يوتوبيا إيجابية أم سلبية؟ (2)
أميرة عبد العزيز | فنانة تشكيلية مصرية
هل سافرت مرة لِبلَدٍ ما واستغرقت رحلتك أشهر وربما سنوات..؟، هل لديك يقين ومعتقدات عن بلدٍ ما ربما تكون قد قرأت عنه في الكتب أو سمعت عنه، وشاهدت أفلام ومسلسلات تحكي وقائع عن هذه البلدان وأحداث مرت بها..؟ بالطبع ستكون الإجابة عند من جاءته الفرصة للقيام بمثل هذه الرحلات بالإيجاب.
لكن أتعتقد أن كل ما قرأته أو شاهدته وسمعت عنه كافِ بالدرجة التي تستطيع من خلالها الحكم على بلدٍ ما بعاداته وتقاليده ومن يستوطِنوه بكل عاداتهم وطقوس حياتهم..؟ بالطبع لا، ذلك لأن الفيصل هنا تجاربك أنت.. نعم أنت وحدك من يستطيع الحكم من خلال خوض التجربة والمعرفة، كيف لك أن تعرف عن البحر شيئاً زاعماً أنكَ تحبه وأنت لا تعرف عنه سوى شكله من الخارج وسطح البحر ودرجات ألوانه الزرقاء.
هل تعرف متى يكون هادئاً ومتى يكون ثائراً؟ هل غُصتَ في أعماق البحر وشَعُرتَ بِأعماقه ولامستكَ أمواجه برقة وحب مرة وبِغَضَبٍ تارة أخرى؟ هل جُرِحتَ من صخوره، هل رأيت ظُلمة أعماقه؟ هل سمعت صوته فَرِحاً عندما تشرق الشمس، وحزنه وآهات أمواجه عندَ غروبها كأنه يصرخ منادياً عليها ألا تَغْرُب وتتركه وحيداً..!؟، ربما إن أحسست بكل هذا تكون قد عرفته، وعندئذٍ سوف يكون لك الإختيار إما أن تُحبه وتذوبُ فيه عشقاً، أو يحدث عكس ذلك.
تذكر ولا تنسى إن انتهت رحلَتُكَ لبلدٍ ما، وعُدتَ منه إلى حيث كنت سوف تكون أكثر ثراءً فيما يتعلق بتجاربك ومعرفتك، بينما ستكون أكثر فقراً فيما يتعلق بكل ما لديك من معتقدات ويقين بكل ما يتعلق بما كانت وجهتُكَ إليه.
إن معظم دول أوروبا وأمريكا على وجه الخصوص أهم مبدأها هو – الثراء -، الثراء ثم الثراء ” كن ثرياً وسوف تصل سريعاً إلى القيادة.. لأعلى المراتب السياسية ” _ لكن ماذا إذن عن الديمقراطية..!؟_ وماذا عن مدى أحقية وجدارة وقوة وحكمة من يصل إلى منصب القيادة العليا ” الرئاسة “..!؟، إنني أشك في مبادئ أمريكا عندما تتحدث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان،،
لقد أصبحت السيطرة على الإقتصاد هدفاً وغاية للوصول إلى النفوذ السياسي الذي باتَ بدوره نتيجة حتمية للسيطرة على الإقتصاد.
وبناءاً على ما أضحى عليه العالم من سيطرة المادة عليه وتمكنها منه سوف تُدرك أن البشر جميعاً قد ضلوا الطريق.. ولنأخذ مثالاً في ظل ذلك هو” الإستعمار الذي تعرضت له معظم دول قارة أفريقيا منذ عقود من السنين، وبعض الدول الموجودة في قارة أسيا وأبرزها دولة الهند “.
لقد سخرَ توماس مور كما ذكرنا من قبل في روايته ” يوتوبيا ” من الأوضاع التي كانت عليها إنجلترا فقد كان حريصاً بل وأيضاً أميناً على توصيل فكرته لما آلت سوء الأوضاع آنذاك أملاً منه في تغييرها إلى واقعِ أفضل.
لقد كانت إنجلترا منبع الأدباء المهتمين، بكل ما يخص الإنسان وما يتعلق به من نفسه وجسمه وإهتماماته، وعموماً كانوا يؤمنوا بأن الإنسان لهو من أهم العوامل التييجب الإهتمام بها.
ألدوس هكسلي Aldous Huxley (1894-1963)
ومن هنا يجدرُ بنا الإشارة إلى ألدوس هكسلي ذلك الأديب والعالم الذي حَلُمَ بأن يكون طبيباً، ولكن المرض حالَ بينه وبين حُلمه وكادَ المرض أن يفقده بصره فتحول من دراسة الطب إلى دراسة الأدب بالرغم من أنه كان شغوفاً بالعلوم فقد كان أول من تنبأ بأطفال الأنابيب وبحبوب منع الحمل، ولِمَ لا..! فقد كان يجمع بين أمرين ” حبه للعلوم والبيولوجيا وحبه للأدب ” حيث كان جده عالما من علماء البيولوجيا، بينما كان والده أديبا ومن شابه أباه فما ظلم.
لقد جمع هكسلي بين نوعين من اليوتوبيا ” الإيجابية والسلبية “، وهذا ما يجعلنا لأول وهلة في دهشة ففي عام 1932 كتب روايته ” عالم جديد رائع ” وهي يوتوبيا ولكنه لم يذكر فيها الخطر الذري الذي كان يُحاطُ بالكرة الأرضية كأنه إخطبوط، والذي كان من أسوأ وأشرس إستخداماته في هيروشيما، ولكن سرعان ما تداركَ هكسلي الأمر وكتب مرة أخرى يوتوبيا بعنوان ( القرد والجوهر عام 1949 ) ولكنها يوتوبيا مرتدية رداءاً يُعبِر عن السلبية التي تدور حول فكرة فناء البشرية وزوال الحضارة بعد حرب نووية ضَروس، ولكنها أيضاً البداية الجديدة بعد الدمار.
لقد توفى ألدوس هكسلي عام 1963 ولكن قبل وفاته بعام كتب آخر أعماله بعنوان ” جزيرة Island ” وهي يوتوبيا إيجابية تتبلور وتتضح من خلالها التغيرات التي طرأت على شخصية هكسلي وتفكيره ونضوجه الفني والأدبي بما يشتمل عليه من تمكنه في المجال العلمي وذلك في آخر عشر سنوات قبل رحيله، حيث أصبح يهتم بالغيبيات وبكل ما لا يٌرَى وإن كان موجوداً بالفعل ولتأثره بالهند حيث زارها وتعرف عليها، فقد كانت فكرة الرواية تدور حول الوحدة بين البوذية والعلم الحديث والتي كانت قريبة من فكرة الروحانية وعلاقتها بالعلم الحديث.
إن مجال اليوتوبيا ليس فقط درباً من دروب الأدب ومجالاً من مجالاته المتعددة، إنما هو الواقع الذي نعيش فيه لذلك فإن مؤلف اليوتوبيا لذلك فإن مؤلف اليوتوبيا غالباً ما يكون مزيج من عالِم وأديب كما هو الحال في كل ما تم ذكرهم بدءاً من أفلاطون الذي لم يكن فقط فيلسوف حكيم وإنما فلكي وعالم وطبيب، وكما هو الحال مع توماس مور أيضا وألدوس هكسلي العلماء المهتمين بالأدب وكل ما يتعلق بالنفس البشرية. وللحديث بقية..