المقدس والمدنس في مسرحية “ما كان وما دار” للكاتب ” عمّار نعمة “

جاسم الصافي | العراق – قاص وإعلامي بقناة الفيحاء

جاء اشتغال الكاتب عمار نعمة جابر ضمن أدوات نصه المسرحي ما كان وما دار الحائز على جائزة دبي الثقافية لعام 2011 ليحاكي به العقل البشري أكثر من الوجدان الإنساني والخطورة دوما تأتي من هنا , أي في ما هو وجداني ومقدس وما هو عقلي ، فحين يكون للكاتب بحث أو عمل أدبي (رواية ـ مسرح) نجد ان من الصعوبة أن يرتقي الكاتب بذلك النص، في زمن أصبح فيه الفقيه سياسي والسياسي فقيه، كل همهم هو أن التفنن في تضخيم كل ما هو عاطفي ومرعب تجاه المقدس أو المتخيل الديني، لأن قواعد السياسية تعتمد على المنفعية وهي تنص على أن من ينتهك التابو يغدو هو نفسه جزأ من ذلك التابو، وهي منافسه أزلية ما بين الفقيه والزعيم.

لقد حاول الكاتب عمار نعمة جابر أن يجد في عمله هذا أفق لقطب ثالث يتوسط السماء والأرض، وقد أفلح في الاقتراب من هذه النقطة الخطرة، وهي التابو الذي كان رحى الإشكالية الحديثة، بعد أن أماتت الإيديولوجية وانتزع منها الإيمان، وركن ليكون مجرد هاجس بدائي أوجب على الإنسان أن يتخلى منه، لذا اختار الكاتب في عمله مناخا كلاسيكيا أو صورة كوزمولوجية، لما فيها وفيها من معتقدات في المجتمعات التقليدية، ليصبح الموضوع قادرا على أن يستعيد طفولة العقل البشري تجاه المقدس، ويستعير منه المحرم بشفافية أدبية، يعادل فيها الأيديولوجي والمذهبية.

فيستهل الكاتب عمار نعمة عمله في تعريف المكان، بأنه مملكة ذات تسع وتسعين معبدا، ويظهر من الرقم الذي يتكرر على لسان شخوص المسرحية تلك القصدية التي نتحدث عنها…

خادم ثان: لا تتحدث عن أهل مملكة المعابد التسعة والتسعين بهذا الشكل…

التي عناها الكاتب وهي قريبه لما هو مأثور لدينا من مقدس هذا الرقم بدليل أنه يكرر منه أحد مشتقات هذا الرقم في قول الكاهن… بوركت سواعدكم السمراء، التي تبني صروح المجد والمتمثلة بتشييد ثلاثة وثلاثين نصبا جديدا، للإله المقدس ذي العينين الواسعتين….

ثم يصف الكاتب من خلال الحوارات ان هذه المملكة تطل على نهر عظيم نهر خصب ونماء، وحضارات الأنهر معروفة لنا، إذ كان الكاتب مع امتداد العمل وهو يستخدم المناخ الكلاسيكي والصورة الـ كوزمولوجية حيث يذكر

وزير الأمن: لقد مات قبل دقائق بعض المسؤولين… ومات معهم جموع كبيرة من الناس… وهم الآن يتساقطون في الشوارع والأزقة والمدن… على طول النهر… إنهم جياع…

أن الكاتب هنا قد عنى من مفردة النهر منحاها الأسطوري حتما… وهي محاولة منه لتقريب الواقع المحلي في وصف أهل تلك المملكة (إنهم بسطاء، ويعتنقون دينا واحدا، ويعبدون إلها واحدا، لكنهم يختلفون في رؤيته) وهذا يحصر ذهنية القارئ في حاضر اليوم والصراعات الطائفية والسياسية، أي إنه إسقاط شبه مباشر، لبقعة من الزمان والمكان الذي نحن فيه تأتي ضرورتها مع الخيال القريب، فيكون بالنتيجة خيال لواقع سحري.

في بداية العمل يقول الخادم وهو ينش على الطيور: اغربي أيتها الطيور من هنا… طيور غبية … ولأهمية هذه الطيور التي ستكون موضع اهتمام النص المسرحي, سيتشكل منه تساؤلا عن

ما هي أهميتها وهيئتها، هل هي حمائم، أم غربان، أم نسور، أي نوع من الطيور تلك؟ وهي تقبح الأشياء في الجانب السياسي حيث القصر الذي تطرد منه ويقصد طبعا جانبه الزماني، وتقدس في الجانب الآخر الجانب الديني حيث المعبد ويقصد الجانب المكاني، لتكون من بعدها حطب لعملية التصعيد في الصراع داخل النص، حين تثار قضية تحريم أو حِلِّية أكل تلك الطيور …

الشاب ينادي اقرأوا فتوى تحريم طيور المستنقعات… وطيور المعابد المقدسة… وهو يعطي منشوراً لأحدهم ويقول: اقرأوا فتوى تحريم طيور المستنقعات… وطيور المعابد المقدسة…

الشاب 2: أيها الناس… أيها الناس… اسمعوا وعوا… لقد جاء أمر الإله… فلقد جاء كاهننا الأعلى المفدى، وحي من السماء صباح هذا اليوم… يؤكد أن طيور المستنقعات، وطيور المعابد حلال أكلها. وليس محرما أبدا.

ثم يزيد من حدة الصراع من فعل تلك الطيور، ذلك الفعل الشائن وهو بمثابة سخرية من العقل البشري الطفولي …

المرأة: صباح هذا اليوم حلقت أسراب من هذه الطيور، واتجهت باتجاه معبد ذي الحاجبين المعقودين، ومعبد ذي الحنك الدقيق، ومعبد ذي الأنف المدبب.

رجل 1 وماذا حصل؟ … تكلمي؟

المرأة: قامت هذه الطيور…أأ… يا إلهى… كيف أتكلم بمثل هذا الحديث…

رجل 2: سيدتي أرجوك تكلمي… فقط اذكري ما لذي فعلته هذه الطيور…

المرأة لقد…أأ… لقد ذرقت…

إن الطيور التي دنست تلك الآلهة، كشفت لنا زيف قداسة هذه المعابد، كما عرت أمامنا أن البشر ليسوا أحرارا حين احتجزوا عقولهم في كل ما هو مقدس، ولم يكن بمقدورهم أن يحبو إلى ما هو أكثر من ذلك الفضاء الموروث، رغم أنه يعتبر القوة الفاعلة دوما في تاريخ البشر، وهي سلطة مسكونة في داخلنا بقيود ما هو مقدس، وقد يتبادر للذهن هنا سؤال… من هو الجاني؟ ومن هو المجني عليه, هل الطيور التي ذرقت على كل ما هو مقدس ووجوه الإلهة ووجه الملك ووزيره, أم إنه الإنسان الذي خلق قداسة كل ذلك الصراع الذي بقي أزليا في تكفير وقتل الأخر؟

لقد عمل الكاتب من صراعات الحدث، على تعظيم علاقة المقدس والمدنس، اللذان لا يجتمعان بل ينفي أحدهما الأخر، ولكن في عمل الإنسان يجد أن الضرورة تجعل المدنس يخدم المقدس، إذ حين تحرم أمرا ما إنما أنت تجعل من عكسه مقدس، وهو السبب الذي تعمَّد على يديه التعصب الديني وهو يجد فسحه أكبر حين يظهر في أفق التجربة الإنسانية الكلية، تلك هي ألازمة التي يبتكرها عمار نعمة جابر من أبطاله ازمة تاريخ …

المتظاهرون: لتسقط مملكة أكلي طيور المعابد المقدسة…

تسقط مملكة أكلي طيور المعابد المقدسة… يسقط عبدة الشيطان…

يسقط الملك… تسقط وزارة الأمن… تسقط المملكة… تسقط المملكة…

يدخل رجال الأمن… يركضون بالهراوات خلف المتظاهرين… يمسكون بعضهم… ويهرب الآخرون.

نلحظ إلى أي مدى قد يصل التصعيد الوجداني للمقدس، إلى الحد الذي يسقط فيه النظام، ويعري المقدس المطلق نفسه، إنه التابو الذي ينطوي على دلالتين متعارضتين… الأول دلالة المقدس الخطر، والثانية دلالة المدنس المقلق، ويعني بذلك التعبير عن كل ما يرتبط بالخوف المقدس، أو ما يقال عنه بالتابلو الدائم المتعلق بما يصدر عن الكاهن والزعيم، وهي صفة المقدس الذي يتجاوز طبيعة الأشياء العادية، الى أن يصبح بفعل التراكم المتوارث، قوة تقليدية وعرف يزيد من فاعلية الأسطورية والخرافية في الذاكرة الجمعية للبشر، والتي تفرض علينا نحن جيل اليوم واجب إكراهي

نحو الأمس ذلك المألوف أو المعتاد في أجيال قد سبقتنا، ليكون بعدها سنن قانونية يشرعها الزعيم السياسي حيث لا يمكن العبور بها إلا لما هو محرم دينيا أو سياسيا لهذا يقول فلهام فونت وهو فيلسوف وعالم نفس الماني (إن فكرة الحرام، تشمل جميع العادات والأعراف التي تفصح عن الخوف المستشعر إزاء بعض الأشياء، بالاتصال مع الأفعال المرتبطة بهذه الأشياء…. وهو يمثل الدستور غير المكتوب والأقدم عهدا للبشرية.

أن نص مسرحية “ما كان وما دار”… كان ملحمة تحاكي واقعنا المعاش، بل جارى الأحداث التي تجري اليوم، وهي محاولة جريئة لتجاوز الوجدان التي تعتبر أحد الركائز المهمة في العمل الادبي، ومحاكات الفكر بدلالات كوزمولوجية، ووظائف طقوسية معقدة، معقدة لا يمكن للكاتب جمعها بسهولة مثلما فعل الكاتب في مسرحية “ما كان وما دار” بين من ملك… وما طار… الحائز على جائزة دبي الثقافية لعام 2011.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى