اللغة العربية.. تاريخ وعلم متجدد
محمد أسامة | الولايات المتحدة الأمريكية
اللوحة للفنان المصري محمد رضوان
اللغة العربية هي إحدى اللغات السامية التي نشأت من ذات الأصل، وترعرعت من نفس المنبع، وهي قديمة لم يدرك التاريخ نشأتها، ولم يساير نموَّها، ولم ينتهِ إليها إلا بعد أن أصبحت في قمَّة نمائها، وأوج عنفوانها، وهي أقدم اللغات الحيَّة التي لا تزال باقيةً إلى أيَّامنا، ويتحدَّث الناس بلسانها، وهي بعد لغة البلاغة والبيان، وأمُّ الإبداع والتبيان، وقد شرَّفها الله بأن جعلها لغة القرآن، ورسالة الإسلام، فنالت بذلك منزلة ورفعة، وارتقت قدرًا ورتبة.
والعلماء يقسمون اللغات إلى ثلاثة أصول وهي: الآرامي والسامي والطوراني، واللغة العربية لغة ساميَّةٌ غارقة في القدم، متعمَّقة في الأصل، وقد ظهرت قديمًا في زمان ما قبل التاريخ البشري، ولعلَّها أقرب اللغات الحية إلى اللغة السامية الأم، وبينها وبين أخواتها من اللغات السامية الأم صلات قوية، وتشابهات واضحة، وعبارات مشتركة، كالأشورية والسريانية والعبرانية والأمهرية، وقد فطن علماء اللغات إلى تلك العلاقات والصلات فتتبَّعوها بدراساتهم، وووضعوا خبراتهم ونظرياتهم، فتعقَّبوا الآثار القديمة، وتتبَّعوا الكتابات العتيقة، ووصلوا إلى كثير من الحقائق التي لا إبهام فيها ولاشك، وليس من اليسير الكشف عن أطوار النشأة الأولى للغة العربية القديمة وقد اجتهد الباحثون في تعقب ذلك عن طريق تتبع الآثار القديمة والنقوش الحجرية ورغم العثور على الكثير من تلك الأثار والنقوش إلا أنها لاتزال أقل من أن تثبت حقيقة واضحة أو معلومة مؤكدة ولكن الأرجح أن العرب في شبه جزيرتهم كانوا يجاورن إخوانهم من الأمم السامية الأخرى وكانت لغتهم من السامية الأم بمثابة العامية من الفصحى ومع توالي الهجرات، وتباعد المسافات، وتراخي الزمن، أخذت تلك اللغة تتباعد عن اللغة الأم، وتتمايز شيئًا فشيئًا عن الأصل، حتَّى وُلدت اللغة العربية وصارت لغةً قائمةً بذاتها، مستقلَّةً بأصولها وخصائصها.
ولم تكن اللغة العربية القديمة مثل التي نتحدَّث بها الآن فقد مرَّت العربية بمراحل حتى انتهت إلى ما انتهت إليه، ونضجت واكتمل بناؤها بالذي هي عليه، فهناك اللغة العربية البائدة التي تحدَّثت به قبائل العرب البائدة وهذه اندثرت ولم تصل إلينا، وهناك اللغة العربية الجنوبية التي كانت لسان العرب القحطانية، وهذه اندثرت أيضًا ولم تبق منها غير عدَّة آثار قديمة، وهناك اللغة العربية الشمالية وهي لغة العرب العدنانيين من أبناء إسماعيل بن إبراهيم – عليهما السلام – وهذه اللغة قد اشتقَّت من العربية الجنوبية ثم ما لبثت أن نمت وترعرعت، واتسع نطاقها وانتشرت، حتى غلبت على جارتها الجنوبية، واعتدل إليها لسان العرب القحطانية، وقد تعدَّدت لهجاتها هي الأخرى إلى أن غلبت عليها لغة قريش بفعل العوامل السياسية، وانتشار الأسواق التجارية، وما لبث أن نزل عليها القرآن فثبَّت دعائمها، ووسَّع نطاقها، ووثب بها إلى خارج حدود جزيرة العرب فغلبت على جميع الشعوب المجاورة من سريان وقبط وروم وأمازيع بانتشار الإسلام، وشيوع القرآن، وصارت حيَّةً باقيةً إلى يوم القيامة.
واللغة العربية غنيَّة بثرواتها، عالية ببيانها، واسعة بمعانيها، متعددة بكلماتها، فصارت دوحة للأدب والبيان، واتسعت صدرًا لعلوم الإسلام، وحوت القرآن الكريم بكل معانيه وكلماته، وشملت كل عباراته وآياته، واتَّسعت كذلك لتشمل العلوم القديمة والحديثة، والمعارف العتيقة والجديدة، فشملت علوم الأدب والفنون والفقه والتفاسير والحديث وعلوم النفس والاجتماع، وكانت وعاءً انصهرت فيه كل العلوم التطبيقية كالطب والفلك والكيمياء والفيزياء والأحياء والرياضيات والعمارة والهندسة، وواكبت كل العصور بلا عناءٍ ولا كلل، ولا مشقَّةٍ ولا خلل، فكان ذلك دليلًا على عظمتها، وشاهدًا على رُقيِّها وروعتها.
وتمتاز اللغة العربية بمميزات عديدة فهي أقدم اللغات الحية وهي أكثر أخواتها الساميات مفردات وأتمها معنى وأرقاها بيانا، وهي تتسع إلى كافة أساليب الكنايات والمجاز وكل أنواع البديع، إلى جانب ما تمتلكه من ثروة لفظية هائلة فترى الشيء الواحد يعبر عنه بأكثر من لفظ مثل (انكشف) يعبر عنها بأكثر من صيغة مثل: بدا، ظهر، لاح، تكشَّف، انقشع، انجلى، وكذلك كلمة (خمر) يعبر عنها بعدة مفرادات أخرى مثل: خمرة، نبيذ، سلاف، سلافة، رحيق، صهباء، مدام، راح، قهوة. وكلمة (أسد) يقابلها: غضنفر، ليث، سبع، ضرغام، وتجد العكس أيضا فترى الكلمة الواحدة لها معان متعددة مثل كلمة (عين) تعني عين الإنسان أي بصره، وتعني نبع الماء أي المكان الذي يتدفق منه الماء من باطن الأرض، وتعني الأهل وتعني أصل الشيء أو نفسه كأن يقال: هو عينه، وتعني كذلك الجاسوس وتعني طليعة الجيش أو رئيس الجيش حينما يقال: عين الجيش وتعني كذلك الشمس وتعني الجماعة من الناس كأن يقال: عين من الناس وتعني ما ضرب نقدا من الدنانير وتعني كبير القوم وشريفهم وتعني الحاضر من كل شيء. وربما تجد كلمة لها معنيان متضادان مثل كلمة (أدنى).
وقد أتاحت تلك الثروة اللفظية الهائلة التي تتمتع بها اللغة العربية للأدباء التوسع في الوصف والافتنان في التعبير والتوسع في التشبيهات والاستعارات والكنايات، وأمكنهم هذا من التلاعب بالألفاظ والمفردات إلى حد بعيد فظهرت بجانب تلك الفنون المعنوية مُحسِّنات لفظية مثل السجع والجناس والطباق والمقابلة والتورية وغيرها من عناصر البلاغة الأدبية.
وتمتاز اللغة العربية بأن لألفاظها المختلفة وقعا على الأذن له تأثيره الموسيقي الذي يؤثر في النفس سواء كان نثرا أو شعرا، كما أن اللسان العربي قادرٌ على نطق كل الحروف والحركات بخلاف لغات أخرى لا يقدر لسانها على نطق بعض الحروف وهي اللغة الوحيدة التي تنطق بحرف الضاد
وبلغ من رقي اللغة العربية أنها تركت انطباعًا على لغات أخرى عديدة، وحضارات كثيرة، وأخذت منها لغاتٌ أخرى بعض المصطلحات والكلمات، مثل الإنجليزية والإسبانية والبرتغالية والفارسية والفرنسية والأمهرية، وهذا يدلُّ على عظمتها، ورقيِّ حضارتها وثقافتها، وإلا لما تأثَّر بها غيرها.
ولم يكفّ أعداء الإسلام، ولا مناصروهم من أرباب الإلحاد، عن محاولاتهم الدنسة والدنئية، ومؤامراتهم الخسيسة والوضيعة، عن محاولة الطَّعن في اللغة العربية ومحاربتها، والنَّيل منها والتقليل من شأنها، قاصدين بذلك محاربة الإسلام في لغته، والطعن بدين الله في عين مبادئه، فمنهم من دعا بدلًا من الفصحى إلى إحلال العامية، ومنهم من دعا إلى كتابة الفصحى بالحروف اللاتينية، وهناك من يقلِّل من أهميَّة تدريس العربية وفهم مفرداتها، وأهمل معانيها وعلومها، ويدخل في ذلك من يكتب بالعامية بدلًا من الفصحى، فيكتب بها قصصه وروايته، ويؤلف على حرفها أعماله وأشعاره، مفضِّلًا تلك اللهجة العامية على لغة القرآن، ومن شأن تراجع اللغة العربية أن تضيعَ علوم القرآن، وتندثر معارف الإسلام، فيصعب فهمها، وتتعذَّر قراءتها، وتنسلخ الأمَّة عن عروبتها، وتنمحي عنها ثقافتها، وتفرُّ من دينها ومعرفة ربِّها، وهو هدف كل من تعلَّق بأذناب الغرب فجعل من نفسه تابعًا، وصار لهم مواليًا ومقلِّدًا، فأنكر ثقافة أمَّته، وجهل أصول لغته، ومن هؤلاء من زعم أن اللغة العربية الفصحى لم تعد تساير العصر، ولا طاقة لها على مواكبة الحداثة وتطوُّر العلم، وهو كذبٌ وافتراء، وزيفٌ وازدراء، فقد حملت اللغة العربية القرآن لفظًا ومعنىً، فكيف تعجز عن حمل علوم ومخترعات جديدة، ووصف كل المعارف وآلات الحديثة؟ وقديمًا اتَّسعت اللغة العربية لكل العلوم المقتبسة من حضارات الرُّوم والفرس واليونان والقبط، وقد تمَّ الردُّ على مزاعمهم تلك أن اللغة العربية تتَّسع لكل تلك العلوم، وتحمل كل المعارف، وتواكب التطور والحداثة والتجديد، لا يمكن فهم القرآن والسنة إلا بها، ولا يمكن الاعتماد إلا عليها، فاللغة هي نصف إيمان المؤمن، وهي عزَّته ونوره، ودربه ونبضه وحياته، لو انتُزعت اللغة من العربي لصار بلا رداءٍ عاريًا، وفي دروبه تائهًا، وأمسى وعاءً فارغًا، وباتت حياته شكًّا لا يقين فيه، وظلامًا لا نور به، واستحال جسدًا لا رُوح.