لا تصدّقوا أبدا أنّ الكتب تغني عن الإنسان

فراس حج محمد |  فلسطين

“أنا من بدّل بالكتب الصحابا”، هذا ما حدث أمس السبت (9 أكتوبر 2021) حيث تركت معتزلي وانعزالي وكسرت “حرمة السبت” لديّ، وتوجهت إلى جنين برفقة الكاتب السفير منجد صالح، شربنا القهوة في السيارة، وتجاذبنا أطراف حديث شائق متعدد متشعب، وصلنا ولم نشعر بطول الطريق التي كانت تخلو من المنغّصَيْن: الأزمة وسيارات المستوطنين؛ ما أفرح الصديق منجد.

في جنين كان الأمر عاديا على موعد مع ثلة من أدباء فلسطين المحتلة عام 1948، بترتيب الصديق العزيز حسن عبادي و”اتحاد الكتاب الفلسطينيين الكرمل 48″، لقاءات وأصدقاء وأحاديث كتب وثقافة، لا شيء جديد سوى التعرف على أماكن أثرية في المحافظة، زرنا كنيسة برقين وهي رابع أقدم كنيسة في العالم، في برقين 68 مسيحيا فقط. أثارت الصديق منجد كلمة فقط الذي رددها عدة مرات معين جبور خادم الكنيسة، شاب طويل نحيف أسمر، في كلامه لثغة غير سيئة بحرف السين، لكنها لفتتني على نحو لطيف. يبدو على جبور أنه شاب نزق ولا يتحمل النقاش ولا الأخذ والرد. لكنه غني بالمعلومات عن كنيسته وتاريخها وما فيها. أظنه أعاد هذه المعلومات آلاف المرات لطلاب المدارس والزائرين الذين يأتون إلى الكنيسة ليستمعوا إليه. تزعج معين الأحاديث الجانبية من الحضور مما أفسد الأجواء وأثار عصبيته، وقارن الكتاب بطلاب الصف الخامس الذين هم أحسن حالا منا نحن الكتاب، فمبجرد أن تقول للطالب اسكت فإنه يسكت، أما نحن فقطعناه ثلاث مرات قبل أن يتمكن في المرة الرابعة من مواصلة الحديث.

تركنا الكنيسة لنذهب حيث يرقد الشيخ سبع، المكان لا تبدو عليه الهالة الدينية، هو أشبه بمتنزه، بعدها إلى عرابة حيث قصور آل عبد الهادي، وهي الزيارة الثانية لي إلى هذا المكان، ليس الأمر لافتا للنظر أو للاهتمام هناك؛ الكلام مكرر، والشعر لا يشبه الشعر إلا قليلاً منه، عادي جدا وأقل، وقع الشعراء في نفق الحرية، وظلوا هناك يجوسون منطقة الشعر حيث أرهقوها وأرهقوا الشعر وأرهقوا المستمعين، ولم ينقذنا من حمأة هذا الاضطراب اللغوي سوى رفع آذان العصر، فقد كنا جلوسا في الساحة الأمامية للمسجد. قطعت جهيزة هذه المرة صوت الكلام ليعلو صوت الآذان ولا صوت يعلو فوق صوت الحق!

في لقاء جنين أيضا بعض الفائدة، رأيت أصدقاء لأول مرة، ومنهم الكاتبة الجميلة منال دراغمة، تواعدنا  قبلاً كثيرا أن نلتقي، ولم يحدث ذلك، ثمة أشغال وأعمال ودوام وروتين عمل قاسٍ، وظروف غير مناسبة، وكورونا، وأشياء أخرى، كنت فيما سبق، ومنذ مدة على اتصال دائم بالكاتبة منال دراغمة، ونتحدث عبر الهاتف كثيراً في شؤون الحياة والثقافة والمثقفين، امرأة مثقفة بلا شك.

حدثت بيننا فجوة وجفوة وانقطاع منذ العدد الواحد والعشرين لمجلة الليبي (سبتمبر 2020) التي نشرت مقال “شرعية الكتابة الإلكترونية المشتركة”، وهو قراءة لكتاب “لا مساس للحزن”، كتاب مشترك لمنال والكاتب الأردني سامر المعاني، تفاجأت الصديقة منال بالمقال، لم تعترف بالنقد الذي فيه، ولم تعترف بي ناقدا موضوعياً، ورفضت نشره على صفحتها. فانقطعت العلاقة، وامتنعت عن الاتصال بي وتحديد موعد للقاء أو تجديد موعد، لكننا بقينا أصدقاء فيسبوك صامتين. أمس الصدفة كانت خيرا من ألف ميعاد، إذ لو تواعدنا أن نلتقي لاختلفنا في الميعاد، فلربما يحدث ما يمنع هذا اللقاء، فكان عفويا، مفاجئا، صادقا، وحيويا، وفيه من الجمال ما فيه.

أمس، السبت 9 أكتوبر كان يوما جميلا أن عادت الأمور إلى شيء من طبيعتها مع منال، تحدثنا، وترافقنا في كل مراحل الجولة، لكنها ما زالت تتهمني أنني أشرعت سكاكيني في لحم النصوص بلا رحمة. عاتبة، ولكنها ذات قلب طيب، كما قالت، فتجاوزت عن ذلك. لا أدري هل بقي في نفسها شيء مني؟ بالتأكيد لن يزول الأمر بسهولة، فقد جرحت كبرياء النص والكتابة. كانت تثق بي ناقدا وصديقا وكاتباً، فانهار كل ذلك بفعل مقال واحد. لله در الكتابة ما أشد خيانتها أحياناًّ!

قفلنا عائدين، ونهمّ بركوب السيارة، كان لنا حديث أنا ورفيق الدرب منجد صالح مع الأستاذة سحر أبو زينة، تربوية، قوية، ذات إرادة، تقاضي السلطة، بسبب إحالتها على التقاعد القسري، فالسلطة تنتقم من موظفيها بطريقة شنيعة، أحالتها إلى التقاعد في يوم المعلم الفلسطيني قبل نحو عام (14/12/2020)، اهتممت بقضيتها في ذلك الحين، وعممت قضيتها على الإعلام تحت وصف “قضية رأي عام”، وراسلت المواقع التي أتعامل معها، كان الأمر قاسيا بالتأكيد. لم نلتق ولم نتحدث قبل يوم السبت هذا، ولا أذكر أنه كان بيننا تواصل من أي نوع حتى على هوامش الكتابة من تعليقات وتفاعلات. لكنها تعرفني جيداً بوصفي كاتبا ذا خيال وقدرة وجرأة، وأنني واحد من خمسة كتاب يمنعونها عن الكتابة إذ إنها تتوجس مني، فكيف لها اللحاق بي. كلامها عني أشعرني بالخجل كثيراً، إذ أفاضت بالمدح، فالتقت هي ومنجد في معلقة مادحة تمنيت أن يكفّا عن المدح والوصف. سحر تحضر للماجستير في الجامعة الأمريكية ضمن برنامج حل الصراع، وتستعد لنشر كتابها الأول.

الأستاذة سحر قريبة لسعادة السفير منجد صالح، فأبوه المرحوم الحاج “أبو المنجد” وأمها الحاجة “صبحية” أولاد عمّ، حقيقة ومفاجأة أسعدتهما معا، فمن الجميل أن تخرج من البيت دون خال لتعود بخالٍ آخر النهار كما علقت بفكاهة لطيفة سحر أبو زينة.

لم تنته المفاجآت وعندما علمت أنني من تلفيت، أليست هذه القرية التي تدخل إليها من زعترة ويتما؟ سألتني. أجبتها نعم إنها هِيَ هِي. مفاجأة أخرى، لقد كانت سحر بضيافتنا الليلة الفائتة لشأن عائلي عند أحد أعز أصدقائي. ثمة قرابة لها في تلفيت، أنا ومنجد صرنا على علاقة وطيدة مع سحر، ما يعجبني في هذه المرأة أنها قوية وغير مهادنة، وقاهرة للمصاعب، وما زالت تناضل من أجل أن تعود إلى وظيفتها.

المحزن في قصة أبو زينة أن السلطة رفضت إعطاءها “حسن سلوك”. إنه اغتيال معنوي أشد ألما من التقاعد القسري أو الاغتيال الجسدي. ثمة عنف عند الأمن السلطوي ليس له منطق بل إنه أسوأ ما يكون. تخيل بعد خمس وعشرين سنة مربية أجيال ومديرة مدرسة ومؤتمنة على أطفالهم، رفضوا أن يعطوني شهادة “حسن سلوك”. تقول ذلك بمرارة وتأثر. لكنها تقول ذلك وهي تتحدى معنويا  وعلى أرض الواقع كل عناصر الغباء السلطوي الزائد عن الحد.

المفاجأة الثالثة في طريق العودة، يركن السفير منجد صالح سيارته على جنب الطريق ليتحدث بالهاتف، نحن الآن إذاً على مشارف “سيلة الظهر”، أفهم أننا سنذهب إلى أحد أصدقائه. إنه الدكتور نبهان عثمان، دكتور في الهندسة ودكتور في الاقتصاد، وله أبحاث كثيرة ومقالات وكتب، قامة وطنية وعلمية وعقل اقتصادي فلسطيني فذ، ذو تجربة كبيرة وغنية، وزيادة على هذا وذاك فإن نبهان رجل فيه من الاستقامة والنزاهة والبعد عن “عهر” المسؤولين السياسي والمالي والاجتماعي بعد السماء عن الأرض، ما جعل بعض رجالات السلطة وإمّعاتها ينقلبون عليه، وهو الأمين العام لاتحاد الاقتصاديين الفلسطينيين الشرعي المنتخب بنزاهة مطلقة، ينقلبون عليه بطريقة عنجهية فظّة ليس فيها احترام للقانون ولا للإنسان ولا لكفاءته العلمية التي طبّقت شهرتها الآفاق شرقاً وغرباً. لقد رفض رشاويَ وصلت إلى ملايين الدولارات.

لم تكتفِ المؤسسة الأمنية بتخريب “الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين” والسيطرة عليه بالهيمنة الأمنية وتعيين الأمين العام غصبا عن المنطق وعن الإرادة الحرة للكتّاب الفلسطينيين، أرادوا أيضا أن يقضوا قضاء مبرما على الاتحاد العام للاقتصاديين الفلسطينيين الذي يضم في عضويته عشرات الكفاءات ممن يحملون درجة الدكتوراه من الاقتصاديين الأكاديميين. يستبدل بهم الأمن طلاباً وأعضاء غير اقتصاديين، ليشكلوا اتحاد بديلا بتعيين أمين عام جديد؛ عسكري متقاعد، وأعطوه المقر والشرعية، وتم طرد الهيأة الشرعية المنتخبة حسب النظام الأساسي، حالة عنف سلطوي تلتقي مع حالة الزميلة سحر أبو زينة فالمنطق هو هو، إنما الفرق في تجسيد هذا العنف وتجلياته.

وصلنا إلى بيت الدكتور نبهان، لا أحد في البيت، البيت مرمم حديثا، بيت والده، هذا البيت الذي شهد اجتماعات قادة ثورة 1936، انتظرناه قليلا حتى أتى، شاب أسمر، مفعم بالحيوية، من مواليد عام 1949. ليس غريبا على هذا الرجل أن يهزم الكورونا شر هزيمة، فهو عنيد وصلب وصبور.

يجري الحديث بيننا بسلاسة، كأنني أعرفه منذ زمن، المفاجأة الأكثر انبهاراً أن جده أسعد عثمان غانم، جاء لزيارة قريتنا تلفيت على حصانه، وكان الفصل شتاء، وقع عن الحصان وتوفي في القرية ودفن فيها. فقبر جده موجود في تلفيت إذاً، وكان على علاقة مع جدّنا “الحج محمد”، فكانا ينتميان إلى شريحة واحدة، إقطاعيان، ولهما هموم ومصالح مشتركة. هذا ما يذكره نبهان من أيام طفولته وكان في حدود عشر سنوات، يحفظ اسم القرية واسم المضيف جد عائلتنا الأكبر إلى الآن، تقفز إلى ذهنه القرية والاسم بمجرد أن عرّفني منجد عليه وقدّمني إليه بحفاوة وحب وصدق رغبةٍ في أن نكون أصدقاء.

هكذا أصبحت الصورة مكتملة عن الصديق الجديد نبهان عثمان غانم، ذي الأصول الإقطاعية، لكن أباه وأعمامه قادة في الثورة، ثورة 1936، ومنهم أبو خالد والد الشاعر المعروف خالد أبو خالد، وتم الاعتماد على سيرتهم ونضالهم في التغريبة الفلسطينية التي كتبها الدكتور وليد سيف، فأبو صالح في التغريبة هو والد خالد أبو خالد. وعم الدكتور نبهان ووالده لهما وجود محوري في التغريبة. بل إن كثيرا من أحداث التغريبة قد عاشها أو سمعها من أبيه وأمه وأعمامه أو من معارفهما في المدن الفلسطينية الأخرى.

عدا ذلك، فإن الدكتور نبهان ذو ذاكرة حية متوهجة، يستذكر كثيرا من الأحداث والمواقف في الوطن وخارجه، ووقوفه ضد عمليات النهب والسرقة الوطنية والعربية للمال العام، ووقوف سلام فياض ضده عندما كان فياض وزيرا للمالية، فبدا شخصا غير مرغوب فيه، لأنه نزيه أكثر مما ينبغي! وتم إيقاف راتبه لمدة عشر سنوات متتالية ليتقاضى منه مبلغا زهيدا، مع الحرمان من التأمين الصحي. تذكرنا جميعا كيف تعاقب القيادة الفلسطينية أبناءها بحبسهم وإيقاف رواتبهم والتضييق عليهم إن هم تمردوا على قرار القائد العام، كما حصل مع عزت أبو الرب ومع خالد أبو خالد ومحمود درويش وها هو الدكتور نبهان ينضم إلى هؤلاء المعاقبين.

لدى الدكتور نبهان الكثير من الأسرار المفاجئة الصادمة السياسية والشخصية، ويصلح أن يكون شاهدا على العصر، وعلى حقبة من النضال الفلسطيني، بكل ما فيها من محطات وتقلبات، وكواليس وانتقادات وكوارث وطنية ترقى إلى أن تكون جرائم في حق هذا الشعب الذي ما زال يفتقد إلى الوعي العام المحرك، ليثور ضد سلطة ونظام يسيران به نحو الهلاك المحتم! وكم أتمنى أن يكتب كل تلك الأسرار في كتاب لعله يساهم في كلمة للتاريخ، ليأتيَ جيل يقرأ عن فظائع القيادات التي لا تعرف معروفا ولا تنكر منكراً. بل إنها تشجع كل أنواع المنكرات السياسية والمالية والشخصية.

امتدّ بنا الوقت في ضيافة الدكتور نبهان عثمان غانم حتى ساعة متأخرة من الليل، لم أكن أرغب- حقيقة- أن ينتهي لقاؤنا، فرجل مثله، ذو تاريخ علمي حافل، ونضالي مشرّف لا يحسن أن ينتهي الحديث معه. اقترحت على صديقي منجد صالح أن نبيت ليلتنا عنده، لكنه لم يناقش الفكرة بتاتاً، فلا بد من أن يكون صباحا في رفقة أولاده الذاهبين إلى المدرسة.

خرجنا من البيت ولكنه ظل يرافقنا طوال الطريق، فهو معنا عدا كتابيه اللذين أهداهما لي “الاتفاق الإسرائيلي- الفلسطيني بين السياسة والاقتصاد” و”تشيكوسلوفاكية بين تأثير الماضي واضطراب الحاضر والخوف من المستقبل”، فقد أمهر توقيعه على الكتابين، فكتب أولاً: “صديقي العزيز فراس الحاج محمد أهديك هذا الكتاب عله يكون مفيدا مع خالص احترامي وتقديري”، أما الكتاب الآخر فكتب إهداء بتأثير من الصديق منجد، فجاء على هذا النحو “إلى صديق صديقي العزيزين مع خالص احترامي وتقديري أهديك هذا الكتاب كي تصل إلى نتيجة كيف القيادة لها دور في انهيار الدول… تحياتي”.

هذا اليوم جعلني أومن بالشطر الأول من بيت شعر للشاعر أحمد شوقي يقول فيه: “أنا من بدل بالكتب الصحابا”، نعم لقد استغنيت عن الكتب في هذا السبت، ونفضت نفسي من مرقدها في عزلتها، لأتعرف على ما هو أهم من الكتب، الأصدقاء الذين قابلتهم؛ فهم أفكار حية تعيش وتتنفس، وكتب نابضة بالحياة، وتستقي منها التعلم مباشرة. فما حاجتك للكتب وعندك أصدقاء كهؤلاء!

رحم الله أحمد شوقي كم كان متشائماً ومتجنّياً في شطر البيت الثاني عندما قال: “فلم أجد لي وافيا إلا الكتابا”، فلا أجمل من الأصدقاء كأنهم أشجار  معرفة مثمرة بما يغذي العقل ويمتع الروح.

شكرا لك صديقي منجد صالح وأنت تهديني أصدقاءك، فلا أجمل من هذه الهدايا، فخير جليس في الزمان هم الأصدقاء، لا الكتب، وليغضب المتنبي، أصدقاء رائعون على شاكلة منجد ونبهان ومنال وسحر، وحسن عبّادي الذي كان سببا في هذا الجمال كله، فلولا الحج إليه لأراه وصحبه في جنين لم يكن ليحدث معي كل هذا.

فكم غريب هذا اللقاء، فقد كان قليل الكتب، غزير المعرفة. لا تصدقوا أبدا أن الكتب تغني عن الإنسان، صداقةً ومحبةً ومعرفة.

10 تشرين الأول 2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى