هل يتوجّب على الشباب “التطوع”؟ لست متأكداً من ذلك
أمير مخول | فلسطين
شاركت قبل ايام (13 أيلول) في المؤتمر الذي نظمته جمعية الجليل للبحوث والخدمات الصحية وفيه استعرضَت مع مركز ركاز، المسح الاستقصائي الواسع عن جيل الشباب العرب.
كما وأصدرت كتابا يشكّل مرجعًا قيّماً في هذا الصدد. في مؤتمر كهذا قدمت الجمعية وطواقمها وباحثيها وباحثاتها عرضاً جديرا يشير الى جدية البحث على المستوى المهني، وكذلك الى درجة المسؤولية المجتمعية التي تميّز هذه المؤسسة الرائدة. كما أن ابحاثا من هذا النوع تكسب أهمية خاصة لكونها تقدم للجنة المتابعة وللقوى السياسية والمؤسسات الاهلية والتربوية والتشغيلية أساسا لبلورة السياسات على اساس رؤية مظاهر ومؤشرات تعتبرها نقاط قوة يُبنى عليها، وأخرى نقاط ضعف وتحديات ينبغي مواجهتها.
لفت نظري خلال المداخلات والنقاش إثارة موضوع التطوع كقيمة اجتماعية او بحثية او تحدٍّ ينبغي التعاطي معه ومعالجته باعتبار عدم التطوع مشكلة.
دون التقليل من أي بحث ولا من جدارة أيّ من الباحثات والباحثين، الا انه باعتقادي عكست بعض الابحاث او بعضٌ من جوانبها، هيمنة قيم ومفاهيم العلوم الاجتماعية الاسرائيلية.
وبالذات في تحييد البعد النقدي للمفاهيم المستخدمة وتحييد السياقات، وهذا ما يمكن تسميته سطوة توجه المؤسسة البحثية الاسرائيلية حين يكون موضوع البحث هو المجتمع الفلسطيني في الداخل، او البحث التاريخي حين يتطرق الى الرواية الفلسطينية المصطدمة بالرواية الاسرائيلية ليجري التعامل معه على انه تسييس العلوم او البحث، في حين أن منعه يخدم تعزيز الهيمنة الاسرائيلية ومفاهيم الضبط والسيطرة وفرض ادوات تخدم روايتهم، وهذا لا يعتبر تسييساً، بل مهنية وعزوف البحث العلمي عن اية “اعتبارات غريبة”.
لو قارنا هذا التوجه مع الابحاث المعنية باليهود العرب او اليهود الشرقيين او الروس مثلا، لوجدنا ان المؤسسسة الاكاديمية البحثية تستخدم مفاهيم نقدية لا تعتمد استخدامها في البحث حول الفلسطينيين.
يجري التعامل عالمياً مع التطوع كقيمة اجتماعية، ومعيار لمدى تفاعل الشباب، في هذا السياق، في حياة المجتمعات والدول، وفي المسؤولية المجتمعية. وهو معيار لقياس الرضى او عدم الرضى من الحالة المعاشة، إلا انّ المفهوم ذاته هو مسألة خلافية، لأن لها أبعد ثقافية واجتماعية واقتصادية، ولها تسميات منبثقة عن ثقافة وتاريخ المجتمعات.
على سبيل المثال اعتمدت الثقافة العربية والاسلامية تاريخيا قيم مثل التكافل والاسناد والفزعة والزكاة، والمجتمع العصامي، كسلوك فردي منبثق من قيم اجتماعية وروابط اجتماعية وحالة ثقافية. ولم تكن هذه السلوكيات مبنية على المؤسسات، بل هي قيم مجتمعية.
في حين أن التطوع في الدولة الحديثة وبالذات في الدول الغنية هو شأن فيه من قيم مجتمعات هذه البلدان، وفيه ايضا تأثير من سياسات الدولة الغنية بالذات وما وفرته مؤسساتها الحكومية والرسمية وغير الرسمية وغير الحكومية، من امتيازات للمتطوع او المتطوعة، مثل المنح الدراسية او احتساب نقاط في التحضير للاكاديميا، او فرص للقبول في عمل.
تتعامل اسرائيل مع “التطوع” لدى المجتمع الفلسطيني كأداة ضبط، وتجدر الاشارة الى ان الضبط ليس مسألة استخدام قوة او إلزام قسري، بل هي سياسات دولة اجتماعية واقتصادية وتعليمية، تجعلك تسير في منحىً معين كي تصل الى وضعية تشعر بأنك حققت فيها انجازا فردياً، لكن منسوب الاخضاع الجماعي لمصالح الدولة يكون أكبر.
منذ ما لا يقل عن أربعين عاما، بأقلّ تقدير، والاكاديميا الاسرائيلية مشغولة في مسألة التطوع، بل والدولة كذلك.
وذات الفترة تتحدث السياسات العليا عن مفهوم “الخدمة” التطوعية، لدى الشباب العربي الفلسطيني، والحديث عن الخدمة القومية والخدمة المدنية، ضمن مسعى لتضمين قيم جديدة لقيم مجتمعنا. كما وأدخلت هذه “القيم” ضمن المعايير للأحقيّة بالحصول على منحة دراسية، واستخدمتها في الماضي للقبول لمساقات في الجامعات، وهي أقل قيمة باعتباراتهم من الخدمة العسكرية الإلزامية، لكنها أكثر “قيمة” بالمقارنة مع من لا يقومون بها تحت مسمّى التطوع. لم تتعامل اسرائيل مع هذه المسألة بين الشباب الفلسطيني الا من باب الأمن القومي لا القيم الاجتماعية بمفهومها التقليدي بل بمفهومها الصهيوني.
كما في الكثير من اجزاء الرواية، فإنها تتأثر بميزان القوى مع المسيطر او المحتل او المستعمِر، وبالاساس بمدى اعتماده سياسة الضبط والهيمنة. بل أنه في الثقافة الوطنية الكفاحية وفي صراعها مع توجهات الدولة، عمّقت الوعي بأن الحقوق لا تأتي بـ”التطوع” وإنما بالنضال، وعليه فإن الاندماج الطوعي في النضالات الشعبية هو مسؤولية اجتمعية ووطنية.
للحقيقة كانت هناك فيما مضى مساع لمعاينة مفهوم التطوع القائم في مجتمعنا كقيمة بحد ذاتها تختلف تماما عن القيمة التي تمنحه اياها المفاهيم الاسرائيلية، وأعود في هذا ربما قبل ثلاثة عقود او اكثر، وأذكر ابحاث ودراسات في هذا الصدد قام بها كل من الباحثين الاكاديميين الياس زيدان واسعد غنم، (ولا بدّ أن يكون آخرون واعتذر مسبقا ان لم أذكر أحدا، إذ أنني واكبت الدراستين المذكورتين) وقد اعتمدتا مفهوم آخر وهو: “ثقافة العطاء” في المجتمع الفلسطيني.
حين نقارن بين شاب عربي فلسطيني وبين شاب يهودي اسرائيلي، فإن الاول يقوم بمهام فيها تحمّل للمسؤولية الاجتماعية لا يقوم بها اليهودي، لكنها مهام غير معترف بها اسرائيلياً. ولو قمنا بقياس الامور على الحالة المعاشة اليوم، فقد تجد الابحاث المسحيّة ان الشباب العربي لا يتطوع. بل لو سألتهم عن المسؤولية الاجتماعية اي تجاه المجتمع لاختلف الجواب ولكشف عن جوانب اساسية ينتقص منها مفهوم التطوع. فلا مكان في المفهوم الاسرائيلي الاكاديمي لا للمشاركة الطوعية في المظاهرات لمحاربة الجريمة ولحماية مجتمعه، ولا للنشاط اليومي في اللجان الشعبية والحراكات الشبابية التي تسعى لتغيير الوضع القائم الذي تفرضه الدولة بسياساتها العنصرية والتمييزية، بينما ذات الدولة توفر كل هذه الامور للمجتمع اليهودي ولا حاجة ان يبذل طاقاته فبها. فيما يصبح ما يقوم به الشاب اليهودي تطوعا بينما الشاب العربي احتجاجا وحتى “أعمال شغب”، كما أنها لا ترى بتصرف اليهودي مسألة أمن قومي بينما تنظر الى تطوع العربي ضمن هذا المنظار وأداة للضبط.
لا يساعد الشاب اليهودي جاره عند الحاجة في بناء بيته لان الدولة توفر بسياسة الاسكان بيوتا جاهزة وجماعيا لليهود بينما هذه حاجة العرب وحدهم، ولا معنى للفزعة وهي المساعدة الجماعية عند الحاجة في البناء، او الفرح او الترح او في الذود عن المنزل والبلدة في مواجهة الهدم كما حال الفلسطينيين العرب في النقب.
كل هذا بينما علم الاجتماع والابحاث الاسرائيلية تقوم بتسطيح مفهوم التطوع الاسرائيلي بمعنى جعله معيارا لكل المجتمعات وإحلاله على سلوك الشباب الفلسطيني كقيمة عالمية مطلقة وتحت مظلة المهنية ومنهاجية البحث الاكاديمي وحياديّته غير المحايدة.
المسؤولية الاجتماعية التي يتضمنها مفهوم التطوع تأخذ مناحٍ عديدة وحتى نقيضة. الدولة تطرح مفهوم التطوع ضمن مشروع الخدمة المدنية كقيمة وكرافعة للتطور باعتباراتها. بل وتأتي ببعد كما لو كان متفهِّماً او اخلاقيا بالمقولة “نحن لا نريدكم ان تتجندوا للجيش”، بينما قامت وتقوم جمعية بلدنا مثلاً بمشروع مناهضة الخدمة المدنية والقومية والعسكرية بالطبع.
إنّ حملة “ارفض شعبك بحميك” تنقض مفهوم التطوع الذي تأتي به الدولة وحتى الذي تأتي به العلوم الاجتماعية والاكاديما الاسرائيلية، وتناهضه وتتحداه من خلال التطوع ضمن انتماءات أخرى وتبني مشاريع في هذا الاتجاه. اما مشروع جمعية الثقافة العربية للمنح الطلابية فيتبنى ذات مفاهيم جمعية بلدنا، في التطوع في سياق بلورة انتماء والفعل ضمن منتديات طلابية وشبابية وثقافية. وهناك نماذج شعبية مثل الحملات لتنظيف مقبرة مهددة في احدى المدن الساحلية او مسجدا وكنيسة في بلدة مهجّرة كما حال البصّة، أو ترميم مسجد طبريا الذي جرى تدنيسه، او مخيم عمل في النقب أو مخيم عمل في إقرت او برعم وغير ذلك. كما لا تغيب تجربة مؤسسة في مفهوم التطوع وهي مخيمات العمل التطوعي في الناصرة في السبعينات والثمانيات وتحت شعار “كرامة وخدمات”.
فيما لا تميّز غالبية الابحاث الاجتماعية وغالبية المسح الاحصائي الكمّي بطبيعته، بين انواع التطوع، التي تتطلب تعريفات سياقية وأكثر دقة. حسب المسح الكمي غير المحدّد فإن من يقوم بالخدمة المدنية يجيب على سؤال التطوع بالايجاب، ولو اعتمدنا ذلك لأعطينا الخدمة المدنية سياقاً ايجابيًا.
يحدر الاشارة الى أنّ هناك مظاهر تطوعية رائعة في مجتمعنا وليس بالضرورة بين الشباب المنهمك في التفتيش عن مسارات حياته وتأمين المقومات لها. ونجد الكثير من هذه المظاهر في المستشفيات والمجالات الصحية ومنها أحادية القومية ومنها في أطر اسرائيلية ولا يمكن ان تكون غير ذلك، مثل التبرع بالأعضاء لمرضى في حالة الخطر. كما يوجد تطوع يتسع نطاقه في مسابقات رياضية وجولات ارشادية ومحاضرات توعوية وغيرها.
باعتقادي غير البحثي ان ما تقوم به الحراكات الشبابية واللجان الشعبية في مكافحة الجريمة والسعي لتوفير خدمة جوهرية لحماية المجتمع وتوفير الامان له، او التصدي لهدم بيت او لنصرة الشيخ جراح والقدس والاقصى وغزة، كلها تندرج ضمن المسؤولية المجتمعية والوطنية الطوعية، وهي كلها تفوق في مردودها مفهوم التطوع بالمعنى الضيق للكلمة.
ان المطلوب هنا هو التفاعل الطوعي من منطلق المسؤولية المجتمعية وليس التطوع من اجل التطوع.
لفت نظري في المؤتمر المحاضرة التي قدمها د. أسامة طنوس المتخصص في الصحة العامة او صحة المجتمع، وهي دراسة لحالة الأفرو- اميريكان أو السود في الولايات المتحدة وانعكاس سياسات التمييز والعنصرية على صحتهم والتناسب الطردي بين حالتهم الصحية وبنية العنصرية في هذا البلد، وهي دراسة من شأنها ان تفيدنا في المفاهيم البحثية وفي معاينة الحالة الصحية العامة للمجتمع الفلسطيني.
حبذا لو خصصت جمعية الجليل في ابحاثها الرائدة مستقبلا، الجهود لبحث المفاهيم واستحداث توجّهات تنبثق من حالة المجتمع الفلسطيني، فمصداقيتها تسمح لها بذلك.