أيُّها الطائرُ الغريبُ
خالد جمعة | فلسطين
اللوحة للفنان: Danielle Richard
أيُّها الطائرُ الغريبُ
من أينَ جئتَ بهذه الرعشةِ التي تعلنُ عن الصباحِ كلَّ فجر؟ وكيفَ لسبعين لوناً أن تخفق في ريشةٍ واحدة؟
وأنت تحُكُّ العمى عن جلدِك بلا ريشٍ يُذكرُ، وما زالت القشرةُ البيضاءُ تعبّئُ نصف العشِّ، كنتَ ترى الوقتَ القادمَ كحلمٍ إضافيٍّ وتخزّنُهُ كحروفٍ للزقزقة، كنت تخرجُ من صمتِ الجوعِ إلى كلامِ الأمانِ حين تحسُّ ريشَ أمِّكَ يطغى على برد الأمسيات، كم نسراً كان في السماءِ يختطفُ سيرةَ الطيورِ من الهواء؟ وحدَكَ نجوتَ وظلّت الشجرةُ في مأتمٍ موسمين وأغنية.
[][][]
أيُّها الطائرُ الغريبُ
حينَ اكتشفتَ الفضاءَ أوّلَ طيرانِكَ الخجول، لم تفهم ضيقَ العُشِّ مع اتساعِ العالمِ، ولم تفهم لماذا تسيرُ بعضُ الكائناتِ على الأرض فيما الطيرانُ ممتعٌ يجعلُ كلَّ شيءٍ ممكناً، لم تعرف لماذا بعضها كان يملكُ أجنحةً ويعيشُ على إحسانِ البشريين وجوار بيوتهم، أخذك عالمُ المعرفةِ إلى بلادٍ وبلادٍ وبلاد، إلى فصولٍ وغابات، إلى بحارٍ ومخلوقات، وكلّما عرفت شيئاً خنقَكَ الجهلُ من جديد، فبقيتَ تدورُ حولَ الأرضِ مرّتين كلَّ سنةٍ، وكلما عدتَ إلى بدايتِك، وجدتَ عالماً جديداً لم تعرفه من قبل.
[][][]
أيُّها الطائرُ الغريبُ
لم تؤاخِ شجرةً لتعلنَ وطناً على الملأ، امتلأتَ بالحزنِ والترحالِ إلى آخرِ ريشةٍ في ذيلِكَ الخمريّ، دائماً كنتَ أوّلَ مهاجرٍ وأوَّلَ من يعود، تمرُّ فوقَ العالمِ مثلَ نقطةِ الفاءِ في اللغة، لا أحد يذكرُ أنّهُ رآكَ في سربٍ يوماً، ولم يذكر أحدٌ أنه رأى هذا الجمالَ في الكونِ من قبل، كلُّ خفقةٍ من جناحكَ المتآمرِ مع الهواء، كانت تعبث بطقس العالمِ فتزيدُ أمنياتُ المزارعينَ فيحلمونَ بغلّةٍ خارجَ المنطقِ والحساب، كنتَ وحدَكَ كأنك بلا سلالةٍ، وحدكَ كأنّ العالمَ لا يعنيك، وحدكَ، لكن في كلّ هبّةِ ريحٍ تفرضُ لونَكَ وإيقاع صوتِك الناريّ الخفيف، توقظُ الكسالى من حروبهم مع ذواتهم، وتمضي كأنك لم تكن يوماً هناك، وتأتي وكأنك لم تغادر لحظةً من هنا.
[][][]
أيُّها الطائرُ الغريبُ
لا تحمل سلاماً، أو خبراً إلى أحد، وطِرْ كي تلوِّنَ الأشجارَ بالمواسمِ، ودع ألوانَكَ في غيّها الفاتنِ تقلبُ مزاجَ العاشقين، واحمل دولةً على جناحِكَ لتسكنَها الريحُ، وضَعْ في حسابكِ البرّيِّ أنّ كلَّ أعدائكَ أرضيونَ ولا يملكونَ ريشاً ولا أغنيات، زقزِق للفضاءِ وللحريرِ الذي يملأُ ذاكرتَكَ الوحشية، فلا تلزمُكَ خيولٌ ولا جيوشٌ لتدافعَ عن فضائك، وفي آخرِ الشمسِ التي تشبهُ آلةَ ضوءٍ لا أكثر، لا تتجه إلى عشِّكَ الذي حفظهُ الأولادُ الذين سيصيرونَ لؤماً خالصاً بعد قليل من الوقت، وامضِ فقط، امضِ إلى أن يتعبَ المضيُّ من المسافاتِ والأوقاتْ، وفي لحظة الجنونِ تلكْ، أعني حين يوقفكَ الخيالُ عن الأغاني، يمكنُ لك بكل بساطةٍ أن ترمي ريشَ جناحيكَ وتهبطَ مثل قطرةِ مطرٍ على الأرضِ، ميّتاً كإعلانٍ صاخبٍ عن خلاصِكَ من جفافِ النغمةِ في منقاركَ الناي.