أمير نائم في زورق هادئ مكتظ بالمصابيح 

فتحي مهذب | تونس
اللوحة للفنان المصري محمد رضوان
(وشبيه صوت النعيّ إذا قيس بصوت البشير في كلّ ناد) أبو العلاء المعرّي (سقط الزند)
إلى روح الشاعر الغالي جدا محمد الصغير أولاد أحمد
لا تنس أنّك الآن في مكان ما من هذا العالم الفسيح جميلا ومتلألئا
وأبديّا طوبى لك
 ترتطم صاعقة النعيّ
ببلاطة صدري
كتصادم قطارين شقّيين
في نفق الروح المزدحم بالضحايا..
///
حريق هائل يهدم برج الرأس
زفرتان عميقتان تعبران
مرتفعات الجسد..
///
أبدو كقلعة أثريّة مهجورة
يهبط عليها صيف ملعون
من طابوق النار..
أقشّر الفراغ كجرذ
بينما تنبح المتناقضات تحت
سفح الكاحل..
///
يجرّني نهار سفسطائيّ من ذيلي المقطوع
كما لو أنّي نسر جريح
يملأ ديرا مهجورا بالزعيق…
///
عصفور مشمس
دهسته حشرجات المعزّين..
فتساقط ريشه مزقا مزقا
في حفر الهواء..
اذ لطّخت طوقه بالسواد
نبرات النعيّ
ماذا لو يفلت هذا العصفور المخذول
من أصابع الحداد؟
///
لم يبق حصان واحد
لأواصل القتال
بعيدا عن مدفنة الهامش
حيث ينبت أموات كثر
في تلّته الفسيحة…
حيث الطبيعة غروب خالص.
///
تصفعني قبّعة النعيّ
أتخبّط (كسمكة قوس البحر)
في شرك صيّاد
يروّض مخالبه لاستقبال
طحالب الغرقى..
بينما غيمة جارتنا الفقيرة تأكل
الضوء بالملعقة
وتنقسم الى شرفتين شفيفتين
تودّعان طفولة الأمير
النائم في قاع زورق..
بينما الكابة تبدو كطائر مذعور
تلاحقه دمعتان شفّافتان…
بينما أوركسترا(بوم الدوق الكبير)
تشعل
جنّازا ليليا في قمم الكلمات….
بينما ثمّة حمامة مسلّحة
تطلق نواحا حارا
بين ذراعي صنوبرة
متقدّمة في السنّ…
////
تنفرط دقّات قلبي كبطّ طائش
في بحيرة متألّمة..
تصعد طيور محروقة
من فوّهة رأسي..
ينكسر زجاج وجهي
ثقيلا ومدمّرا…
وجهي الذي يتقاتل في ساحته
جنود الليل والنهار
فيما قدماي تتهدّلان
كشفتيّ عجوز في الهزيع
الأخير من حلكته..
بينما أمّ مقفّعة الأصابع
تربّي قطيعا أليفا من الأحزان
في متحفها الشخصيّ..
بينما أسد حالك يفرغ حمولته
في عبّارة…
///
فمي بئر
تصعد الكلمات من أغواره
كراهبات بجلابيب سوداء
لا يتدافعن بل يتطايرن كاليراعات..
يقطعن أميالا من الحداد
في أيقونة الوجه….
صوتي قطيع نعام مذعور
يتجمّد في الهواء..
///
لم يهدني هذا النعيّ سوى طلقة
في القلب..
لم ينتبه أحد لعلّيقة
هذا المحو الزارب…
يهاجمني عويل منزليّ
من أعلى البلكونة…
تلسعني دمعتان جارحتان كما لو أنّ
دبورا منشقّا يبني شقّة فاخرة
في تقاطيع وجهي..
لم يقاتلني تنّين البلهارسيا مرّة ثانية
بل شرّدتني عتمة المريرة
وعضّني صوتها المقرف جدّا..
///
كلبي الجاحد- دون براهين-
تمثال صغير من القشّ
تأكله جمرة الوداع في القيلولة..
///
لن أسمح للنعيّ المكتظّ بالسحب
الذي يعجّ قلبه بالخفافيش
أن يذرف رمادي العدميّ
أمام مراة العائلة
أو يطفىء زهرة الأوركيديا
بضبابه الشخصيّ.
///
في انتظارك صديق
شاهرا سيف ديكارت
صديقك الميّت في لباس الطفولة
لم يعترف -يوما- للبابا
بثبات الأرض..
هامسا :الجسد حديقة برتقال
يحرسها ناطور غنائيّ
(توت عنخ أمون)…
في انتظارك أمير شركسيّ
بمجوهرات نادرة….
هنود حمر يجرّون عربات
ملأى بالفضّة والبركات..
في انتظارك طفولة تلمع آخر الممرّ..
إلاه دون مخالب..
ماسح أحذية منذورا لوطوطة السيمياء..
قبر مسنّ ينبح طوال الليل
لا يأخذه النوم حتى يداهمه قمر بارد
أو تمسّه يدك المقطوعة في الحرب…
في انتظارك شمس مهذّبة في الكافتيريا
تنظّف قبّعّة النادل العبثي
من صخب الغوغاء..
لها أحفاد نائمون في الأسفل
تحت ركام النسيان..
لن يستيقظوا أبدا…
لها قنادس جريئة تستدرج المتناقضات
الى طاولة العشاء…
لها جاحدون أمام الغار
حيث ينسج عنكبوت وديع
بدلة شفّافة للرسول
حيث ينتظر الرعاة سطوع البراهين
أو انفجار معجزة من أصابع الشحّاذ..
شمس كليلة تجلس على كرسيّ قديم
لا تأخذ بل تعطي مصابيح جميلة للعميان..
أجنحة عملاقة لمرضى الفالج..
في انتظارك اسكافيّ يرتق جزمة المستقبل
ماسحا مرايا مرايا المساء
بريشه الكثيف..
يرفعه ضباب خلاسيّ الى أفق النوم..
في اتظارك عاملة نظافة
دائمة التأمّل في نتوءات الهامش
تكنس حظّها العاثر
ويدها مصوّبتان نحو التلّة الزرقاء..
في انتظارك
زرقاء اليمامة فوق الجسر
تطاردها رائحة البنّ المتوحّشة
تطلق طائر البصر
في الأحياز الوسيعة وتسرّ لك :
جنّتك التي صنعتها بيديك
العظيمتين تعجّ بالشعراء المفلوكين…
في انتظارك شعراء منكسرون
يسقطون في لجّة المحو الواحد تلو الأخ..
لم تبق غير مزاميرهم
تشدو تحت سنديانة ضخمة اسمها النسيان….
ديك جارتنا
ذو الصوت الخشبيّ المليء بالشتائم..
الذي يشرب قصائدك في خلوته
ليزداد تجذّرا في الحداثة..
اثر موتك الملكيّ
شرّدته نوبة الماليخوليا….
في انتظارك امرأة شهوانية
محصّنة بقوّة المجاز….
تمتصّ أنساغ الضوء من حلمة النيزك
تهديك يوما أثيلا
لتشيّع تابوتك دون وسيط
الى حجرتها الغنّاء…
في انتظارك جلّاس غامضون
يشربون النبيذ
فيما الكلمات جواري يوزّعن الكؤوس والبواطيّ)
يذهبون الى ايوان الماضي
على أطراف كواحلهم..
يملؤون جيوبهم بأقواس قزح
وحين يطيرون الى المستقبل
يركبون أفكارا غريبة لاستشفاف
مستدقّات الأشياء….
في انتظارك العارف(،فيثاغورس)
رابضا حذو بيتك (الرادسيّ)
يخطف طيورا نورانيّة
ويضعها في أقفاص تفتح بالأرقام…
يصنع أمواجا عذبة من الموسيقى
ويوزّعها على العميان…
يصعد درجات الروح العالية
وبحوزته مصابيح الأرقام…
في عيد ميلادك القادم
سيكون ثمّة خدم كثر
لا يتكلّمون بل يبرهنون
لا يجلسون بل يسطعون….
سيهديك(فيثاغورس) مثلّثه الرياضي
ليكون برهانا لك على بهاء العالم…..
في انتظارك حفّار قبور
يعمّق الحفرة بأسنانه الصدئة
بينما النقرس يصفّر في مفاصله..
ويمطره بهدايا ثمينة للغاية….
أذكر أنّ لهذا المظلم المترامي بيتا معزولا في النسيان
وله زوجة معتّقة ابتلعتها أفعى البوا
في غابات النوم المطريّة…
طفل تنهشه ذئاب النعيّ في مصبّات الأنهار..
وله صديق جدير بفداحة العالم…
أذكر أنّ له وجها فارغا في مقتبل الكابة
تحمله كتفان على طرفي تقيض…..
في انتظارك
قطّ مشّاء يترعرع في النسيان
لا يتمرأى كثيرا..
قاسمك المصعد الكهربائي بالمستشفى العسكريّ..
عيناه المدهشتان مدقوقتان
في تقاسيم ملك الموت الجالس حذوك
بهدوء تام..
بأبّهة ملك أشوريّ حزينا..
مطلقًا صفّارة الربّ
ليحملك الى بيتك الأنيق
خارج ضوضاء العالم…
لك المجد ولك الخلود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى