عطر الأحباب.. حسن البارودي [1]
مصطفي بيومي | باحث مصري
واحد من كتيبة المبدعين الذين يفرضون بطولتهم دون نظر إلى مساحة وطبيعة الدور، أما صوته الفريد العميق المتميز متعدد الطبقات والألوان فإنه سلاح يعينه على تجسيد الشخصيات التي يضفي عليها أهمية تنتزع من النجوم الرسميين سطوتهم.
حسن البارودي “1890-1974” من أعمدة الفن المسرحي والسينمائي في مصر، لكن الأغلب الأعم من أدواره المسرحية سابق لظهور التليفزيون، والقليل الذي تم تسجيله لا يُعرض إلا نادرا، والأمر مختلف في الساحة السينمائية التي يحتفظ أرشيفها بما يكشف عن عبقرية الممثل القدير وتفرده.
لا شك أن البارودي بارع في تجسيد شخصية اليهودي وفقا لمعايير السينما المصرية الخاضعة لاعتبارات سياسية ودينية، وهو ما يتجلى في فيلمي “هجرة الرسول” و”الشيماء”، لكن الفنان الكبير ينجو من شرك النمطية القاتل، وتتعدد وجوه الشر التي يقدمها. المعلم شنتوري في “جعلوني مجرما” يختلف عن صاحب القهوة تاجر المخدرات في “أعز الحبايب”، وكلاهما بعيد عن الدكتور بوشي في “زقاق المدق” ومتولي في “أمير الدهاء”. الشر بدرجاته المتباينة مشترك بين هؤلاء جميعا، لكن أسلوب البارودي في الأداء ليس نمطيا مكررا.
لا يمكن القول إن حسن البارودي ممن يمكن تصنيفهم في دائرة تجسيد الشخصيات الشريرة وحدها، فهو البك الساذج المخدوع متهافت الشخصية في “أولاد الشوارع”، والموسيقي الهامشي البائس في “لحن الوفاء”، والفلاح الطيب الشهم في “حسن ونعيمة” و”الدخيل”، والصعيدي الضرير المحافظ على تقاليد وموروثات البيئة دون قطيعة مع متطلبات العصر في “صراع في النيل”.
في مسيرته محطات بارزة تضمن له أن تتسع صفحات تاريخ السينما لتسجيل تفرده، وهل يمكن أن يُوصف أداؤه الفذ في “باب الحديد” و”الطريق” و”الحرام” و”الزوجة الثانية” إلا بالعبقرية التي ترتفع به درجات ودرجات عن العاديين من الممثلين وأشباه الممثلين؟.
“باب الحديد” علامة لا تُنسى في تاريخ البارودي، حيث وجوده الفاعل المؤثر في طليعة كتلة المهمشين الذين يتوقف أمامهم يوسف شاهين في فيلمه الرائد. البطولة التجارية من نصيب فريد شوقي وهند رستم، لكن الأمر على الصعيد الفني ليس كذلك. البائس المأزوم قناوي، يوسف شاهين، وعم مدبولي متعهد الصحف في محطة مصر، البارودي، يتصدران ويحلقان بعيدا.
لا يستعين شاهين في مقدمة الفيلم بصوت قوي رنان يتقن صنعة البلاغة الفصيحة ذات الألفاظ الجزلة، والبديل الذي يقدمه بمثابة التحول اللافت إيقاعا وفكرا. عم مدبولي يتكلم بالعامية الرقيقة العميقة الحكيمة البعيدة عن الابتذال الفج، وصوته الهادىء الهامس المرهق معبر بشجن أخاذ عن أبعاد العالم الذي يقدمه والشخصية المحورية التي يتوقف عندها؛ قناوي.
في “الطريق” و”الحرام” دوران صغيران يواصل البارودي من خلالهما تقديم الدروس، ويؤكد عمليا معنى أن يكون الممثل ساطع الحضور عظيم التأثير عبر مشاهد قليلة، لكنها كاشفة عن إمكانات هائلة وموهبة أصيلة تفرض سحرها على القلوب والعيون.
لا أحد من متابعي السينما المصرية ينسى شخصية مبروك، الشيخ الانتهازي المنافق في “الزوجة الثانية”. تاجر قروي صغير من أبناء الأزهر، وتابع خانع للعمدة الطاغية، وقادر على تبرير ما لا يمكن تبريره من المظالم والآثام. الآية الوحيدة التي لا يمل من الاستشهاد بها هي “وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”، لكنه يتعمد إساءة الفهم وإضفاء الشرعية من خلالها على كل ما هو محرّم مرذول.
حسن البارودي ممثل عملاق متمكن يضيف إلى تراث السينما المصرية ما لا يقدمه إلا القلائل من أفذاذها وروادها. يرحل عن الدنيا ويبقى حيا في قلوب محبيه، ولا يتوارى صوته المميز العميق الذي ينعش الأرواح ويزرع البهجة، وهل تخلو البهجة في واقع مضطرب مختل من ذيول الإرهاق والشجن؟.