جبرا حنونة .. صوت شعري خاص وقمة في الإخلاق والقيم  الإنسانية

محمد زحايكة | القدس

التقى الصاحب بالمثقف والشاعر والأديب جبرا حنونة أول مرة  في ” دهاليز ” مجلة عبير التي كان مقرها في عمارة العلمي بشارع الحريري في مدينة القدس، فوجده إنسانا غاية في الأدب والتهذيب والذوق الرفيع واحترام الأخرين بعيدا عن التشدق وادعاء البطولات أو “الفحولات ” الأدبية ، يتسم بحلاوة الروح والحديث اللبق والمبسط، فكان الصاحب يمضي معه أوقاتا حلوة وماتعة في تبادل الأحاديث الشيقة خاصة وإن الصاحب وجبرا اكتشفا كل بطريقته الخاصة دهاليز مجلة عبير، وهي في الحقيقة دهاليز صاحبها عطالله نجار الذي بدا للصاحب ” دهلوزا ” كبيرا وغير ذي مصداقية..  ولكنها على أية حال  كانت تجربة، بعجرها وبجرها، ومحطة في حياة كل منا وعدت على خير أو على ضيم..

وكان الصاحب بين الفينة والأخرى يطلع على كتابات جبرا ولغته العربية الجزلة القوية، كونه من الضليعين فيها وقدرته على تطويعها للتعبير بأسلوب خاص ومميز به ، فيه من الرشاقة وقوة التراكيب وسحر  البيان والتعبير مما حبب الصاحب في لغة الضاد أكثر وأكثر.

وفي تلك الفترة وأظنها في اوائل تسعينات القرن الماضي لم يتسن للصاحب الاطلاع على كتابات جبرا  وإبداعاته الشعرية إلى أن اقتحم حياتنا سعادة الفيسبوك،  فصار الصاحب يتابع بعض المقطوعات الشعرية التي ينشرها تباعا، فدهش الصاحب من جمالية هذه الأشعار، والذي كان يظن وبعض الظن إثم، أن شعر جبرا هو شعر عادي لا لون ولا طعم ولا رائحة  له يشبه شعر أحدهم الذي يقال له يوسف حامد وديوانه الغريب العجيب ” الأسد يغتسل بلونه ” الصادر قبل أربعة عقود وربما أكثر؟

والمثير في الأمر أن الصاحب كلما تمعن في أشعار جبرا  حنونة أثارت في نفسه أحاسيس ومشاعر رقيقة فياضة لدرجة اعتقد فيها الصاحب وما زال أن بعضها يمكن أن يلحن  ويغنى، فهي قصائد غنائية جميلة وسلسة  تميل إلى استخدام الجمل والصور الشعرية الحالمة وهي فوق ذلك مفعمة بعواطف وطنية ملتهبة  صادقة ووقادة بعيدا عن الشعاراتية والكلمات الكبيرة والجعجعة المقيتة وتصف الحالة الشعرية، مكنونات النفس البشرية بنبرات هادئة ولكنها حادة كالسيف والنصل الحاد في كشف التناقضات والزيف ومظاهر الفساد العام والطام كما يفهمها أو يقرأها الصاحب على قدر فهمه واستيعابه، كونه قارئا جيدا ومتذوقا  فحسب لا يجيد النقد ولا يعرف طرقه.

جبرا حنونة.. حالة شعرية خاصة.. قد لا يكون صوته الشعري صارخا وعاليا ومدويا، ولكنه صوت حقيقي يعبر عن واقع كئيب وملتبس يمر  به الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال والذي يعاني من حالة توهان وضياع وفقدان البوصلة، فتأتي الأصوات والإبداعات الشعرية، كأمثال جبرا، لتدق جدران الخزان، وتحذر، كونها حارسة للحلم الوطني الجمعي من التمادي في واقع التشظي والفرقة والانقسام الذي من شأنه أن يبدد كل شيء ويرتكس بطموحات وأحلام الشعب ويقوده الى الحضي. ورغم هذا الواقع البائس واليائس إلا أن صوت جبرا  يبقى يحمل شعلة الأمل في حدوث التغيير الإيجابي  المطلوب والمؤمل وتخطي هذه المرحلة والحقبة  الكئيبة المنحطة والعبور إلى بر الأمان  في يوم ما .

جبرا حنونة صوت شعري رصين ومتميز لم يأخذ حقه في الانتشار والتعريف به نتيجة حتمية ومقررة لحالة الضياع وانعدام الاستقرار وغياب الأطر المؤسسية التي تتولى حمل هذه الإبداعات إلى العالم.

كل الاحترام لإبداع وتألق جبرا حنونة رغم كل هذا الظلام الدامس الذي يخيم على الحقبة  الفلسطينية الراهنة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى