كن على قدر اختيارك!
بقلم: منى مصطفى
العمل الدرامي له تأثير ألف كتاب وألف ساعة مصورة لعالم يضع خلاصة علمه بين أيدي الناس!، وقد قامت ممالك وسقطت آخرى وما من سيف لهم سوى الدراما والإعلام!
فالإعلام والاتصال عموما أصبح أمًا تربي مع الأم، وأبًا يقتدى به مع الأب، ومعلم يبني النفس مع المعلم.. ولا يمكن لعاقل أن يغفل ذلك، وإلا فقد غاب عن واقعه ولن يفلح في توجيه أولاده أو طلابه… والارتقاء بالعمل الدرامي ثقافيا وأخلاقيا واجب ملزم في هذا الزمن لمزاحمة الصنف الفاسد، وكذلك هو طريقة إمتاع وتعليم رائعة ومؤثرة في عقل الجيل، ولا أبالغ إذا قلت أن تحويل سيرة علماء الأمة لأعمال درامية أوجب من طباعة الكتب أو يساويها في الأهمية لأن الإعلام مدرسة زمننا هذا، ووشيكا جدا سيثبت ذلك التوسع في التعليم عن بعد بكتب الكترونية درامية لا ورقية.. ولكل زمن أدواته!
سمعت جدالًا كبيرًا حول الأعمال الدرامية التي تتناول شخصيات تاريخية، فوجدنا متشددا يرفض ذلك تماما ومتهاونا يسمح بالخطأ اللغوي والتاريخي وربما المذهبي بحجة أن التأثير الدرامي لن ينجح إلا بهذا التهاون، فهل حقا هذا التجاوز واجب لنجاح العمل الدرامي؟
الحياة واسعة والتجارب الإنسانية جمة، فمن اختار الدراما التاريخية فليكن على قدر اختياره، وليستعن بخبير تاريخي وآخر لغوي وفقهي، فقد اختار عظيما مؤثرا يتحدث عنه، ولابد أن يكون الثوب الدرامي واللغوي والتاريخي على مستوى الشخصية وعلمها ولغتها.
سنجد آحدهم يصيح: لن تتحقق الحبكة الدرامية المؤثرة مادام أهل التاريخ واللغة يقفون لنا بالسيوف! وله أقول:
الحبكة الدرامية متاحة ولا سقف لمساحتها إن كان الكاتب والممثل على قدر عال من الفنية، فالحبكة الدرامية منبعها الأساسي خلجات النفس، أبدِع في إظهار الحزن والفرح كما شئت فلم يشق أحد عن صدر الشخصية التاريخية ليعارضك، صف مشاعره وردود أفعاله كصديق وحبيب وأب وأخ، ومظلوم أو ظالم … جسد كيفية تعامله مع البلاء منعا ومنحا بحسب ما رصدت من تراثه وآرائه وعواطفه، لك كل صروف حياته كإنسان يمر بلحظات ضعف شتى … أما ما كان ثابتا تاريخيا فلا تتصرف به، فتناول شخصية تاريخية طريق قد اخترته لم يفرضه عليك أحد!
لك أن تجعل المشاهد يبكي أو يطرب بمهارة قلمك ودقة تأملك ككاتب، عش بروح الشخصية وعقلها وآلامها وطموحتها ثم ارسم وجدانها وهمومها بقلمك وليس بحشو مناقض للتاريخ وبلغة ركيكية لا تقنع العوام بله المتلقي الواعي، ثم يأتي بعد ذلك اختيار الممثل الذي يعيش السيناريو بروحه وعقله ولا يكتفي بحفظ أحرفه …
ولنا قدوة في الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى في كتابه الماتع (قصص من التاريخ) فكان يأخذ حدثا واحدا موثقا من التاريخـ قد لا يزيد عن جملة واحدة ـ وينسج حوله قصة كاملة ممتعة مؤثرة، وما كانت ريشته وقلمه (مؤثراته الدرامية) سوى خلجات النفس ومشاعرها وفهمه لطبيعة الشخصية التي يرسمها، فمازلت أتذكر رسمه لشخصية الحجاج بن يوسف وطبيعته المقدامة الذكية ودهاء عقله، وعصبيته في مواجهة كل شيء، فهو رجل لا يعرف أنصاف الحلول، وصفَه وهو يصارع الشمس الحارقة فيصرعها، ويتحدى الجبال فيطأ شموخها بقدمه، وحتى العطش الذي تمكن منه حاربه بالري من نبع رغبته في الوصول حتى وصل الشام ومُكن له.. هل أخذ أحد على الكاتب شيئا؟ بالطبع لا، لأنه غاص في قلب وعقل الحجاج ودرس تاريخه جيدا فأحسن تصوير عقله ووجدانه،ثم طوّع قلمه ليكون نغما جميلا مثيرا للقارئ دون أن يبتذل أو ينسب للشخصية ما لم تأت به …
فالصدق التاريخي واللغة الصافية مع الحبكة الجيدة المؤثرة ليسا ضدين حتى لا يجتمعا كما يتصور بعض المتهاونين!