّنة، ومن تلك التّعويذات التي كنت أسمعها من والدتي وجدّتي:

“مين دار لك باله، يشغل باله في حاله

 كرشته غطا عينيه

 مانيش أقدر من ربّي عليه

 عين الحسود فيها عود

 وبكره ياكلها الدّود،

دخيلك يا ربّي.”

 

ومن تلك التّعاويذ أيضا:

“حوطتك بالله من عين خلق الله

من عين إمّك ومن عين أبوك

ومن عين عمتك ومن عين أختك

ومن عين الجيران ومن عين اللي حسدوك

عين الصّبي فيها نبي

عين الذّكر فيها حجر

عين الحسود فيها عود

وعين الجار مقلوعة بنار”

وأحيانا كانت الأمّ أو الجدّة منهن تشعل طرف ردنها وتبقيه مشتعلا كما السّيجارة، وتضعه أمام أنف الطّفل ليستنشق الدّخان المتصاعد منه، وهي تقرأ بعض التّعاويذ، ثمّ تأخذ الرّماد بين اصبعيها وتدهن به جبين الطّفل.

كانوا يضعون على فراش الطّفل بعض الأشياء كرقية تحميه من العيون الحاسدة! ومن هذه الأشياء:” كفّ فضّي صغير عليه كلمات من القرآن، خرزة زرقاء، شبّة بيضاء، قرنفل، أدوات مهملة وقديمة كالأحذية المهترئة، حذوة فرس، وأحيانا حافر حمار .

  لم يكن حليب الأطفال معروفا لدى الأهالي في تلك المرحلة، وكذلك “الحفّاظات”، ومن لم يكن يرتوي من حليب أمّه كانوا يسقونه من حليب الأغنام.

تطعيم الأطفال ضدّ الأمراض الشّائعة ما كانوا يعرفونه أيضا، لذا فنسبة الوفيات كانت مرتفعة بين الأطفال، كذلك كانت هناك حالات شلل بين الأطفال، ويبدو أنّ فاقد الشّيء لا يعطيه، فلم تكن هناك رعاية صحّيّة للكبار ولا للصّغار، ومن يموت في أيّ مرحلة عمريّة، يردّون سبب وفاته للعين الحاسدة أو للقضاء والقدر-انتهى عمره-! وكانت هناك ظاهرة “الطّبّ الشّعبيّ” حيث وُجد من كانوا يجبّرون الأغنام التي تكسر إحدى قوائمها، وهؤلاء من كانوا يجبّرون الأطفال الذين تكسر إحدى أيديهم أو أرجلهم، بطريقة تجبير الأغنام نفسها، وقد تسبّب ذلك بأن خسر البعض يده أو رجله بالبتر على أيدي الأطبّاء في المستشفى الحكومي”الهوسبيس” عندما ينقلونه إليه بعد أن يصاب “بالغرغرينا”، ويشرف على الهلاك. والبعض كان يموت دون أن يصل إلى المستشفى، ولا مكان للتّشكيك بقدرات “المجبّر” الذي يشهدون له بالقدرات الخارقة، بدلالة أنّه قام بتجبير أغنام وشفي كسرها!

         وقد شاهدت بأمّ عيني في طفولتي عمليّة خصي وحشيّة لجحش وليد كانوا يريدون تربيته ليكون “قائدا” لقطيع الغنم مع “المرياع” المخصيّ أيضا. فقد بطحوا الجحش الذي لم يتجاوز عمره أسبوعين، ثبّتوه ثمّ ربط “الطّبيب” خيطا صوفيّا على خصيتيه اللتين ضغطهما حتّى النّهاية، وفرزهما بشفرة حلاقة صدئة استعملت عشرات المرّات، فرز كيس الصّفن واستخرج الخصيتين! والجحش المغلوب على أمره يئنّ ألما، ولمّا انتهوا من ذلك، أوقفوه على قوائمه. بقي المسكين واقفا مكانه، فاردا قائمتيه الخلفيّتين دون حراك لعدّة أيّام دون أن يستطيع رضاعة أمّه، حتّى خرّ صريعا! جرّوه بعيدا لعدّة عشرات من الأمتار؛ ليكون فريسة للكلاب.

وممّا شاهدته في طفولتي أنّهم كانوا يكوون من يشكو من البالغين وجعا في بطنه بمنجل على كعبي قدميه على شكل صليب، بعد أن يضعوا المنجل في النّار حتّى الاحمرار. كما شاهدتهم يكوون من يشكو ألَما في مفاصله أو في عموده الفقريّ، يكوونه بعشبة جافّة يسمّونها “القَدْحة”، يضغطون أوراقها الجافّة المبلولة ببصاق أحدهم على شكل مخروط بارتفاع يصل إلى 2 سم أو يزيد، ثمّ يشعلونها فتشتعل ببطء كما السّيجارة، حتّى تنتهي بعد ما لا يقل عن ربع ساعة، وتحفر في نهايتها جلده، وتتقرّح لأيّام عديدة، حتّى يجفّ مكان الحرق دون علاج، وليبقى مكانها ظاهرا على جسده مدى حياته.

***

الحِذْل:

      لا أعرف من أين أتت هذه الكلمة، فالجذر اللغويّ لِـ “حذل لا يدلّ على المصطلح، فقد جاء في لسان العرب “الحَذَل مُثَقَّل في العين حُمْرةٌ وانْسِلاقٌ وسَيَلانُ دمع، وانسلاقُها حُمْرةٌ تعتريها”حَذِلت عينه حَذَلا فهي حَذْلاء وأَحْذَلها البكاء أو الحَرُّ” وجاء في مختار الصّحاح:” الحُذْلُ بوزن القُفْلُ حاشية الإزار.”

لكنّ “الحِذْلَ” الذي نتكلّم عنها كان عبارة عن نَوْل بطول وعرض متر تقريبا، وأحيانا كانوا يستعملون كيس خيش بدل النّول، ثمّ يوضع عند طرفيه جديلة من حبل توثق على جانبين متقابلين منه، ثمّ يربط بحبل من كلّ اتّجاه ويربط بشعبة من أعمدة بيت الشَّعَر من طرف، وبواسط البيت من الطّرف الآخر، وفي البيوت الحجريّة كان يربط بوتدين مثبّتين بحائطين متقابلين من الغرفة، ويوضع فيه الطّفل مرتفعا عن الأرض، يحرّكون هذا “الحِذِل” يمينا ويسارا، حتّى يسكت الطّفل الباكي وينام، وكانوا يضعون خشبة لتفتح “الحذل من عند رأسه، كي لا تضغط كثيرا على وجهه وكتفيه.

وعندما كان طفل يهزّ هذا الحذل بأخته أو أخيه الصّغير، كان يهزّه بقوّته كلّها ممّا يجعل الطفل معلّقا في الهواء، وقد يتعرّض للسّقوط على الأرض.

ومن الأمور الفظيعة التي حصلت جرّاء هزّ الحذل بقوّة، أنّ جدّا في بدايات ستّينات القرن العشرين كان يهزّه بحفيدته التي كانت بعمر حوالي ثمانية أشهر، كانت تحبو، ويبدو أنّها سقطت من الحذل، أو ارتطمت بقوّة بحائط الغرفة، فما عادت تتحرّك ولا تحبو، وبقيت دائمة البكاء، جسمها يذوب كشمعة تحترق، دون أن يأخذها أحد للطّبيب! وعندما وصل عمرها إلى حوالي الرّابعة، وصف لهم “مشعوذ” علاجا للطّفلة، وذلك بأن يحمّموها أربعين يوما مع صلاة الفجر! أي في ساعات الصّباح الأولى قبل شروق الشّمس في واد الدّيماس، أي في سيل مياه المجاري! لتخرج منها النّجاسة التي حلّت بها؛ لأنّ امرأة نفساء أو حائضا قد مرّت فوق الطفلة! وعندما مشت البنت تبيّن أنّها مصابة بكسر في العمود الفقريّ من بين الكتفين، والتحم عمودها الفقري بشكل غير صحيح، حيث كان بارزا كانتفاخ ظاهر بين كتفيها، على حساب عنقها الذي ظهر قصيرا بشكل لافت، وبقيت تعاني إلى أن توفّيت وهي في الأربعينات من عمرها.

***

النّظافة:

       كانت النّظافة معدومة، والمثل الشّعبيّ “صابون العرب لحاها” كان سائدا، بعضهم كان ينظّف يديه بعد أكل المنسف بأن يفركهما بالتّراب، والمحزن أنّهم كانوا يغسلون الخضار المرويّة بمياه واد الدّيماس كالفجل، بمياه المجاري السّائبة في الوادي؛ ليزيلوا الوحل الملتصق بها، ثمّ يأكلونها ويطعمون الأطفال منها، كانت معداتهم وأمعاؤهم تمتلئ بالدّيدان، ممّا يستدعي أن يتوجّهوا إلى بناية في الشّيخ جرّاح قريبة من “الكولونيّة الأمريكيّة”، حيث كانت تعمل ممرّضات أجنبيّات؛ ليشربوا زيت الخروع، مضافا إليه بعض القطرات، فتنزل منهم عشرات أو مئات الدّيدان الطويلة “الاسكارس” التي يتراوح طول الواحدة منها بين 10-20سم. أمّا الخضار الأخرى التي تنمو فوق سطح الأرض كالقرنبيط، الباذنجان، السّلق، السّبانخ والسّبانخ فلا داعي لغسلها!

ومن المحزن أنّ الأطفال كانوا يلتقطون” Male condom “بالونات الواقي الذّكري من مياه واد النّار، ينفخونها ويلعبون بها أمام الكبار، ظّنّا من الكبار والصّغار أنّها بلالين سقطت من أطفال المدينة في المجاري.

***

  انتعال الأحذية:

          كان الرّجال ينتعلون البساطير المستعملة التي تباع في سوق الخردوات “الباشورة” أو صندلا نعله من الكاوتشوك الذي يستعمل في إطارات السّيّارات، ونادرا ما كان المرء يرى رجلا ينتعل “الكندرة”،

أمّا النّساء والأطفال فكانوا في غالبيّتهم حفاة، وحتّى بداية خمسينات القرن العشرين كانوا يستعيرون للعروس يوم زفافها حذاء موجودا في بيت المختار، تنتعله بغضّ النّظر إن كان على مقاس قدمها أم لا، وصباح اليوم التّالي يعيدونه إلى بيت المختار مع علبة حلقوم.

***

الملابس:

          أمّا الأطفال قبل دخول المدرسة فقد كانوا حفاة، يرتدي الواحد من الأبناء ثوبا وأحيانا فوقه قمباز، دون ملابس داخليّة. أمّا البنات فكانت يُخاط للواحدة منهنّ قميصا كيفما تيسّر يغطّي جسدها كاملا، وملابس داخليّة أيضا، وإذا كان أبواها ميسورين فقد تطرّز لها والدتها ثوبا كما البالغات، لكن بطيّة واحدة.

 عند دخول المدرسة كان البنون ينتعلون صندل “الكاوتشوك”، في حين تنتعل البنات “الوطا” وهو شبيه البسطار لكن نعله من الكاوتشوك. وعلى الطفل أن يحافظ عليه لعام دراسيّ واحد. تماما مثل بنطال وقميص”الكاكي” اللباس الموحّد للتّلاميذ حتى نهاية المرحلة الاعداديّة، وقبل انتهاء العام الدّراسي تكون “الرّقع” مختلفة الألوان قد غطّت البنطال والقميص، وكأنّها هي الأصل، أمّا البنات فكنّ يرتدين المريول المدرسيّ الموحّد، والذي يمتدّ من عنق الواحدة منهنّ حتّى قدميها، وتغطّي رأسها بمنديل، أمّا بناطيل البنات فلم تكن معروفة. وعندما ينتهي دوامهنّ المدرسيّ كنّ يستبدلن المريول بالقميص. في حين كان الأبناء يخلعون بناطيلهم، ويبقون بالسّروال الذي يصل الرّكبة، والمفصّل من قماش”المالطي” السّميك، – ثمن الذّراع منه قرش أردنيّ واحد- وكان البعض يخيطون سرواله من خريطة الطّحين الأمريكي الذي كانت توزّعه وكالة غوث اللاجئين على المخيّمات والقرى الأماميّة

–        الواقعة على الحدود-، والمكتوب عليه بالعربيّة والانجليزيّة “هديّة من شعب الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ليست للبيع أو المبادلة”.

      عندما تزوّج أخي الأكبر محمّد في ربيع العام 1955، اشتروا لي مع كسوة العروس “قمبازا وثوبا” كوني الابن الأصغر “المدلّل” بين الذّكور! وكانت تصغرني أربع بنات، اثنتان أنجبتهما أمّي، واثنتان أنجبتهما زوجة أبي، اشتروا لكلّ واحدة منهنّ قماشا لتخيطه لها والدتها قميصا. – كانت إحدى نساء القرية تملك ماكنة خياطة صغيرة من طراز “سينجر” تضعها على الأرض، ولها يد تديرها الخيّاطة بيدها.

***

كيف فقدت عيني؟

        أثناء سهرة زفاف أخي الأكبر محمد، وابني عمّي اسماعيل موسى في ربيع العام 1955، بنوا بيتا من الشّعَر للرّجال قرب بيتنا، كانت الإضاءة “فنيارا” حيث لم تكن الكهرباء قد وصلت البلدة،- تمّ ربط البلدة بالكهرباء عام 1971-  كنت أجلس في حضن أبي، بينما نصبوا السّامر والدّبكة الشّعبيّة أمام بيت الشَّعَر، وبقرب المكان يوجد حاجب حجريّ، يقفز الأطفال عنه، يلعبون ويتمازحون، فرمى أحدهم حجرا على آخر، فأصابني الحجر فوق حاجبي الأيسر، آلمني الحجر، ولم تنزل دماء، وما أن أصابني الحجر حتّى قفزت من حضن أبي وهجمت على الطفل الذي  رمى الحجر، وهو يكبرني بعامين، أمسكت به وأنا أصرخ باكيا: “لقد خلعت عيني”، أبعدونا عن بعضنا البعض.

كان الشّباب يطلقون الرّصاص من مسدّس، سقطت منه رصاصة على الأرض، فوضع أحدهم قدمه عليها كي يأخذها ليطلقها هو بنفسه، أتوا بالفنيار وبحثوا عن الرّصاصة، ولم يجدوها، فقمت من حضن أبي وقلت لأخي العريس:

الرّصاصة تحت حذاء هذا الرّجل.

تعجّب الحضور لأنّي رأيت الرّصاصة، علما أنّ المسافة بيني وبينها كانت أقلّ من خمسة أمتار.

صباح اليوم التّالي أي يوم الزّفاف، استيقظت وعيني اليسرى مغلقة لدرجة الالتحام بالقذى، تؤلمني ولونها أحمر، فشخّصوا الحالة بأنّها “حسد”؛ لأنّني رأيت الرّصاصة! وعالجوني بالبخّور والتّعاويذ! ولما ازدادت الحالة سوءا، أعادوا التّشخيص وقالوا بأنّني مصاب بالرّمد الذي كان منتشرا بين الأطفال نتيجة الأوساخ وانعدام النّظافة. بدأ العلاج بأن تحلب امرأة مرضع من ثديها عدّة قطرات حليب في عيني! لكنّ الوضع لم يتحسّن، فأحضروا حليب حمارة مرضعة وقطّروني منه أيضا! يضاف إلى ذلك “التّبخير” وقراءة التّعاويذ! ولمّا لم تتحسّن الحالة اصطحبتني جدّتي لأمّي إلى “فتّاحة” في قرية العيزريّة، كانت امرأة مسنّة. عندما دخلنا بيتها كان ابنها الشّابّ يحمل أرنبا من أذنيه، يريدون ذبحه ليأكلوه، فقالت لجدّتي:

إذا صرخ الأرنب فستشفى عين حفيدك! وأشارت لابنها الذي يحمل الأرنب، ففرك أذني الأرنب الذي صاح ألما، فقالت المرأة:

 سيشفى حفيدك بإذن الله، لكن يلزمه علاج.

فسألت جدّتي: ما العلاج؟

فأجابت الفتّاحة: العلاج متوفّر بكثرة لديكم!

–        ما هو؟

–        خراء حرذون!

فسألت جدّتي متعجّبة: خراء حرذون؟

–        نعم خراء حرذون، فالحراذين مؤمنة! ألا ترونها تصلّي؟

–        وكيف سنعرف خراء الحرذون؟

–        عندما يخرج الحرذون للصّلاة دعوا ولدا كبيرا يضرب عليه حجرا! عندها سيهرب إلى جحره، وهناك ستجدون خراء كثيرا.

دار هذا الحديث على مسمع ومرأى منّي أنا الطفل الذي لا حول ولا قوّة لي، بين تلك المرأة وجدّتي، دفعت جدّتي لها مبلغا من القروش لا أعرف عدده، لكنّه بالتأكيد لن يزيد عن عشرة قروش أردنية، وخرجنا من عندها عائدين إلى بيتنا مشيا على الأقدام كما ذهبنا.

     في البيت صدرت الأوامر للفتيان بإحضار خراء حرذون، ولمّا أحضروه تمّ تثبيتي على الأرض أنا الطّفل الذي لم أكمل عامي السّادس، لم يرحموا طفولتي ولم ينقذني بكائي وصراخي، كانت حرّيّتي وحركتي مغتصبة، وضعوا في عيني براز الحرذون المخلوط بالتّراب، نهروني عن البكاء كي لا يخرج “العلاج” مع الدّموع! كان التّراب يدور في عيني ويؤلمني كلّما رفّ جفناي، نزلت دماء من عيني، وهم يحمدون الله ويشكرون “الفتّاحة”؛ لأنّ الشرّ يخرج من عيني!

           استمرّ “العلاج” حوالي شهر، فازدادت حالة عيني سوءا، ازداد الاحمرار فيها، تورّم جفناي، عندها قرّروا اصطحابي إلى مستشفى العيون “الدريجات” في سوق الحصر في القدس القديمة مقابل سوق البازار.

كان أبي أو أخي العريس محمد يردفني خلفه على بغلتنا الشّهباء، بعد أن تلبسني أمّي –رحمها الله- “القمباز”! يربط البغلة في خان للدّواب في باب السّلسلة، نمشي إلى المستشفى، وفي زيارتنا الأولى للمستشفى سأل طبيب عربيّ- تعرفت عليه لاحقا بعد أن كبرت، وكان شخصيّة وطنيّة بارزة- عمّا جرى لعيني؟

فأجبته: فلان ضربني حجرا في سهرة عرس أخي، وذكرت له اسم الولد، وأشرت إلى المكان الذي أصابه الحجر، غير أنّ أبي – رحمه الله- نفى ما قلته، وأكّد أنّني مصاب برمد لا يعرف سببا له! عرفت سبب نفيه لروايتي، وعدم قوله الحقيقة للطبيب لاحقا عندما كبرت، فقد كانت الشّرطة الأردنيّة تريد فرض القانون وفرض هيبة الدّولة، فعمّمت على المستشفيات بضرورة تبليغ الشّرطة عن أيّ إصابة بسبب مشاجرة تصل المستشفيات، فتعتقل طرفي المشاجرة وتعاقبهم بالضّرب والسّجن وفرض الغرامات الماليّة، وأبي يردّد:

كيف سنكون سببا في اعتقال من جاؤوا؛ ليشاركونا فرحتنا؟ وواضح هنا أنّه لم يكن تمييز بأنّ الجاني طفل لم يتجاوز الثّامنة من عمره ولا يمكن اعتقاله.

     عندما كان الطّبيب يعود لروايتي كان يقول: إذا كان كلام الولد صحيحا، فربما جرى نزيف داخليّ على عصب العين، وهذا أمر سهل، نستطيع سحب الدّماء من عصب العين، فتضعف الرّؤية فيها لعدّة أيّام، لكنها لا تلبث أن تعود ثانية، وإذا تركناها سيتجمّع النّزيف وستتجمّد الدماء النّازفة، وسيفقد الولد عينه، غير أنّ أبي بقي على اصراره، ولم يجد كلام الطبيب آذانا صاغية من أبي أو أخي الأكبر.

تردّدنا على المستشفى لأكثر من شهرين، بشكل شبه يوميّ دون جدوى، بعدها قرّر الأطبّاء أن أرقد في المستشفى لاجراء عمليّة جراحيّة.

في المستشفى وضعوا لي سريرا في غرفة واسعة، يرقد فيها ستّة مرضى عجائز، أعطوني منامة “بيجاما” ففرحت بها كثيرا وأنا لا أدرك ما أنا فيه، ولا ما ينتظرني. كانت وحدة الحمّامات خارج الغرفة، ثلاثة مراحيض أمامها مسافة تزيد على المتر، فيها مغسلة ويحيط بها سور له بوّابة حديديّة تغلق بزند من الخارج. كانت مهمّتي أن أقود المرضى العجزة في غرفتي إلى الحمّام ليل نهار. وذات ليلة كلّما غفوت كان يقوم أحدهم وهو عجوز كفيف، يخزني بعصاه كي أستيقظ وأقوده إلى الحمّام، وأنتظره حتّى أعيده إلى سريره، كرّر ذلك مرّات عديدة في ليلة واحدة، فقدته وأنا غاضب، وتصرّفت تصرّفا صبيانيّا، حيث أغلقت عليه الباب الرّئيس لوحدة المراحيض بالزّند من الخارج، وعدت إلى سريري لأنام على أمل أن أعود له بعد ساعة، لكنّ سلطان النّوم سيطر عليّ حتّى الصّباح والرّجل ينادي دون مجيب، وعند الصّباح فتح له أحدهم الباب وهو يشتم ويتوعّد، فخفت منه وهربت من سريري واختبأت تحت سريره، عندما دخل الغرفة اتّجه إلى سريري وانهال عليه ضربا بعصاه وسط شتائم مقذعة، ظنّا منه أنّني في السّرير، ولمّا تأكّد من عدم وجودي أخذ يبحث عنّي بعصاه تحت سريري، ولمّا جاء الأطبّاء والممرّضات، ضحكوا ممّا فعلت، وأخرجتني ممرّضة اسمها “ليلى” من تحت سريره، حملتني بحضنها وهي تقبّلني ضاحكة.

مكثت في المستشفى سبعة وعشرين يوما، عملوا لي الجراحة في الأسبوع الثّاني لرقودي في المشفى، كانوا يغيّرون لي اللفّافة التي على عيني يوميّا بعد أن يغطّوا عيني اليمنى بضمّادة مع أوامر بعدم فتحي لعينيّ.

في هذه الأثناء حاولت ببراءة طفولتي أن أهرب من المستشفى، كي تبقى لي المنامة “البيجاما”، وتركت لهم “القمباز”، وأثناء محاولتي فتح البوّابة الرّئيسة للمستشفى، رآني ممرّض ولحق بي، بقيت أركض حتّى وصلت “بير أيّوب” في سلوان” حيث أمسك بي أحد أبناء البلدة الذي كان يملك بقّالة في المكان، وسلّمني للممرّض الذي انهال عليّ ضربا، لم أوافق على الرّجوع معه، فكان يحملني بين يديه، وعندما يتعب يجلس ليستريح، وينهال عليّ ضربا من جديد.

وفي اليوم السّابع والعشرين، سقطت الضّمادة عن عيني، ففوجئت بأنّني لا أرى فيها شيئا، أخبرت الطبيب والممرضة بذلك وأنا أبكي، وبكت معي الممرّضة ليلى فقد أشفقت عليّ، أعادوا تغطية عيني مرّة أخرى، وبقيت أبكي حتّى وصل أخي محمّد، فنزعت الضّمادة لأريه عيني، ولمّا رآها وقد اكتست بالبياض، غضب وشتم الأطبّاء والعاملين في المستشفى وأعادني معه إلى البيت.

    رضيت مرغما بالمصيبة التي حلّت بي، رغم الآلام الجسديّة والنّفسيّة التي صاحبتني لسنين طويلة، وكلّما حاولت الابتعاد عنها ونسيانها كانوا يذكّرونني بها من خلال حنان الجهل والهبل.

             في صيف العام 1979 عادت عيني تؤلمني، فذهبت إلى مستشفى العيون في حيّ الشّيخ جراح في قدسنا الذّبيحة، فقرّر الأطبّاء استئصال عيني، واستبدالها بعين زجاجيّة اصطناعيّة، وبعد العمليّة التي جرت بتخدير موضعيّ، جاء الطبيب الجرّاح يحمل في يده وعاء زجاجيّا بداخله جسم أسود داكن شبه دائريّ، على شكل قطعة معدنيّة حادّة الأطراف، حمله بين اصبعيه السّبّابة والابهام وهو يقول: هذا دم متجمّد لدرجة التّحجر في عينك، بسبب نزيف دمويّ قديم كان سببا في خسارتك لعينك. وهو الذي كان يؤلمك في هذه المرحلة. أمسكته بيدي، تحسّسته وأعدته إليه دون كلام.

***

الختان:

         في طفولتنا لم يكن ختان الذّكور يتمّ بعد الولادة مباشرة كما هو الحال في زمننا هذا، لأنّ الأمّهات كنّ ينجبن في البيوت، وكان “المطهّر” الذي كانوا يلقّبونه “بالشّلبي” حلّاقا يقصّ شعور الرّجال، ولا علاقة له بالطّبّ ولا بالتّمريض، ويتمّ الختان بشكل جماعيّ لأبناء العائلة والجيران، وربّما الحامولة، وينتظرون المرأة الحامل حتّى تلد، على احتمال أن تنجب ابنا ذكرا، ولا أزال وسأبقى أذكر يوم ختاني بشكل دقيق، فبعد خروجي من مستشفى العيون، جرى ختاني أنا وشقيقي ابراهيم الذي يكبرني بعام، وأخي طه الذي يكبرني بعامين، وابن عمّي صالح الذي يصغرني بأربعين يوما، وأحد أبناء الجيران الذي يكبرني بعامين، حيث جاؤوا بالحلّاق “أبو داود أبو غزالة” من القدس، أولموا شاة، اجتمع عدد من الأعمام والأخوال وبعض الأقارب، ألقوا القبض علينا وحشرونا في غرفة بعد أن ألبسونا ثيابا جديدة، كنّا نبكي لأنّنا مدركون تماما لما سيحدث، يخرجنا أحدهم واحدا تلو آخر إلى البرندة المكشوفة حيث يجلس الرّجال، يثبّت الواحد منّا أكثر من رجل، ويقوم الحلاق بعمليّة الختان، ومن يُختن ينقلونه إلى غرفة مجاورة، يسلّمونه لأمّه، التي تحتضنه بحنان زائد وتهدّئ من روعه، كما فعلت معي أمّي، في حين احتضنت جدّتي لأمّي شقيقي ابراهيم، في ذلك اليوم كنت أصغر اخوتي المختونين عمرا، وكان عمري خمس سنوات وبضعة أشهر. بعد الختان ببضعة أشهر التحقت بالمدرسة، في حين كان أخواي طه وابراهيم وابن الجيران قد أكملوا عاما دراسيّا كاملا.

***

إلى المدرسة

      في تلك المرحلة كانت مدرسة السّواحرة الغربيّة الابتدائيّة للبنين تتكوّن من غرفتين مقامتين على أرض تملكها الأوقاف الاسلاميّة، وتستأجر أربع غرف مقامة بجانب بعضها البعض يملكها المرحوم الحاج عطيّة حسن عبده، الذي تبرّع بماء بئره الواقع بجانب المدرسة؛ ليشرب منه الطلاب، كما استأجروا غرفة أخرى من المرحوم حسين قاسم أبو دهيم، جرى هدمها وبناء بيت مكانها في ثمانينات القرن العشرين، في تلك الغرفة كان يدرس طلاب الصّفّ الأوّل الابتدائيّ، خرجت من مستشفى العيون مع افتتاح العام الدّراسيّ 1955-1966، لم أجد أطفالا ألعب معهم، فكنت أذهب مع أخي المرحوم طه، الذي كان راسبا في الصّفّ الأوّل، يدخل تلاميذ الصّف إلى الفصل، وأبقى أنا على النّافذة التي عليها شباك حماية حديديّة، لم يقبلوني في المدرسة؛ لأنّني لم أبلغ السّابعة حسب القانون وقتذاك.

    المعلّم يدرّس التّلاميذ كلمات عربيّة حروفها غير متشابكة حسب كتاب “القراءة” لمؤلّفه المربّي خليل السّكاكيني مثل “راس- روس، دار- دور” ويركّز على الحروف ليتعلّموها، فحفظوا الحروف والكلمات من كثرة التّكرار، عندما كان المعلّم يقدّم حرفا أو يؤخّر حرفا آخر يلتبس الأمر عليهم ولا يعرفون الحروف، بينما كنت أجيب على أسئلته دون استئذان من خارج الشّبّاك، كان يطردني، ويخرج من الصّفّ محاولا الامساك بي، لكنّني كنت أهرب، حتّى يعود إلى الصّفّ، فأعود إلى مكاني عند الشّبّاك، وذات يوم عكس حروف الكلمات ليسأل عن الحروف، فأجبته بكلمات صحيحة حيث أجبت:” سار، سور، راد رَوَد” فانتبه لي وابتسم وهو يشتمني. وفي اليوم التّالي وكانت بداية شهر تشرين الثّاني –نوفمبر- علّم التّلاميذ جدول الضّرب للعدد “2” وطلب منهم أن يحفظوه، وفي اليوم التّالي جاء أغلبيّتهم وقد حفظوه بالتّرتيب، فسأل:

2×7 ولم يعرف الإجابة أيّ طالب، فأجبت أنا 14، وعاد فانتبه لي وسألني:

2×11 فأجبته 22، وواصل سؤاله لي: 2×15 فأجبته 30، وسأل مرّة ثالثة 2×50 فأجبته 100، فابتسم وشتم من خلفوني وهو يقول” الله يجعلك مية قطمة انت وللي خلفوك”، في حينها تعلم التّلاميذ 2×10، وما بينهما.

 كان الجوّ عاصفا وباردا، يتساقط رذاذ المطر، أشفق المعلّم عليّ، وأخبر مدير المدرسة المرحوم محمد خليل حمادة من قرية صورباهر المجاورة، فقال له:

أدخله إلى الصّفّ مع التّلاميذ، فإن نجح سنسجّله في نهاية العام الدّراسيّ، وهنا تدخّل جارنا المعلم المرحوم محمّد حسين جوهر وقال للمدير وللمعلّم:

هذا الطفل الأذكى في حارتنا، وبالتّأكيد سينجح .

    عندما سمح لي المدير أن أدخل إلى الصّف، طرت فرحا، لم تعد الدّنيا تتّسع لي، دخلت الصّفّ مختالا كالطّاؤوس، لأكون التّلميذ رقم 63 في غرفة صفّيّة لا تصل مساحتها 25 مترا مربّعا، والمقاعد الخشبيّة كانت متراصّة لا ممرّات بينها، في حين المقاعد الأولى منها كانت ملتصقة باللّوح، بينما توجد مساحة لا تزيد عن متر يقف فيها المعلّم. لم يكن لي مكان للجلوس، أمضيت عامي الدّراسيّ واقفا، مستندا على جدار الغرفة،  بجانب أخي وعلى يساري شبّاك، وعندما يطلب المعلّم منّا كتابة شيء، كنت أضع دفتري على عتبة الشّبّاك وأكتب، وبتعليمات من المعلّم أصبحت شريكا لأخي في كتاب القراءة الذي استلمه من المدرسة، وعليه أن يعيده لها في نهاية العام الدّراسيّ؛ ليتسلّمه غيره في بداية العام الدّراسيّ القادم! كانت تحصل مشاجرات كثيرة يوميّا بين التّلاميذ بسبب الازدحام، فكلّما التطم طالب بآخر بشكل عفوي، يردّ عليه الثّاني بصفعة، وهكذا، دون أن يستطيع المعلّم فكّ المتخاصمين لأنّه لا يستطيع الوصول إليهم.

 المعلّمون يحمل كلّ واحد منهم عصا بيده، يضرب بها التّلاميذ بسبب ودون سبب، معلّم الصّف الأوّل الابتدائيّ موسى الحسيني –رحمه الله- كان رجلا مسنّا أشيب، يضع حطّة وعقالا على رأسه، يحمل في يده عصا لا يزيد طولها عن 30 سم، كان حريصا جدّا على تعليم التّلاميذ، ومن يرتكب منهم مخالفة يُعاقب بالضّرب بنعومة على راحة يده، وكأنّي بذلك المعلّم يؤمن بضرورة التّاديب لكن دون عنف. في حين كان معلّمون آخرون يضربون التّلاميذ بقسوة ودون رحمة وبطرق عجيبة، أذكر أنّ معلم اللغة العربيّة للصّفّ الرّابع قد علّمنا ضمائر الرّفع المنفصلة، وكتبناها في دفاترنا، وفي اليوم التّالي سأل: من حفظها منكم ومتأكّد أنّه لن يخطئ يبقى مكانه، ومن لم يحفظها ليخرج كي يتلقّى أربع عصيّ على راحتي يديه، ومن بقي مكانه وثبت أنّه يخطئ بها سيجلد ثماني عصيّ، فخرج تلاميذ الصّفّ جميعهم، ضربنا وسط شتائم مقذعة، وعندما عدنا إلى مقاعدنا، طلب من البعض وكنت أوّل من طلب منه أن أسمّعها، فذكرتها جميعها دون أيّ خطأ، فسألني غاضبا:

لماذ لم تبق في مقعدك وخرجت للضّرب ما دمت حافظا لها؟

فأجبته: خوفا من العقاب المضاعف.

فزمجر الرّجل غضبا، وضربني ضربتين أخرتين؛ لأنّني لا أعرف أنّي أعرف! وهذا ما فعله مع عدد آخر من التّلاميذ!

لم يكن الضّرب مقصورا على راحتي اليدين فقط، فقد كان بعض المعلّمين يجلدون التّلاميذ “فلقة” على باطن قدميهم، أو يجلدونهم على قفاهم!

في الصّفّ لم أعد أرفع إصبعي عندما يسأل المعلّم، ولم أعد أجيب على أيّ سؤال إلا إذا طلب المعلّم ذلك منّي بالاسم.

لم يكن للمدرسة حمّامات، وكان الطّلاب يقضون حاجاتهم كيفما تيسّر في المنحدر الواقع جنوب المدرسة، حيث لم تكن مأهولة تلك المنطقة، وفي الواقع فإنّ الغالبيّة العظمى من بيوت القرية كانت بدون حمّامات، وعدد قليل جدّا منها كان له مرحاض خارجيّ.

كان في المدرسة “قِدْر” معدنيّ كبير جدّا، يغلون فيه يوميّا حليبا مجفّفا يأتي بشوالات كبيرة (كانت التّسمية الدّارجة لذلك الحليب هي “حليب اللاجئين”؛ لأنّ وكالة غوث اللاجئين كانت توزّعه على أبناء المخيّمات، وقرى الخطوط الأماميّة)، ودفع كلّ تلميذ نصف قرش ثمنا لكوب بلاستيكي، يعلّقه في حزامه؛ ليشرب فيه عندما يعطش، من خزّان له صنبور نصبوه على حجارة بجانب بئر الماء، وليجبر على  احتساء كوب حليب مغليّ في ذلك الكوب، بعد محاضرات مكثّفة من المدير والمعلّمين عن أهمّيّة ذلك الحليب لدواع صحّيّة، ولأنّ الغالبيّة العظمي من أهالي التّلاميذ كانوا يقتنون الأغنام، ويشربون من ألبانها، فقد كانوا يتقزّزون من ذلك الحليب ويهربون من تناوله، ممّا دفع إدارة المدرسة إلى غلي كمّية قليلة من الحليب في طنجرة عاديّة، توضع أمام غرفة المعلّمين كي يملأ أيّ طالب كوبه منها إن أراد ذلك.

 في تلك الفترة كان غالبيّة التّلاميذ يصابون بالقرع بسبب الأوساخ وانعدام النّظافة، فتتقرّح رؤوسهم المحلوقة بالشّفرة، وتنتقل العدوى من تلميذ لآخر، كما كانوا يفرضون على التّلاميذ حلق شعر رؤوسهم على الصّفر، لدواعي النّظافة، كي لا يكون الشَّعر مأوى للقمل والبراغيث.

 كان لباس المدرسة موحّدا، وهو عبارة عن بنطال وقميص “كاكي” ذي اللون التّرابي.

وعلى كلّ تلميذ أن يحمل في جيبه “محرمة قماش” عليه أن يحملها بيده، ضاغطا عليها بإبهامه، ويقلب يده لينظر مربّي الصّفّ إن كانت أظافره طويلة أم لا، في الصّباح عندما يقرع الجرس إيذانا ببدء الدّوام. علما أن قصّ الأظافر كان بواسطة سكّين” شفرة الحلاقة” بعد أن تستهلك في حلاقة ذقن ربّ الأسرة.

قبل الدّخول إلى الصّفوف، ينشد الطّلاب بشكل جماعي أثناء الاصطفاف الصّباحيّ:

“دمتَ يـا شـبلَ الحسين       قـائـدَ الجيـش الأبـيّ        

وارثــا للنّهضـتين             مجـدُ عـزٍ يعـرُبـيّ”

***

بين الصّندل والوطا

          عندما دخلت الصّفّ الدّراسيّ الأوّل، اشتروا لي صندلا نعله  “كاوتشوك” الذي يستعمل في إطارات السّيارات، واشتروا لأختي مريم التي تصغرني ببضعة أشهر “وطا”، فطمعت بنعل أختي ورفضت الصّندل، فوعدوني بأن يشتروا لي “وطا” مثله في اليوم التّالي، لكنّني رفضت ذلك بشدّة، وبقيت أبكي وأصرخ، ممّا اضطرهم لإعطائي”وطا” أختي مريم الذي كان أصغر من مقاس قدميّ، فحشوت قدميّ فيه، وأخذت أطارد بسعادة غامرة لأكثر من ساعة، عدت إلى البيت منهكا وقد تجلّط ظاهر أصابع قدميّ، خصوصا الإبهام في كلّ قدم، إضافة إلى مؤخّرة القدمين، فنمت محموما، لأستيقظ صباحا وقد تورّمت أصابع قدميّ، أمضيت شتاء ذلك العام حافي القدمين؛ لأنّني لم أعد قادرا على انتعال الصّندل بسبب تقرّحات قدميّ، وكان المرحوم الأستاذ داود عوّاد “الهايب” من أبوديس يشفق عليّ، ويطهّر لي التّقرّحات باليود، ويضع لي ضمّادة لا تلبث أن تسقط أثناء اللعب.

***

الحقائب المدرسيّة

 كانت حقائبنا المدرسيّة عبارة عن خريطة من قماش “المالطي” رخيص الثّمن، أو من خريطة الطّحين الأمريكي، تخيط أمّهاتنا الخريطة على شكل مستطيل 30×25 سنتيمتر تقريبا، وفي طرفيها العلويّين “دكّة”، غالبا ما تكون دكّة سروال مهترئ للوالد، كي يعلّق التّلميذ حقيبته على كتفه، وعندما كانت الحقيبة تُمزع من أحد جوانبها، كانت الأمّ ترقعها بقطعة قماش.

أوّل حقيبة اشتروها لي عندما دخلت الصّفّ الاعداديّ الأوّل، وكانت من البلاستيك المقوّى والليّن.

***

ولائم للمعلّمين

         حظي المعلّمون في تلك المرحلة بمكانة اجتماعيّة لافتة، وإمعانا من الأهالي في تكريم المعلّمين فقد كان العديد من أولياء أمور التّلاميذ -ومنهم المرحوم والدي- يدعون المعلّمين إلى وليمة في بداية كلّ عام دراسيّ، يذبحون لهم شاة، ويقدّمون لهم المناسف، ويوصون المعلّمين بأن يضربوا التّلاميذ كي يتعلّموا! “اللحم لكم والعظم لنا” أي اضرب ابني الطّفل الذي تدرّسه لكن لا تكسر عظمه! ولم يخيّب المعلّمون ظنّ أهلنا، فكلّ واحد منهم كان مسلّحا بخيزرانة، يضرب فيها تلاميذه بسبب ودون سبب.

***

يوم دراسي طويل

     يجدر التّذكير هنا أنّ اليوم الدّراسيّ كان يوما طويلا يستمرّ من الثّامنة صباحا وحتّى السّاعة الثّالثة والنّصف بعد الظّهر، تتخلّله فسحتان الأولى بعد الحصّة الثّالثة ومدّتها 20 دقيقة، والثّانية بعد الحصّة الرّابعة وتمتدّ لساعة ونصف، وكانت تسمّى “فرصة الغداء” مع أنّه لا يوجد مع التّلاميذ ما يأكلونه! ومن كان منهم بيته قريبا كان يعود إلى البيت ليأكل ما يتيسّر له.

الحبس للرّجال!

     من الغريب أنّ المعلّمين كانوا يعاقبون التّلاميذ الذين لا يحفظون درسهم، أو لا يقومون بواجباتهم المدرسيّة كنسخ درس المطالعة، بحبسهم في غرفة الصّفّ طيلة فرصة الغداء، حيث يمنعون من الخروج، والعجيب أنّهم كانوا يلتزمون بذلك خوفا من العقاب الجسديّ الذي يتعرّض له المخالف، وقد اعتاد الطّلبة الكسالى على هذا “الحبس”، بل ويفاخرون به بقولهم:”الحبس للرّجال”.

أنهيت الصّف الأوّل الابتدائيّ بتفوّق وحصلت على جائزة عبارة عن طابة ثمنها قرش ونصف.

إلى البقيعة وإن طال السّفر

         كنت في الصّفّ الأوّل الابتدائي، وشقيقي ابراهيم في الصّفّ الثّاني، عند انتهاء دوامنا المدرسيّ في الثّالثة والنّصف من بعد ظهر كلّ يوم خميس، كنّا نذهب راكضين إلى البرّيّة؛ لننام ليلتنا في حضن أمّي، حيث كان السّكن في “جوفة إمّ دسيس”، وقبل الغروب بدقائق في ذلك اليوم الرّمضانيّ مررنا ب السيّدة “عليَة”علي سالم درجة التي كانت تسكن في “إمّ الرّتم” قبل مضارب أهلنا بحوالي 500 متر، وجدناها تنتظرنا عند بئر الماء بجانب الطّريق، فقالت لنا:

” أهلكم رحلوا بالأمس إلى البقيعة، وأمّكم أوصتني بأن أنتظركم لتناموا عندنا، وفي الغد ستعودون إلى أهلكم ومدرستكم”.

 سمعنا هذا الكلام وواصلنا سيرنا ركضا وهي تركض خلفنا دون أن تتمكّن من اللحاق بنا، لم ندخل البقيعة من قبل، لكننّا كنّا نعرف بدايات أكثر من طريق إليها، كنّا نظنّ أنّ البقيعة مجرد مكان صغير لنا، رغم أنّ مساحتها تزيد على 50 ألف دونم، واصلنا طريقنا ركضا عبر واد الدّكاكين -سمّي بهذا الاسم لكثرة الكهوف فيه- وواصنا طريقا كأنّنا في سباق مراثونيّ مرورا بمنطقة “جوايف شرف” و”الزّرانيق” والأخيرة منطقة شديدة الوعورة، تكثر فيها الضّباع والذّئاب وبنات آوى والثّعالب، لكثرة صخورها وجحورها، هبطنا الجبال المرتفعة حتّي أشرفنا على البقيعة، فظهر لنا ضوء خافت بعيد، سمعنا نباح كلاب، واصلنا طريقنا راكضين باتّجاه الضّوء ونباح الكلاب، ظنّا منّا أنّه ضوء بيتنا، عندما اقتربنا من البيت هجمت علينا الكلاب، فصرخنا مرتعبين، وإذا بصوت صاحب البيت يصيح بأبنائه كي يحمونا من الكلاب، سمعناه وهو يقول:

هذا صراخ أطفال.

هرع إلينا أكثر من رجل من البيت وهم حفاة.

وفي البيت سألنا صاحبه وهو المرحوم عبد أبو خليل من العبيديّة عمّن نكون؟ واكتشفنا لاحقا أنّ البيت يقع على الحدود التي تفصل بقيعة السّواحرة عن بقيعة العبيديّة، ولمّا أخبرناه قال لنا:

أهلكم يسكنون بعيدا في منطقة “الطِّبِق” على بعد بضعة مئات  من الأمتار عن مقام النّبي موسى. وهي بعيدة من هنا، ناموا ليلتكم عندنا، وسنوصلكم غدا لأهلكم، لكنّنا لم نقبل واستمرّينا بالبكاء، فأشفق علينا، امتطى حمارا له ليوصلنا، وضعني أمامه ودثّرني بفروته التي كان يرتديها لتقيه من البرد، في حين أردف شقيقي ابراهيم خلفه، كنت نائما في حضن الرّجل، وصلنا مضارب أهلنا فوجدناهم قد استيقظوا لتناول السّحور، فقام أبي وذبح للضّيف خروفا، دثّرتنا الوالدة بما توفّر من غطاء، ونمت أنا وشقيقي على غير هدى بينما كانوا يشوون اللحوم على صاج الخبز قبل بزوغ الفجر.

      في اليوم التّالي شوت لنا الوالدة لحوما على الصّاج، فأكلنا حتّى شبعنا، ثمّ وضعت لنا لحوما مطبوخة باللبن ملفوفة بخبز الصّاج “الشراك”، في خريطة قماش، وودّعتنا باكية؛ لنعود إلى البيت في جبل المكبّر، استعدادا للذّهاب إلى المدرسة في صباح اليوم التّالي.

   في البقيعة لم نشعر بالبرد، فهي منطقة منخفضة تقع تحت مستوى سطح البحر، لكنّ الأجواء كانت عاصفة وممطرة في المناطق الجبليّة، ما أن صعدنا المرتفعات الجبليّة، تاركين البقيعة خلفنا، حتّى واجهتنا الرّياح الغربيّة التي لا تحتملها أجسادنا الصّغيرة إلا بصعوبة، بلغت الرّياح ذروتها عندما وقفنا على قمّة جبل المنطار المرتفعة، وهناك صرنا نقاوم قدر استطاعتنا لنتقدّم في طريقنا، صارعنا الرّياح التي أخذت تتلاعب بنا كقارب صغير ثارت عليه أمواج البحر الغاضبة، واصلنا طريقنا غربا بأقصى سرعة نستطيعها وكلّ منّا يمسك بيد الآخر، وعندما انحدرنا من جبل المنطار غربا، ووصلنا منطقة “ثغرة رهوة” حيث الشّارع التّرابيّ الذي يربط العبيديّة بمنطقة الخان الأحمر، ومن تلك المنطلقة ينطلق شارع ترابيّ آخر غربا إلى الضّحضاح، فالسّواحرة الشرقيّة، توقّفت بجانبنا شاحنة صغيرة”بيك أب” كان بداخلها رجلان وبيد كلّ منهما بندقية صيد”خرطوش”، سألنا أحدهم:

 من أين أنتم؟ إلى أين أنتما ذاهبان؟

–        إلى السّواحرة.

أشفقا علينا، وطلبا منّا أن نركب في صندوق السّيارة الخلفي المكشوف.

فركبنا، ونظرة لسرعة الرّياح، فقد اختبأنا في مقدّمة الصّندوق، خلف “الكابينة”  الأماميّة، لنحمي أنفسنا من البرودة والرّياح العاصفة كيفما يتيسّر لنا.

عند آخر السّواحرة الشّرقيّة، حيث يقع الآن حاجز الاحتلال المسمّى “الكونتينر”، اتّجه السّائق بالسّيّارة جنوبا باتّجاه العبيديّة، لم ينتبه الرّجلان لنا، ولم نستطع أن نوصل لهما إشارة بالتّوقف لإنزالنا، صعدت السّيارة “دبّة الخنزيرة، حتّى وصلت دير “أمّ عبيد”، ثمّ اتجهت إلى الجنوب الغربيّ باتّجاه بيت ساحور، صراخنا يتبدّد وسط الرّياح العاتية، ودموعنا تضيع وسط رذاذ المطر المتساقط.

توقّفت السّيارة في بيت ساحور، فنزل منها الرّجلان، سألنا السّائق الذي كان على رقبته سلسال ذهبيّ يتدلّى منه صليب ونحن نرتعد خوفا وبردا:

إلى أين أستطيع أن أوصلكما؟

فقلنا له ونحن نبكي:

نحن سواحرة من جبل المكبّر.

أبدى الرّجل أسفه وقال:

لا تخافا يا عمّي، أدخلنا في السّيّارة بجانبه بعد أن نزل رفيقه، وسار بنا إلى موقف باصات بيت لحم أمام كنيسة المهد، أوقف سيّارته وقادنا إلى الباص المتّجه من بيت لحم إلى القدس، مررنا ببائع هريسة، فاشترى لكلّ واحد منّا قطعتي هريسة بقرش، أعطى كلّا منا “شِلنا” –خمسة قروش- وصعد بنا درجات الباص، أجلسنا في المقعد خلف السّائق، بعد أن دفع قرشا أجرة الباص عن كلّ واحد منّا، أوصى السّائق قائلا:

هذان الطّفلان يعانيان من البرد والتّعب، ربّما ينامان في الطّريق، انتبه لهما وأنزلهما عند مقهى “أبو جوهر” في قمّة جبل المكبّر، لا تنس، وإن نسيت فإنّهما سيبقيان معك طيلة اليوم. وفعلا أنزلنا السّائق في المكان المحدّد، وعدنا إلى بيتنا.

***

  ربنا أطعمنا في رمضان

       عندما كنت تلميذا في الصّفّ الثّاني الابتدائيّ، جاء شهر رمضان في فصل الشّتاء، وذات يوم ماطر وبينما كان الأهل يسكنون في منطقة “مخسف النّجمة” في البقيعة، اشتدّت الأمطار، وانتشر ضباب كثيف، فظنّوا أنّ الغروب قد حلّ، وحانت ساعة الافطار، تناول الصّائمون افطارهم، وإذا بالجوّ قد اعتدل، فانقشع الضّباب، وظهرت الشّمس من جديد! فواصلوا الصّيام من جديد وهم يردّدون: ” ربنا أطعمنا”!

***

مظاهرة ضدّ حلف بغداد

     في عامنا الدّراسيّ 1956-1957 جاء أحد شباب البلدة، وكان طالبا في المرحلة الثّانويّة في المدرسة الرّشيديّة، وزّع على الطلّاب عددا من صور الرّئيس المصريّ جمال عبد النّاصر، وأخذ يهتف بحياة الرّئيس، وبسقوط حلف بغداد، وتحرير فلسطين، وقاد التّلاميذ في مدرستنا الابتدائيّة في مظاهرة، والأطفال  وأنا منهم نردّد خلفه ما يقول دون أن أدرك ما يقوله! سار بنا باتّجاه الشّارع الرّئيسيّ الذي يربط القدس وشمال الضّفّة الغربيّة ببيت لحم ومناطق الجنوب، سارت المظاهرة حوالي مئة متر، جاء شرطة مخفر البلدة، أمسكوا به واقتادوه وهم يحملون العصيّ في أيديهم، هرب التّلاميذ، بينما بقيت مكاني وبيدي صورة زعيم الأمّة مع ثلاثة من التّلاميذ، وعدم هروبنا ناتج عن عدم ادراكنا لما يحدث، اقترب منّا شرطيّ واقتادنا إلى المخفر. في حين اقتادوا الشّابّ إلى جهة لا أعلمها. في المخفر أجبرنا الشّرطيّون على تنظيف محيط المخفر، استدعوا أولياء أمورنا للتّوقيع على كفالة، وعدنا إلى البيت. علمت لاحقا أنّ ذلك الشّابّ سجن لمدّة ستّة أشهر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى