رواية ” أسد أم جفيل الأعرج ” (17)
طارق المامون محمد | شاعر وأديب سوداني
غضب السلطان “هاشم” أيما غضب من “سرور” ، الذي عاد الى “الأبيض” تاركا السرية في تلك الغابة لتسليم “مهران التونسي” له ليقوم بسجنه أو يرى فيه رأيه بعد انجلاء المعركة والسيطرة على مناطق الجبال ، فرأي “سرور” أن الخطر كل الخطر من هذا الغريب ، فله مقدرة على الإقناع و مال يشتري به الناس و يستطيع أن يجهض هذه الحملة إذا ما اتفق مع “حاكم” ، لذلك فقد قرر أن يعود به الى “السلطان” بنفسه لأنه لا يضمن أحدا ، و كذلك فإن إبقاء “مهران” حيا لربما يكون مفيدا ذات مفاوضات مع “حاكم” او مع “سلطان الفاشر” أومع أهله إن كان له أهل يتابعون أخباره من يدري.
لكن “السلطان هاشم” لم يكن يرى شيئا أهم من جيشه الذي تركه “سرور” في الغابة بسوء تقديره وغباء تصرفه ، رغم أنه يعلم حجم المعاناة التي تكبدها في إخراج هذه البعثة العسكرية و خطورة مواقعها التي تركتها و الزمن الذي يسابقه قبل أن يعلم بهم “سلطان الفاشر” ، فالحملة اختارت هذا الطريق الطويل للتمويه وبقصد السِرّية ، فالزمن إن طال يكشف أمرها ، فيستعد أهل المنطقة حتى قبل مناصرة رجل “الفاشر” القوي لهم ، ولذلك صرخ في وجهه أمام “التونسي” موبخاً إياه على هذا التصرف الغير مسؤول كما يرى “السلطان” ، و قال له :
– لقد ندمت أيما ندم بتصديقي لك و باعتمادي عليك و بنظرتي الخاطئة التي وضعتك في موضع لا تستحقه …
لم يترك مجالا لتفسير أوشرح من “سرور” ، و أمر بأن تتحرك البعثة مستعينة بالوفد الذي بقي معها في معرفة الطريق الى حيث غاياتها ، و أن يستبقي “سرورا” حبيسا مع “مهران” التونسي الذي قرر قتله أو النظر فيما يفعله به بعد أن تهدأ ثورته ، لكن أصحاب رأي قالوا له :
– إن “سرور” رجل له مكانته عند أهله ، وهو من تعهد لك باستمالة أهل المنطقة للوقوف الى جانبك ، فإن استبقيته عندك و حبسته غضب بقية الوفد الذين لن تضمن ولاءهم بعد الآن..
وبعد تفكير وتروي رضي بإرسال “سرور” مرة أخرى مع الحملة بعد أن حذره من التهاون في هذه المهمة ، و أنه سيحمله مسؤولية أي فشل يحدث ، و رغم أن الطريق بين “الأبيض” وبين مفترق الطرق حيث ترك “سرور” جيشه ينتظره أخذ مسيرة الخمسة أيام للجيش الثقيل الكثير التوقف ، فإن “سرور” قطع المسافة الى “الأبيض” في يومين مع أسيره “مهران التونسي” و خمسة من الجند ، اتخذهم حرسا يحرسونه و الأسير لئلا يفر من بين يديه فتكون الخسارة مضاعفة ؛ وصل سرور الى الأبيض في يوم الجمعة حيث تمتلئ المدينة بالقادمين من القرى للتبضع في يوم السوق الكبير ، ثم قضى يوما عند السلطان ريثما اتخذ فيه قراره ، و أمره بالتحرك صبيحة اليوم التالي قبل أذان الفجر و أرسل معه جندا عشرا إضافة الى الخمسة الذين جاؤوا معه ، و أمر بقتل “الغريب التونسي” في مكان عام بحجة الولاء “لسلطان دارفور” الذي يناصبه العداء ، وأمر بأن يكون ذلك بعد أسبوع و في يوم السوق حيث يجتمع الناس و في الميدان الكبير ، و جعل المعلنين يخرجون بطبولهم يضربون عليها ليجمعوا الناس حولهم ثم يعلمونهم بقرار الملك بإعدام “غريب تونسي” وجد يتجسس على جيش السلطان، ليكون عظة و عبرة لمن تحدثه نفسه بالغدر و الخيانة، فإن المنطقة تموج بالقبائل المتداخلة بين السلطنتين المتحاربتين ، و محفزا لذلك الذي ينتظر الإنجازات التي ترفع روحه المعنوية، و لم يأبه السلطان لقول “سرور” و لا محاولاته بإثنائه عن قراره هذا ، و لا للوساطات التي لم تدخر وسعا في ذلك بإيعاز من “سرور” ، الذي كان يعلم مدى شعبية “التونسي” هناك، “فسرور” فلم يكن يريد قتله بقدر ما أراد أن يستفيد من حبسه و المزايدة به في تعزيز سلطانه بين أهله، فكان القرار أن ينفذ الحكم فيه يوم الجمعة يوم السوق و بعد الصلاة الجامعة في الميدان العام و قرب مسجد السلطان، بهذا جرت الآلة الإعلامية التي بثها في المدينة و ضواحيها كلها…
تحرك الستة عشرة نفرا مسرعين ، و قد أوكلت قيادتهم لشخص آخر جعله السلطان قائدا للحملة كلها ، و غير موقع “سرور” في هذه الحملة الى كبير مستشاري السلطان، بدلا من قائد عام الحملة ، و أمرهم بالأخذ برأيه و تقديمه على بقية الآراء ، إلا فيما يتعلق بالناحية الحربية فإن القائد له مطلق الحرية و التصرف..
و في الطريق و في اليوم الثاني و على بعد مسيرة يوم من مفترق الطرق ، ظهر من فوق الأشجار غبار مثار يبدو من بعيد متحركا نحوهم ، و بعده بقليل سمعوا صهيل أحصنة و خفق حوافرها في الأرض تعدوا مسرعة صوبهم ، ثم ظهرت الخيل المستنفرة من بعيد بعضها يحمل صاحبه و البعض الآخر يعدو بلا راكب فوق ظهره عددها ليس بالقليل ، أمر قائد الحملة جيشه بالإنقسام الى قسمين سبعة يختبؤون يمين الطريق و الثمانية الباقين يكونون من على يساره ، وجعل نفسه و “سرور” في الذين هم على اليمين و أمرهم بعدم الحركة والتدخل إلا بإشارة من عنده.
السلطان “هاشم” الشاب الطموح ، وافقت خطة “سرور” حلما قديما له بضم منطقة الجبال الصعبة الى سلطانه ، وكان كلما هم بتحقيق حلمه أتى من ينصحه بتثبيت أركانه في الحدود الجنوبية الغربية المتاخمة لنفوذ سلطان “الفاشر” ، الذي بدت نزعاته التوسعية في اتجاهه جنوبا ، رغم ما تردد عن أن دوافعه التي قادته الى التحرك جنوبا كانت دوافع دفاعية بحتة ، لتأمين حدوده من هجمات القابئل الجنوبية ، التي أحست بالقوة إثر توحدها تحت قيادة كجور ربط لهم الغيب بالواقع و أحيا في نفوسهم دوافع القوة و محفزات المجد، لذلك اتجه السلطان “هاشم” جنوبا ليكسب أرضا يحاور حولها في حَربِهِ يشغل بهاغريمه، ريثما يقنع سلطانا آخر شديد الطموح هو سلطان مملكة “الفونج” الشرقيه بمؤازرته في طموحه، يشكل معه تحالفا قويا يستطيع من خلاله ضم كل السودان الشرقي و الغربي و السودان الأدنى حيث أنهار أفريقا الغناء في “مالي” و ساحل الذهب “غانا”، و لكنه أيضا لم يكن يأمن “سرور” ، الذي تحركه أحقاد شخصية لا تخلو من نزعات استعمارية قد تتطور في مثل هذا الوضع الهش الذي تعيشه المنطقة ، إضافة الى أن هذه المنطقة الآمنة المستقرة الثابتة الولاء لسلطان “الفاشر” إذا ما وصلت أخبار تحركاته فيها الى هذا الأخير فإن ما رمى اليه بخطته سيتضح و ستجعل سلطان “الفاشر” يتحرك حركة سريعة تقوض له كل أحلامه التوسعية ، و تطيش بتحالفاته المتمناة أدراج الرياح ، خاصة أن الرد لم يأت من سلطان “الفونج” العظيم بقبول هذا التحالف النزق بعد ، لذلك كانت ردة فعله عنيفة إزاء ما قام به “سرور” من رجوع بعد أن وجد غريمه التونسي ، “فسرور” لا يعرف أن فشل حملته الصغيرة هذه ربما يؤدي الى ضياع مملكته كلها من بين يديه.
و في مساء الثلاثاء الأخير من يوم الجمعة الذي سيعدم فيه التونسي و السلطان راقد يقلب أفكاره في رأسه تذهب به الأماني و تعود به المخاوف ، تدخل خيل مسرعة الى قلب مدينة “الأبيض” ، يركب بعضها جند كان قد انتقاهم بعناية ، لحملة تخضع إقليم الجبال الى سيطرته ، و بعضها يحمل سروجا بلا فرسان ، لتقف أمام أسوار قصره ، أحدثت جلبتها الى حين تجمعها ضجيجا قطع أفكاره و بعث جنود الخوف و الفزع الى رأسه وقلبه ، لتدك كل حصون الأماني و الآمال أمام ناظريه دكا دكا ، نظر السلطان الى جنده العائدين فوجدهم بين ملقى على ظهر جواده خائر القوى و ين ملقى على الأرض قرب جواده ، كلهم يهذي: الأسود …الأسود … الأسود…
يتبع…