قراءة في شعر ريم الخش

د. حسن مغازي

  (د. ريم سليمان الخش)؛ أبرز شواعر العربية المعاصرات؛ هى(شآمية)، هى من بيت سياسة وعلم وأدب، هى(أستاذ الرياضيات البحتة)فى(جامعة دمشق)، حاصلة على الدكتوراه فى تخصصها الدقيق من فرنسا، هى من (شواعر المهجر)؛ منذ عقد من الزمان تعيش وتعمل فى إحدى جامعات باريس، تقرض الشعر بالفرنسية وبالعربية، هى ذراع قوى يعيننا كثيرا فى(كشف سرقات) اقترفها فى العربية من أدباء فرنسا (كبراء الخمسينيات حتى التسعينيات) عندنا مستغلين حاجز اللغة.

    فى قريضها هى أغرودة لها فرادتها فى ساحات القرض، تستمتع بقريضها، تشعر بأنها ابنة عصرها، وفى الوقت نفسه تمنح أنفك عطرا عباسيا أندلسيا، تتبعه خلفها منتشيا بعمق المشاعر فى كل بيت، تترنح أفكارك من تنوع صورها فى كل تركيب، تراها فى التركيب الأول على مستوى تصويرى ثر، فتفجؤك فى التركيب اللاحق بمستوى تصويرى دفاق، وهكذا تسمو بإحساسك فى قريضها إلى سموات إبداع، نشهد نحن المتخصصين أكاديميا بأنه من النادر فى أيامنا.

  فرادتها أيضا فى معجمها نازعة عن بيئة لغوية ثرية فى أسرتها، وفى مطالعاتها، وفى تنوع مشاهداتها؛ ذلك يبنى لها فى عقل التلقى بناء فريدا، لا تكاد تعثر له على شبيه بين معاصراتها، وربما من زاوية مخالفة تجده ظالما جميع من حولها من المعاصرات؛ ظالم الحسن(شجِى)الكبرياء.

   ثم هى فى تراكيبها ومفاصل أعضاء القول تراها تغرد منفردة بعيدا بعيدا عن مجاوراتها؛ يتجلى ذلك أشد التجلى فى(تراكيب الشرط)، تراكيب الشرط عند(ريم)تستحق الفحص أكاديميا فى بحث كله لها وفيها ومنها وعنها وإليها وبها! ربما تفصح الأيام القوادم عن أى من تلامذتنا فى أداء هذى المهمة …

    هى فى بائيتها هنا تزغرد عشقا وسياسة(على نغم الوافر)، (مُجراها)مفتوح، متعلقة بالهاء فى الوصل ساكنة، وقافيتها(متواترة)، تكاد تغلق عليك نوافذ من سواها، تستولى بهذا النغم الراقى على اللب حتى النخاع، تمنحك القصيدة ثمالة، تظل بعدها تبتلع الريق فى استعادات متكررات، لا تبلَى مهما كررت الاطلاع.

إذا صبَّ اكتمالُ البدرِ نَخبَه

تَسَعَّرَ فى دمى حتى اشرَأبَّه
تفتَّقَ عن أديمِ القلبِ وحشٌ

ظلامىٌّ علىٰ جوعٍ ورغبه
تُشقشِقُنى انبلاجًا شاعريًّا

مشاعرُ أصطليها مستتبه
وتُطلِقُ من مخاضِ الشعرِ فيضًا

خُرافىَّ التشوُّقِ للأحبه
فلا إنسٌ يُجارينى انفعالًا

ولا جنٌ يُطاولُنى مَحبَّه
إذا ما الحبُّ أتلفَنا احتراقًا

يُصَيِّرُنا غمائمَ فهْىَ عَذبه
يُبلِّلُنى اجتياحٌ كوثرىٌّ

وتَعوى فى دمى المَحمومِ ذِئبه
لِتَسرىَ والهزيعَ على انسكابٍ

بقافيةٍ على الإفصاحِ صعبه
وما ألوى عنِ العشقِ انفكاكًا

وما أبغى سوىٰ شَفتَيْهِ وَجبه
شغوفًا بالفريسةِ أقتفيهِ

ووثبةُ مُهجتى فى ألفِ وثبه
لأترُكَهُ صريعَ العشقِ مُدمَى

وقد أكلَتْ شفاهُ الشعرِ لُبَّه

     هذا هو(شعر العربية)؛ (معجمٌ)، و(نغم)؛ خصيصته التى بها ينماز عن شعر سواها أنه يخلو خلوا تاما مما يسمى(امتداد الصورة)، و(الصورة الكلية)، بل حتى (الصورة الجزئية) لا تكاد تعثر عليها إلا قليلا؛تلك(ميزة القصيدة العربية)،تخلو من(الغرابة)، وإنما تنبع(الدهشة) فيها من سوى ذلك، من (جناحيها) غير المهيضين، جناحيها المرفرفين دوما (رصانة المعجم)، و(أصالة النغم).

لله در(الجاحظ) فى(البيان والتبيين):
( … إنما الشأن فى اختيار اللفظ وإقامة النغم).

ولله در(ابن رشيق القيروانى) فى(العمدة فى محاسن الشعر وآدابه):
(شأن القريض رصانة المعجم مع أصالة النغم).

ولله در ابن سلام الجمحى فى(طبقات فحول الشعراء):
(الشعر يحتاج إلى البناء والعروض والقوافى) والمتكلم مطلق يتخير الكلم.

ولله در(ابن منظور)فى(لسان العرب):
(الشعر منظوم القول، غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية).

   ولا يغرنك أبدا ما درج على (تزييفه)فى عقول الناشئة أعداء القصيدة العربية من أنه(لابد)من(الصورة الكلية)، ولا من(امتداد الصورة)، ذلك فى شعر سوانا، أما شعرنا ففى غير حاجة على الإطلاق لتلك(الترهات).

    مرة ثانية لا يجرؤ منصف تجاه هذى الأبيات على سوى الإقرار لها بالتميز نجما تتلألأ بسطوعه فى كبدها سماء الشعر العربى، وفى الوقت نفسه ابحث فى كبريات قصائد العربية، ولن تعثر نهائيا على أى مما يسمى(الصورة الكلية)، ولا(اللوحة الممتدة)، بل إنه حتى(الصورة الجزئية)فيها نادرة، إنما ينبع التميز كله فيها ـ شأنها شأن جميع عيون الشعر العربى قديما وحديثا ـ من نهوضها على الجناحين غير مهيضين؛ (رصانة المعجم)، و(أصالة النغم).

      وميزته العبقرية أيضا نهوض القصيدة فيه على(وحدة البيت)؛ إذ ليس فى(الشعر الغَنائى) تسلسل سرد، إنما لكل بيت حدث مستقل، فى بيت يحدثنا عن رمشها، وفى بيت يحدثنا عن قدها؛ لأن تأثره بها جاء على هذا الترتيب، لكن تأثرك أنت بترتيب آخر، ومن ثم يمكنك تغيير ترتيب الأبيات، ويبقى(وهذا مكمن العبقرية)بناء القصيدة متين الأركان، لا تنفصم عراه … !

     شعر العربية أبرز نماذج الصنف الأول من ثلاثة الأصناف فى الشعر(عالميا)، وهو(الشعر الغَنائى)بفتح الغين، وشعر أوروبا وأمريكا من الصنف الثانى الذى لا تعرفه العربية إلا نادرا، وهو(الشعر الملحمى)، ينهض على جناحين مغايرين؛ (عمق التخييل، وتسلسل الحدث)، فأما الصنف الثالث عالميا فالشعر المسرحى الناهض على جناحيه(عمق الإثارة وتسلسل الحوار).

ولا يصح على الإطلاق استنبات(الفراولة)فى بيئة(قصب السكر) … !، ستموت(الشتلات)، وسنفقد(الموسم).

إنهم بدعاوَى(التجديد)مارسوا جهارا نهارا وبكل صنوف الإجرام إفساد فطرة الصدق، وطبيعة القرض اللتين جبل النغم الناس عليها، واستشرى إفسادهم فى قرابة قرن من الزمان لدرجة أن صارت الأجيال تخال إفسادهم ذاك هو الطبيعة؛ ذلك كتزاحمهم(فى الشوارع) على وجبات (البيرجر)، و(إندومى)،و(كنتاكى)، و(ماكدونال) معرضين عن (بيوتات العز)فى استطعام(حلة الويكة الخضرا باللحمة الضانى)؛ لقد أفسد(المجرمون، وعملاؤهم)أمعاء شبابنا، وكذلك أفسدوا أذواقهم، فتعسا لهم، وأضل أعمالهم؛ ذلك بأنهم فسقوا عن النغم، فانحرفت أعمالهم.

      (منتجو الشِّحْرِ العُرّ) بعد عدم اقتدارهم على(الجناحين)؛ بحكم(عمق الجهالات) فى أحسن الظنين، وإلا فإنها (العمالة)، ورغم ذلك يقدمون أنفسهم بأنهم(شعراء) أرادوا(الاستعاضة) عنهما لتحقيق (هدف القصيد)، وهو (الدهشة)، و(الإمتاع)، فاتجهوا إلى(تقليد)غير العرب فى البحث عن(الصورة)؛ أولئك(ليسوا من شعراء العربية)، بل هم(أعداء القصيدة العربية)؛ بثلاث الموجات (عبث التفعيلة)فى يد(نازك) بُنية بغداد الفاشلة، ومن خلفها (السياب)؛ فتى البصرة الهزيل نفسا وبدنا، المتكرر رسوبه فى دراسة(الأدب)، المحكوم عليه قضائيا بالسجن لتجسسه ضد بلاده، ثم(الهراء الحر)فى يد(حجازى)؛ العدو اللدود للقصيدة العربية، ومن ورائه صلاح (القتيل)، ثم(مقصودة النثر)، المتعدد آباؤها فى بيئتنا، ولا سيما(الماغوط) الراسب فى (دبلوم الزراعة)، وخريج السجون فى قتله (عدنان المالكى)… ! (الغوغاء)، و(الدهماء)، و(العملاء)فى مناصرتهم ذلك(الباطل)ضد(القصيدة العربية)يثيرهم كشف هذى(الحقائق).

ويثير امتعاضى من كبرائهم قالتهم:
لماذا لا تنقد هؤلاء من خلال الأسس العلمية للنقد ؟!
ألا يعلم أولئك أن(النقد)لابد قبله من(إبداع فنى)؟ نحن لا نجد فى نتاج أولئك أية أثارة من(فن)، أو من(إبداع)، فأنى نتجه بأى من(النقد)، أولئك لا ينتجون سوى(النثر الردىء غاية الرداءة)، فكيف يمكننا(النقد)فى ذلك(الحضيض) … !

كيف يمكن الشرب من(المرحاض) … !

لله ـ فى هذا الشأن العظيم ـ در العقاد؛ كثيرا ما سئل عن(الشيوعية)، كان يجيب جوابه المأثور بأعلى درجات الصلف، وبأقصى درجات الإيجاز، وكأنه يستكثر مجرد اللفظ :
who is who
(من هو ؟)
سؤاله عن(الشخص) فى تكوينه … !
فيقال له:
دعنا من الأشخاص، نتجه إلى الأفكار … !
فيجيب بالشعور نفسه:
(وأين هى ؟)

      ليس من شعراء العربية أى من(البياتيين)،أو(الجويدتين)،أو(المطرين)،أو(الدرويشين)، أو(الدنقلين)، أو(القبانيين)، … !

بل إن تلك (الثنائيات) أكثر الناس إضرارا بمسيرة القصيدة العربية. شعر العربية فى ثنائياتهاالصحيحة(القيسين)،و(الليليين)،و(الزهيرين)،و(العاتكتين)،و(الفرزدقين)،و(الخنساوين)، و(الشوقيين)، و … وأيضا فى تفرداتها؛
(طَرَفة)، و(الجليلة)، و(المتنبى)، و(ميسون)، والفرزدق،وجرير، والأخطل، و(البحترى)، و(سكينة)، و(أبى تمام)، و(عزة)، و(ابن زيدون)، و(ولادة)، و(ابن عباد)، و(حفصة الركونية)، و(الجواهرى)، و …

وأما أن فى(المعجم)هنا(غرابة)فلابد من أن(تضيف إلى عقلك جديدا فى كل قراءة)؛ (نقل معرفة)أهم واحد فى (ستة الأهداف) المرسومة للأدب عموما؛(نقل معرفة)،(تعميق إحساس)، (توسيع إدراك)، (تخصيب خيال)، (إثراء فكر)، (إمتاع وإدهاش) … !

وليس مطلوبا من الجميع الاستمتاع بالشعر؛ لله در الفراهيدى فى خطابه الأصمعى:
فإن لم تستطع أمرا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيعُ
اذهب إلى(غير الشعر)إن لم تستطع (فهم الشعر)، و(الإحساس بالشعر)، ولا يصح لعاقل على الإطلاق أن يطلب(تغيير الشعر)؛ ليتناسب مع(ضعف القدرة).

قال(الدهماء)لأبى تمام:
لماذا لا تقول ما يمكن فهمه!

فأجابهم:
لماذا لا تفهمون ما يقال!

قال(الدهماء)للعقاد:
لماذا لا تنزل بمستواك إلى الجماهير؛ فتضمن الانتشار؟

فأجاب:
لماذا لا يرتفع الجماهير إلينا؛ فنضمن(تحقيق أهداف الأدب) … !

وإلى الذين يتعللون بأن النغم ظاهر فى(ألفية ابن مالك)فهل هى(قصيدة) … !
الجواب أن هؤلاء (جهلاء) الشعر (منعدمو العقل)؛ ألفية ابن مالك من (منظومات العلم)؛ ليست (فى حيز الاظب أصلا)، ليست فى(حيز الشعر)، تفتقر إلى ستة المكونات من(إحساس)، و(خيال)، و(رمز)، و(فكرة)، و …، جاءت فى (عصر ما)لتغطية(نقص ما)فى جوانب(العلم)، لا(الشعر) … !

والسؤال(المعتاد)يأتى عن(التجديد فى الشعر)، فأجيب:
واجبك حتما كل حين أن تمارس(التجديد)فى بيتك، مرة فى إعادة طلائه، ومرة فى تغيير أثاثه، ومرة … ، ومرة …، لكنه يعد من الجنون حتما أن تحاول(التجديد)فى(أعمدة البيت)يا رجل، ينهدم كله، ويزول، تجدد القصيدة فى(الخيال)، فى(الإحساس)، فى(الرمز)، فى …، لكنه جنون وفقدان عقل وفقدان قيم أدنى محاولة للعبث فى(أعمدة القصيدة)؛ نغمها، ومعجمها.
فى فحص (القصيدة)ننظر فى جناحيها(رصانة معجم، وأصالة نغم)، ثم بعد استيفاء هذا(الشكل) المهم غاية الأهمية نصنف إلى (جيد)، أو (ردىء)، أما عند فقدان ذلك(الشكل) فليس لدينا لا (شعر)، ولا (شاعر)، ولو بأدنى عبث فيما رصده لنا(الفراهيدى) من (أنغام الشعر العربى)فى قصائدها على مدار أربعة قرون، قرنين قبل الإسلام وآخرين حتى عصر الخليل فى أزهى عصور القريض العربى، إنما لدينا آنئذ(نثر)، نصنفه درجات؛ فنثر الرافعى فى(رسائل الأحزان)هو(النثر الفنى)، ونثر سطورى هذى هو(النثر الصحيح)، وأما نتاج(الشحر العر)بثلاث موجاته فليس أمامك فى تصنيفه سوى أن تدرجه فى صنف(النثر الردىء)غاية الرداءة.

     ومنذ ليلتين قد أثارنى من يستجيب للفاشلين فى نقمتهم على(أنغام الشعر العربى)بأن يدعو(الشعراء)إلى القرض بطريقة(تخفف الطرب)فى(أنغام الشعر العربى)! بالضبط كجارك الذى يدعوك إلى إرضاء الجيران الفاشلين بأن تقلل من قيمة نجاح أبنائك!
يا هذا، أدعوك إلى اشتداد(التطريب)فى أداء القريض؛ إنه أثمن ما نملكه فى قصيدنا العربى، إنه أثمن ما تتفرد به القصيدة العربية عالميا.

كل من(نازك)، و(السياب)، و(مطر)، و(البياتى)، و … ليسوا فقط (فاشلين)، إنما كل منهم (والله العظيم) قد أجرم جرمين مركبين؛ أولهما أنه (لص محترف)، والآخر أنه استغل (حاجز اللغة) التى (يسرق من أدبها)؛ ليستغفل أدمغة متابعيه الجهلاء باللغة التى يسرق من أدبائها؛ غالبية (نزار) مسروق من الروسى (فلاديمير نابو كوف)، لا سيما فى كتابه (رسائل إلى فيرا)، جميع (السياب) مسروق من (بابلو نيرودا)، جميع (أحلام مستغانمى) مسروقة من ثلاثة؛ من (المثنوى)، ومن (نيقوس كازنتزاكيس)، ومن (فرانز كافكا)، غالبية (جبران) منسوخ من (الزرادشتية)، ومن نصوص (التلمود)، جميع (نيتشة) مسروق من(هولباخ)، … !
مجموعة (لصوص)منذ الخمسينيات يقودون عقول من يسلمون أدمغتهم بلا (فحص دقيق).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى