سوران محمد: يقرأ نصوص 7 شعراء من جريدة عالم الثقافة
سوران محمد | شاعر ومترجم وناقد
عندما نريد ان نتحدث عن نتاجات روحية کالشعر فعلينا ان نتريث و نتوخي الحذر ونتجنب الافراط والتفريط، أي بمعنی آخر نعطي حقوق النصوص بالقراءة اللازمة وهضم ابعادها الابداعية، ولو ان المعنی الحقيقي لأي عمل أدبي کما قيل ينبض في قلب الاديب أو الشاعر، لكننا بدورنا کمتلقي علينا القيام بعمل شيء ما لفك الرموز والشفرات و کشف القيمة الجمالية و الاحاطة بميزات ابتکارية فيها و التمتع بلذة فهم طبيعة و نوعية لغتها وشكلها العام، مع التعمق في روءاها و أفكارها الصميمية، مستعينا بمذاهب نقدية حديثة وموثوقة معتمدة.
لقد قطفت باقة جميلة من القصائد المنشورة علی الموقع الثقافي المرموق ‘عالم الثقافة’ واندهشت من مستواها الرفيع و رصانة معانيها و دلالاتها المتجددة متماشيا مع الجرأة والصدق اللذان لاحظتهما و أكتشفتهما من خلال ازالة الستار عن الاسرار الكامنة والمخفية من وراء المقاصد متجسدا في الالفاظ والمعاني، حيث لا تغلو و تلعب بالالفاظ بل انما تطرح فکرة قوية و حادة مرتنطة بنا و تهزنا من الداخل، هذه هي سمة مابعد الحداثة
فلنبدأ مشوارنا مع ميسون صالح في “سأجرب” حيث تأخذ بأيدينا الی عوالم الشاعرة وهمومها علی خط أفقي کي تنتهي بنا بصعود عمودي نحو الاسئلة الفلسفية المعقدة والتي تحيرت العلماء من الاجابة عليها. ولکي تسأل سوءالها الجوهري تقدم لنا جزءا من معاناتها و تجاربها الحلوة والمرة و ترسمها شعريا کي تأتي الی الاصل المتعلق بالعنوان وهي تجربة النهاية للأنسن أو الموت.. هي تذوقت رحيق زهرة الياسمين و طعم التراب و طعم الحرب ، لكن ما لا تعرفها حقا هو طعم النهاية !!
أما في “لا حاجة لي بالمواعيد” للشاعرة ريناس إنجيم نتلمس صدق الشاعر و قمة التضحية والذوبان في الآخر، الجزء المكمل لوجودنا، حيث هي تلعق الزمن خلف زجاج ساعته، ثم تتمرد عن المألوف السائد نضالا صادقا نحو الامل الذي قد طال انتظاره، هذه هي الحرية المنشودة تجتاح بنا عواصفها من کل الاتجاهات، نعم الصورة الشعرية المكونة من الخيال والواقع تنفخ روحا في جسد الشعر و بتکر من خلالها الشاعرة صورا شعريا جديدة لم يفكر بها شاعر من قبل، کاستخدام الشاعرة للمصطلحات المركبة مثل: الارتداد عن الحنين و قطع عنق المکائد:
احتاج أن أكفر بالانتظار
وألعن المسافات
وارتد عن الحنين
و اهزم معاقل الوحدة
واقطع عنق المكائد
وازين أشجار البلوط
بـ أسراب مشاهد مثيرة
تسافر بنا
حيث ذروة الملذات
التائهة بين النبرات
و الأجساد المغطاة
بالحكايا والأسرار
أما في “مقطع من نصّ طويل” لمحمد شوشان:
الأوغاد …
تنازعوا الجُرحَ فيناَ
أهالوا عنّا رماد مشهدٍ متّئدٍ،
حيثُ لا أحد تسلّل من أوردتنا
نواجه من أول وهلة قصفا غزيرا من فوهة مدافع الشاعر، تارة صوب الجبابرة و تارة نحو المسبب الحقيقي عن تخلفنا و ورطاتنا، نعم ان الشاعر لبالمرصاد علی کل هوءلاء الاوغاد الذين اجتثوا فينا جذور الاصالة والعدالة والمساواة والرجولة، هنا و لأول مرة نصادف التفات شاعر الی دنيا الاحياء و هندسة جسم الانسان، ولم لا؟ فأن الحياة برمتها مادة خامة لألهامات الشاعر و استخداماته، هكذا يرتبط الشعر ربطا عضويا بالروح والجسد بالماضي والحاضر وبالخيال والواقع، اذ ان الشاعر علی اطلاع واسع بعلم الهورمونات و الجينات، والا كيف تكون و بنی منه الشاعر هذه الصورة الشعرية القوية والموءثرة والمتبلورة في اسلوب نقدي ساخر نحو ذكور المدينة:
في شارعٍ جانبيٍّ ،
حيثُ هرمونات أنثى
انفرطتْ
على الإسفلتِ …
الإسفلت الذّي دهسَ كلّ ذكورَ المدينة الحُبلى ،
و لم تَلِدِ !
ثم ان شاعرنا المتمكن جيلالي بن عبيدة في “بياض المجاز” تبحر بنا في أنهار المجاز ومحيطاتها، کم هي جميلة و موءثرة القصيدة التي لا تستعمل فيها اللغة المباشرة بل تتعبنا و تجرنا الشاعر وراء أفکاره المجازية شيئا فشيئا الی ان نرتفع الی مستوی لغة الشاعر و تخيلاته و قوة استنباطه من مجريات الامور والطبيعة و ذكر الاسلاف، حينئذ نشعر بنشوة في داخلنا و هي التي سماه رولان بارث بلذة النص، نعم هنالك اختزال شديد للمعنی و اقتصاد في الكلمات و تجمع للمفارقات والمعاکسات، اذ نجد في عالم المجاز قد يهمس الحمام ، الذئب يسرق الحذاء والطريق تبكي کما تبكي الام، لكن تلك المفردات والمخلوقات ليست الا رموزا لأيصال معنی ما للنص من خلال تلك الصور الشعرية الخلابة وسريالية في آن معا:
أتخيل خيل جدي
تعبر جرجرة التطفيء النار
تغزل من أشجار الزيتون فستانا للبنات
فيضحكن نارا و ماء
كأن الحمام يغيب و يسكب في الطرقات صراخي
و يهمس للريح كي لا تأتي
فيحضر ذئب الطبيعة يسرق من قدمي الحذاء
فتبكي الطريق و تبكي أمي
حين يغيب صراخي
و يحضر صمتي
أما في “جغرافيا الياقوت” لا جغرافيا البلدان تقطف لنا الشاعرة نرجس عمران باقة من الازهار الحزينة علی شرفة بيت خالي، تنتظر صاحبها کي تروي عطشها و تمسح دخان المعارك و التراب علی وجهها كي تزهو من جديد، هنا الارتباط الروحي تغذي الروح والجسد معا، فلا مجاعة بعد الآن لو ان الحبيب يتسع غرامه الزاحف على أطراف الأبدية، وهكذا الصور الصادقة نابعة من واقع الشاعرة و لا يستطيع احد منا تجاهل مبدء الاخذ والعطاء مع الاخرين في البيئة والواقع الذي نعايشه، هنا نتلمس الانسجام والتكامل والتكافل متماشيا مع کل ذرات الكون المتحركة ايجابا نحو البناء واعطاء أدق معنی للحياة و أطفاء نيران الواقع المزري من خلاله:
أرنو إليك بعيني الثالثة
فعيناي لا تكفيان
لإسقاط جمالك الكبير
على مستوي روحي
المتماهية مع جوع مدقع
ومن هذا الطيف إلی “عكاظ ماوراء الأغريق” للشاعر خالد جمال الموسويتعلو صوت الميثولوجيا و تشترط علی المتلقي ان يكون علی علم بحضارة الاغريق والرومان و قصص السلف و عبر التأريخ كي يتسع لنا المجال فهم مرامي و مقاصد الشاعر من خلال لغته المكثفة المعبرة، هكذا يتموج الشعر بكشف التناقضات في الذين يخاطبهم الشاعر حينما يفتح قصيدته بتنويه هام: (لا تبسمل وكلك معوذات).. وهذا ما نتوقعه في زمن التناقضات. نعم ان جزء من الهام الشاعر مستوحاة من قصص ابراهيم و ابليس و مريم العذراء و نوح والخ.. لكن بالمقابل تمكن الشاعر من الاتەان بمحصلة جديدة و صنع اجمل شکل من فخار التربة، اذ يجمع الشاعر هنا بحور الخليل مع بحر الارض الذي فيه ماء وهذا هو الجناس التام يأتي بمعنيين كما ان استعمال زهايمر للخرائط محاولة جادة و موفقة لأبتكار صورة شعرية مجازية لم يخطر علی بال شاعر من قبله، ان الرسالة المخفية من وراء الدوال ترشدنا الی مآسي الواقع الانساني و تخلف و غربة قد يتجرعها من له فهم و احساس و وعي وقد نتسائل مع الشاعر أين کل هٶلاء المشاهير والفلاسفة ورواد الحضارات، ماذا بقي لنا الان، أين نحن منهم؟ هل نحن في تقدم ام تخلف؟
لا نملك تباشير نلون بها ملامح الذكريات
أين بلاد الأغريق،
هل فيها من حيكم يعالج زهامير الخرائط
انتهى الوقت ولم أجد سوق عكاظ،
نخشى على شارع المتنبي ونحن نقرأ الحروف بتوجس
كم الساعة الآن، هل من أحد هنا يرتدي الوقت؟
ختاما و لو ان الثيمة في “أنت كل شيء” للشاعرة المرهفةوعد عبد العزيز صيوح كثيرة التداول، ولغتها مبسطة عامة، وهذا ما نسميه (السهل الممتنع) اذ ان فيها اشارات جميلة و غنية جديرة بالذكر وليس من السهل الاتيان بها، هنا نتعامل مع شاعرة تفقه من عالم الروح ما لم يعرفه الكثيرون منا، و لا يمکن ان تحصل هذه الا بالمجاهدة الروحية و التعمق في شعابها، ولو ان الروح موجودة فينا لكنها ما تزال غامضة و مجهولة وهي من عالم الميتافزيقيا؛ نعم ان للارواح صفات کما للآجساد سمات، فأصحاب الارواح المتناسبة والمتشاکلة و المتشابهة في الصفات تتعارف علی البعض والعکس صحيح کذلك و هذا ما أشار اليه الحديث الشريف : “الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف” وهذا ما تعلمه الشاعرة للمخاطب و تمتحنه بمعرفة شعوره هل هو علی ما عليها الشاعرة وهذا هو القياس الصحيح عند الشاعرة للأمتزاج في الاخر ومعرفة صدق محبته، كما هو مقام عليا و هو حالة تجل وعرفان نفسي إيماني مرده إلى كثرة ذكر وتدبر المريد لشيخه في المذاهب الصوفية وهكذا حال العشاقين:
فالأرواح النقية المتشابهه لاتحتاج إلى مُقدمات لدخولها القلب.
هل تشعر بما أشعر؟
أن الأشتياق موجع كأمٍّ مقطوعة اليدين وهي تُشاهد ابنها يغرق
وهل تدري؟