في رثاء مملكة الفيسبوك
سهيل كيوان | فلسطين
ترتجف أصابعي رهبةً وأنا أكتب هذا الرثاء لسيِّد العالم المعاصر، تهرب مني الكلمات والتعابير، فالقلق كبير لا تستوعبه اللغة.
كيف حدث هذا في لحظات، كيف اختفى من حياتنا فجأة وبلا مقدمات، آلاف الأصدقاء والأقرباء والزملاء والرِّفاق.
السكتة الدماغية التي استمرت ست ساعات، لا تبشِّرُ بخير لأمَّتنا، أمة الفيسبوك.
لقد اقترب اليوم الذي سنضطر فيه إلى وداع مملكة فيسبوك وأعوانها، قد يحدث هذا بعد عام أو اثنين أو خمسة، ولكن النهاية باتت حتمية وقريبة، مثل نهاية أي كيان يبدأ صغيراً، ثم يافعاً ثم يرتد إلى أرذل العمر فلا يعلم من بعد علم شيئاً، مخلياً الطريق لمن سيأتي من بعده.
إنها كارثة مرتقبة، تشبه في تداعياتها انهيار سد مأرب في العام 150 قبل الميلاد، مع فارق جوهري، وهو أن انهيار سد مأرب حدث نتيجة لزلزال أرضي طبيعي، لم يكن لبشر سيطرة عليه. بينما سيكون انهيار مملكة فيبسوك وأعوانها من إبداع أيدٍ وأدمغة بشرية.
ست ساعات كشفت أعراض السكتة الدماغية الكبيرة القادمة، التي لن تصحو بعدها، وستؤدي إلى الوفاة، إنَّها بداية النهاية.
فجأة، اكتشف مئات ملايين البشر أن معظم علاقاتهم الاجتماعية محصورة جداً بمجموعات وأصدقاء لم يلتقوا بهم ولم يروهم إلا عبر الكلمات والصُّور، وأن المفتاح لهذه العلاقات والصداقات ليس بأيديهم، بل بلمسة وكلمة سر واحدة من زعيم مملكة السُّكر، قادرة على إخفاء كل ما بنوه في لحظة، فهو يقرِّر استمرار الصداقات أو وقفها، ويقرِّر السَّماح لك بالرَّد على منشور ما أو يمنعك، هو الأخ الأكبر الذي يحدِّد لك بالضبط ما هي المواضيع التي يسمح لك بتداولها، وما هي المواضيع التي ستعاقب إذا ما تطرقت إليها، وإلى أي درجة يسمحُ لك بالغوص فيها.
إنه يدفعك إلى الموقف السياسي والاجتماعي الذي يريدك أن تتخذه كي تحظى برضاه، ويدفعك إلى تجنب الموقف الذي لا يرضاه منك، ويبدو أنه منحاز إلى جهة ما، وليس بريئاً.
بذكائه استطاع مؤسس الإمبراطورية الزرقاء أن يُخضع أعداداً هائلة من البشر ليقدِّموا له الولاء غير المشروط، لتبلغ أعدادهم أكثر من مواطني الصين والهند وأمريكا وروسيا والبرازيل وفرنسا ومصر مجتمعة، وكل هذا بلا سيف ولا تهديد ولا حصار ولا غارات، فأنت تدخل بإرادتك وتصبح مواطناً برغبتك دون أي ضغوط عليك من أي جهة كانت، وعليك أن تلتزم بقوانين هذه المملكة.
كأننا ندخل السِّجن بإرادتنا، فقد منح كل واحد منا غرفته ومفتاحها، وجداره ليكتب عليه قصصه وآراءه ونكاته وصوره ومحاضراته وموسيقاه وإظهار أي موهبة من مواهبه.
أوهَمَ كل واحد منا أنه في غرفته الخاصة ولا يملك مفتاحها سواه.
أشعرَ كلَّ واحد منا بأهميته، فهذا يلقي أو يكتب شعراً رغم أنف محرِّري الصحف والمواقع الأدبية، وذاك توَّجه أصدقاؤه كملك الرّواية العربية والعالمية، وتلك خبيرة في الطريق إلى النجاح والحياة السعيدة.
سنفتقد إلى مناضلين كثيرين قاوموا وخاضوا حروباً لا هوادة فيها وهم في فراشهم الدافئ، سنفتقد إلى من يصنِّفون الناس إلى وطنيين وخوَنة، سنفتقد لمن يردحون لهذا الزعيم أو ذاك.
وسنفتقد لخِفَّة الظِّل التي تعرِّي نظاماً أو زعيماً مجرماً ولِصاً بجملة لمَّاحة.
سواء كانت هذه السَّكتة بفعل فاعل، أم نتيجة فقدان سيطرة ذاتية على الموقع، فإن يوم انهيار هذه الإمبراطورية سيكون حزيناً لمئات الملايين من البشر.
لن نعثر على أصدقائنا وأحبابنا، ولن نستطيع التواصل مع معظمهم، سوف نتشرَّد بين الصفحات العنكبوتية وأرقام الهواتف والعناوين المختفية.
سوف يسود فراغٌ رهيب، ونعود لنرى أن النهار 24 ساعة، وأن الليل طويل جداً، وأن في كل ساعة ستين دقيقة، وسوف نرى عقرب الثواني يدور دورته الكاملة حول نفسه، سوف ننتبه أن أعمارنا تسيل من الساعات المعلقة على الجدران.
قلبي معك أيها الموظَّف في بلدياتنا، كيف ستقضي يومك بلا فيسبوك ولا واتس ولا حتى إنستغرام؟ كيف ستخبر مجموعات الأصدقاء بأنك تمنَّيت صباحاً جميلاً فوجدتهم صباحك الجميل؟
أي ملل فظيع! قلبي معك أيها العاطل عن العمل، من سيرسل لك باقات الزهور مع موسيقى وكلمات تذيب البازلت.
قلبي عليك أيها المُدرّس المتقاعد، الذي قرَّر قرض الشِّعر، لمن ستقدِّم أشعارك؟ أين ستنشرها؟ ومن سيقرأها؟ ومن سيسمعك؟
من سيمنح الشعراء والكُتَّاب شهادات التفوُّق الدولية في الشعر والقصة القصيرة والآداب العالمية؟ من سيمنحنا لقب رسول السَّلام العالمي؟ من سيقول لنا، أنت صاحب أطيب قلب في العالم؟ وأن شخصيتنا جذابة ولا تقاوم؟ من سيمنح ذاك الثرثار لقب المناضل الكبير؟
ومن سيخبر أخبثَنا وأشدَّنا قذارة بأن نقطة ضعفه هي طيبة قلبه!
كيف سنشاهد إطلاق الرصاص بالبث المباشر على محلٍ لتصريف العملات؟
برحيلك أيها الفيس، سوف نضطر للعودة إلى الجلوس مع الأبناء والأزواج والآباء والأمهات، فماذا سنقول لهم؟ أنصح بأن تبدأوا بالتدرُّب على الجلسات العائلية منزوعة الفيسبوك، يبدو أنه شرٌ قادم لا بد منه.
أنصح بأن نبدأ بالالتفات حولنا، فعما قريب قد نضطر لاستقبال جارٍ في بيوتنا، أو الدخول إليه لنحتسي بمعيته فنجان قهوة، وسوف نسمع صوته وننظر في عينيه مباشرة.
بفقدان الفيس قد نجد أنفسنا مضطرين للمشاركة الفعلية في تشييع أحدهم إلى مثواه الأخير، وتقديم التعزية وجهاً لوجه لذويه.
هذه السَّكتة، كشفت كم نحن ساذجون عندما نتعامل مع غرف الإبحار (التشات) كأنها محمية بالفعل وغير معرَّضة للانكشاف في أي لحظة.
أستطيع القول إن أقوى جهاز مخابرات في العالم هو إدارة فيسبوك، ولديها من المعلومات أكثر بكثير من أجهزة مخابرات العالم مجتمعة.
أنصح الجميع بتسجيل أرقام الهواتف وعناوين تهمُّهم بالحبر في دفاتر اليوميات القديمة، فقد نستيقظ يوماً على سكتة إلكترونية تعيدنا إلى عصر انهيار سد مأرب، فإذا كانت فيسبوك أعظم الممالك الرَّقمية بهذه الهشاشة، فما الذي يضمن حصانة غيرها من الدُوَيلات؟!