على باب الله
محمد فيض خالد | مصر
يُحكى أنّ في مدينةٍ هادئةٍ في قَلبِ الصَّعيدِ النَّائي، جَلَسَ “الخواجة ماركو” أمام دكانهِ الكبير، يتأمّل الشُّعاع الباقي لهُ من شمس حياته، حينَ لم يتبق له من متع دُنياه؛ إلّا هذه الجلسة، وابنته الفاتنة “ماريّا” قَدِمَ صاحبنا المدينة شابا مثريا واسع الثراء، أقدمَ على تجارتهِ بنهمٍ، فمالأهُ القدر، وابتسمَ لهُ ثغر سعده، سنينَ عمّرها طوى خلالها رداءٍ شبابه، حسن السمعة نظيف اليد طيّب المعشر، وفِي زقاقٍ مُتهالك، وعلى مقربةٍ منه عَاشَ “يوسف” فتى قليل الحَول والحيلة، يعولُ أمّا فانية ، دأبه السّعي في طلبِ الحلال ، ما إن تأخذَ الشّمس تنفض بيدها غبار الظّلام، حتّى يجد طريقه إلى المحطّةِ، فوق رصيفها يستقبلَ بضائِع زبائنه في طرودها ليوزعها، لم يتبق لهُ من دنياه غيرَ مهنته، وقلوب أهل المعروف التي امتدت لتكفلهُ صغيرا حتّى شَبَّ ، فاندفع يكسب لقمته من كدّ ساعده، يوما بعد يوم يكبر أمله ، ويتشجّع فؤاده، لا حديث لأصحاب الدّكاكين سوى حديث همته، وبره بأمهِ ، ذَاكَ النّور الذي أضاء زوايا قلبه السّادر، ما إن يرجع مع مسائهِ متهدّم القوى، حتى تتفلّت نظرة من الوالدة فتبدو دامعة ، قريحة القلب، تُكابدُ ذكرى رحيل والده الذي تركهما في هذا المُعتَرك المُوحِش ، سرعان ما تعود لتستقر على شفتيها ابتسامة مهتزّة، تبعث في نفسها السلوى، وقد أصَبحَ فتاها رجلا صلبا ، مرّت الأيام ثقيلة ، كبر ” يوسف ” وكبرت أماني الطفولة، صحت عزيمته ، فبدا شابا منضور الشّباب، انزاحت عنه سُحب اليأس، فاستطاعَ بعد لأيٍ أن يكتمَ في صدرهِ أنات حزنه، في الشارع وجدَ لهُ مكانا افترشَ الرّصيف قُبالة دكان “الخواجة”، الذي أوسعَ له حينَ أكبرَ دأبه ونشاطه، لقد فُتِنَ بهِ من حيث لا يدري، بعدما لمسَ فيه شبابه الذاهب ، يُطاَلعه في حركتهِ بين زبائنه؛ فيثير النَّسيم الرّخي في رأسهِ ذكرياته البعيدة ، سريعا نزل من نفسه منزلة عالية ، اطمأن إليهِ فاستخلصه لنفسه ، كلّفه أداء مهام خاصة فوجدَ الحماسة تتفتّح في روحه، لم تكن ” ماريّا ” ببعيد عما يجري، فمنذ وجدَ “يوسف” مكانا له في قلبِ والدها، ولا حديثَ لهما إلّا حديث أمانته وطُهر قلبه، حتى لم يتبق في الصّبرِ منزع كي تتعرف إلى صاحبها، لم يجد أمينا يحمل حاجات بيته إلا فتاه الجديد، يوما بعد يوما وجدت الفتاة منه ما أذهلها عن نفسها ، قالت لوالدها يوما في انشراحٍ: “هنيئا لكَ فتاك الجديد، إنّني لأعجب منه، أوكلما حادثته زوى ببصره بعيدا، وأجَابَ بصوتٍ خافت يكاد يبتلعه الخجل، رغم أنّ صوته ليصبّ الحياة في الصّخرِ الصَّلد”، تَابعَ الأب حديث ابنته بنشوةٍ عارمةٍ وارتياح،بدت وكأنّما يراها لأول مرةٍ، فكلّما تحدّثت عن صاحبهِ؛ أشرق وجهها إشراق الخمر في كأسها، والتمعت عيناها ببريقٍ أخاذٍ لم يعهده، على ما يبدو أنّ كأس الودّ بين الخليلينِ قد صَفت، ومع تمشي الأيام مشى حبها في قلبهِ مشي الموت في الحياة ، ووقع حبه في قلبها وقع النّدى فوق تيجان الزّهر، راقبَ “الخواجة” حُبهما الطاهر في صمتٍ مسرورا، يرفع في كُلّ آنٍ يده ضارعا للقديرِ؛ أن يجمع بينهما في دارٍ هناءٍ وسعادة ، تزداد أمانيه يوما بعدَ يومٍ، حتى وهو يلحظ انتكاس صحته، واعتلال بدنه، فالمسكين يهدم السّعال أركان صدرهِ هدما، يتبدّى وجهه وكأنّما نفضَ عليهِ الموت غباره، لم يجد بدّ من أن يحمل نفسه على الأمرِ قبل فوات الأوان، وفِي أمسيةٍ دافئةٍ، وبعد أن مرّت هدأة من الليلِ جاهد طويلا كي يفاتح فتاه، نظَر إليه وقد تمشّت الصُّفرة في وجهه الهزيل، اخرج من درج مكتبه ورقة وطلب منه قراءتها، وقبلَ أن يجيبه، قال وهو ينفث دخان سيجارته مُتَوجِّعا: “لا أجد سواك ضامنا لابنتي حريصا عليها بعد مماتي”، تدفقت الكلمات من بينَ شفتيهِ في غيرِ رويةٍ، لم يترك للشَّابِ فرصةً كي يرد، صَمتَ مذهولا يُقَلّب صَكّ شراكتهما، وبعد أسبوع عُقِدَ قران “يوسف” و”ماريا” في احتفالٍ بسيط ضمّ أصدقائهما من أهلِ الحي، أخيرا استراحَ “الخواجة” ومسحَ عن نفسه ضيقها، الآن يستطيع الرّحيل في سلام ، تعاقبت الأيام على المدينة ونجم “يوسف” يتلألأ أكثر فأكثر، لتشهد ميلاد أشهر تجارها، الذي لاتزال محاله عامرة تُورّث في كُلّ شارع منها..