فكر

جدلية الصراع بين السياسي والمثقف

بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين
يحيلنا موضوع الصراع بين السياسي والمثقف إلى إعادة النظر في تاريخ تلك العلاقة المتشابكة، فالسياسي لا يمكنه الخروج من عباءة التاريخ والماضي بكل تجلياته وأحداثه، أما المثقف فهو الباحث الدائم عن الحاضر والمستقبل بكل منجزاته العلمية وإبداعاته العلمية، مع معرفتنا العميقة بالعديد من السياسيين الذين يسوقوننا إلى الماضي بثقلهِ وكل ألوانه وأطيافه، والتي في معظمها كان مخفياً مغموراً ومغموساً بخاتم السلطة السياسية، وما تملكه من قوة عسكرية وأمنية ومالية. فقد دارت الأحداث بما فيها من استقرار ودماء في زمن الوجود، وغايته الرئيسية تمجيد الهيمنة والسطوة والقوة. وتقديم صورة ناصعة البياض لأصحاب الحكم والسلطة. إنَّ الدخول إلى متاهات التاريخ لا مخرج منها بسهولة، فقد سجّل التاريخ أحداثاً بأقلام المنتصرين وأصحاب السلطة الذين زوّروا الحقيقة في كثير من مفاصل التاريخ خدمةً للقوة والسلطة في معظم تكويناتها ومراحلها، ودعماً لوجودها وبقائها، وكان هذا مثار العديد من التساؤلات حول هذا السجل الحافل بالتناقضات المعتمدة على الماضي دون النظر في الحاضر والتطلع إلى المستقبل. وهذا ما جعل الخشية تدخل قلوب وعقول الكثيرين، فالولوج من جديد في مجاهل الماضي سيجعلك في خشية دائمة من معرفة الحاضر وخشية الولوج في المستقبل وعوالمه المتشابكة. على الرغم من انطفاء سراج الماضي بما فيه من سواد ومظالم، وما يتضمنه من وهج العلم والثقافة والمعرفة.
فبعض الماضي لم يصدر عنه إلا وعي ومعرفة وثقافة واسعة، هدفها خدمة البشرية مع اعتزازنا بما نملك من ماضٍ ثر جسّد كينونتنا وحضارتنا العربية والإسلامية في كثير من مفاصلها. وهو ما جاء بنا إلى هذا الحاضر القادم من الماضي. تلك الجدلية تدفعنا للتساؤل من جديد حول أنّ هذا الواقع قد جاء من الماضي بلا أدنى شك. مع أنَّ الماضي بمعظم مفاعيله قد مضى ورحل، وأخذ معه مفاعيله وأحداثه الرئيسية حيث كانت مهمته الأولى والرئيسية هو نقل ما يجمله ذلك الماضي إلى واقعنا الحالي كي تتم عملية التفاعل الحضاري والإنساني بشكلٍ أمثل. تلك هي الجدلية الحاضرة بيننا، فالفرد لا يمكنه نسيان الماضي، ليس هذا فحسب بل يجلّه ويقدّسه. ويجعل منه أساساً لحياته وحاضره المُعاش. وهذا ما أدى إلى خلق المزيد من الأزمات من خلال ما جاء به السياسي وسلطاته التقليدية. تلك الجدلية هي مَن أكملت حالة الخلل الرئيسي الذي أدى بالبشرية إلى التشرذم والتجزئة والانقسامات العامة المتتالية. وذلك لأنَّ مرجعية الماضي بما يحمل بأحداث لا تفيد الوقت الحالي لأنّ الواقع الحاضر له وقائعه الخاصة به ومبرراته وأسبابه، وما ينهله من الماضي سوى حيثيات من الواقع الحاضر، وما يحيط فيه من مؤثراتٍ كبيرة لها خصوصيتها وتؤثِّر في خلق وجود وحاضر يختلف كثيراً عما سلف.
إن من يعطي أهمية للماضي وللتاريخ ويساهم في تجسيده وتقديسه في الواقع الحاضر، فإنه سيؤثِّر بشكلٍ أو بآخر في عملية التقدم والتطور، فقد بقي السياسي يعيش في دهاليز الماضي ومعبده يقدّسه ويمجّد أحداثه، ويمجِّد السلطة القائمة مستنداً إلى الماضي والتاريخ. وهذا الفعل الرئيسي الذي أدّى إلى تلك الجروح المدمّاة في جسد التاريخ السياسي الحاضر الذي يصعب عليه التطلع إلى المستقبل. فقد ظلّ السياسي يراوح في تمجيد وتقديس الأحداث التاريخية مترافقة مع تمجيد السلطة والحكم والقائمين عليها. وهذا ما أدى إلى انقسام حياة الناس إلى مذاهب وشيع وفئات، تعمل على تقديس الماضي وتمجيده بما يحمل من مفاهيم وآراء قديمة لا تفيد صناعة الواقع المُعاش ولا المستقبل والقادم من الأيام. إلا من حيث الصيرورة والسيرورة المعرفية.
إنّ الاستغراق في الماضي وتقديسه وتمجيده يضعنا أمام العديد من الحواجز التي نبحث عن جميع السبل لتخطيها وتجاوزها كي نتمكن من خلق واقع جديد بشكّل أركانه وقواعده. محفزاً إلى ما سبق من ماضٍ قريب أو بعيد مشدوداً إليه بمفاهيم ومعتقدات لا تساهم في تطوير مراحل التقدم والتطور. ومن هنا كان لمعظم الثورات العربية الحديثة والمعاصرة توجه إلى الشباب المندفعين نحو المستقبل. ونحن هنا لا ندعو إلى قطيعة كاملة مع الماضي، بل ندعو إلى بناء الحاضر بكل مفاعيله بعيداً عن الماضي الذي يتضمن بعض السواد والظلام. والنظر إلى المستقبل بكل تطلعاته وأفاقه، وأن لا يعتمد على الماضي وكينونته، بل اعتماد الثقافة الوطنية الواعية المدعومة بالمعرفة والقيم والأخلاق السامية، لينظم حياته وتطلعاته ويدفعها نحو المستقبل وحضوراً قوياً تحت إشراف جيل آخر من الشباب، جيل يستطيع أن يخلق حياة مستقبلية معتمدة اعتماداً كبيراً على المعرفة وجوهرها، والحداثة والمعاصرة لجيل جديد آخر قادم يستطيع العيش بكامل إنسانيته محققاً حضوره اللائق بين الأمم، حياة تتحقق فيها الحرية والمساواة والعدالة والديمقراطية بكل تجلياتها، ويخلق مجتمعاً يرتكز في بنائه وتطوّره على الأسس الوطنية الثابتة، تلك الرؤية تختلف اختلافاً كلياً عن الرؤية الواضحة للسياسي وسلطته التي تعاني من البيروقراطية المستندة إلى قوانين الهيمنة والقوة الأمنية، والأذرع المصلحية الخاصة والمتشابكة. سلطة تعاني من اغتنام الفرص والانتهازية المفرطة. تهتم بالماضي والتاريخ البعيد وتقدّسه وتمجِّد الماضي بكل ما يحمل من تقاليد بالية باتت تثقل كاهل التقدم والتطوير والتحديث. لذا نجد معظم أعمال السياسيين وقد استندت إلى الماضي، وهذا ما أدى إلى مزيد من الشقاق والنزاعات والحروب التي ساهمت بقوة في تمزيق البلاد والعباد وجعلت المجتمعات في حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، وانتجت عداءً اجتماعياً دينياً ومذهبياً وعرقياً وحتى أخلاقياً بعد طعن تاريخ المجموعات الصغيرة وعقائدها، وتاريخ شخصيات وأفراد منها. وهو صراع مرير كان له قسوته الخاصة على الحاضر الذي يعيق العبور إلى مستقبل إنساني وحضاري.
من جهته فإنَّ المثقف الواعي الحصيف المتسلِّح بالقيم الأخلاقية السامية، وبالمعرفة العميقة، يعمل جاهداً على خلق توافق إنساني وانسجام بين أطياف المجتمع ليصنع حاضراً يتفاعل معه تحت يافطات وشعارات التحديث والحداثة والمعاصرة المستقبلية، وبكل إيجابية وارتياح. حيث يخلق معه شعار التحديث والحداثة المستقبلية. وهذا يخلق مفترقاً ومنعطفاً حاداً في مجرى الصراع السياسي الدائر، تمكّنه من انتزاع المبادرات السياسية الحضارية، تكون قاعدة وركيزة أساسية تتصف بالإيجابية، كبقية التفاصيل الجديدة والجديرة لمستقبل ديمقراطي قادم، ولجيلٍ آخر قادم. فكيف لماضٍ مضى وانتهى أن يخلق ما يثير الاهتمام في هذه الظروف الصعبة والمعقَّدة التي تمرُّ بها أمتنا العربية وهي ظروف غير عادية على الإطلاق.
إنَّ من يقرأ منهج وتاريخ السياسيين السلطويين في العديد من الأنظمة العربية، تتضح له الإشكاليات السياسية المتفاقمة بين السياسي ومنهجه، وبين المثقف الوطني الحداثي الذي يسعى إلى تحقيق إنسانية الإنسان وحضارته المستقبلية. تلك العلاقة الجدلية تلعب دوراً كبيراً في حالات الحراك السياسية والحراكات الصراعية، فقد ظهرت بشكلٍ واضح عندما استخف السياسي عن معرفة التاريخ والماضي ليكون له تاثير كبير في الحاضر، حيث أنضجت الحالات المعرفية الكثيفة التي هي حالات خلَّاقة ومبدعة في مسار الصراعات المصيرية التي ترى المستقبل بعينٍ ثاقبة ومنظار واضح، ولم تلتفت إلى حالات النزاعات التاريخية الماضية التي كانت قائمة على قواعد وأسس مذهبية وطائفية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى