أدب

بلاغة التناص في المجموعة القصصية ” عدالة وطنجية ” للكاتب سعيد يفلح العمراني

إنجاز: سناء بن قاسم | المغرب

     لقد انبثق مفهوم “التناص” في أواخر الستينيات من القرن الماضي مع جوليا كريستيفا، وأصبح منذ ذلك الوقت آلية مهمة في التحليل الأدبي، استنادا لعدم وجود أي نص ” يُكتب بمعزل عما كتب سابقا “(1) لأنه ” يحمل بصفة واضحة أو أقل وضوحا، أثر وذكرى ميراث وتقاليد “(2) وبالتالي فأي نص أدبي مكتوب، عبارة عن نسيج من مختلف الثقافات المُشكلة لمرجعية الكاتب، أو نسق متنامي يكشف عن أصول زمرة من الخطابات والدلالات المختلفة، مما يجعل فعل القراءة ” عملية انتقال بين النصوص، ويصبح المعنى شيئا قائما بين النص والنصوص الأخرى التي يشير إليها ويرتبط بها “(3) أي لا وجود لمعنى مستقل بذاته، بل دائما يحضر الاشتقاق من الأعمال الأدبية الأخرى داخل النص الجديد سواء بطريقة صريحة أو ضمنية.

     وانطلاقا من هذه الأهمية التي شغلتها نظرية “التناص”، تَمخَّضت هذه القراءة لترصد مظاهر التناص وجماليات حضوره في المجموعة القصصية “عدالة وطنجية” للكاتب المغربي سعيد يفلح العمراني، محاولين الوقوف عند مختلف المرجعيات التي استقى منها الكاتب نصوصه من قبيل: القرآن الكريم والموروثات القديمة والشعبية والنصوص الأدبية الأخرى… وغير ذلك.

_فإلى أي مدى استطاع الكاتب  أن يوظف مختلف الخطابات والمرجعيات والدلالات… في مجموعته القصصية؟

1_ القرآن الكريم.

     إن القرآن الكريم، بوصفه مصدرا مقدسا جمع بين البلاغة والفصاحة والإجادة في القول…، أصبح يكاد لا يخلو أي نص أدبي من معانيه العميقة، ومفرداته البليغة… سواء جاء صريحا أو ضمنيا. وهذا ما وجدناه حاضرا غير ما مرة في المجموعة القصصية المُشتغل عليها، الشيء الذي يبين تعلق الكاتب بمرجعيته الدينية الإسلامية. وأول مثال يُطالعنا، هو قوله في قصته الأولى ” العائد من الموت “: ” أما قميصه فقد قدّ من قبل ومن دبر وصدقت الموضة وهو من الكاذبين “(4)،فالكاتب هنا وظف مفردات كثيرة جاءت في قوله سبحانه وتعالى من سورة يوسف ( قَالَ هِيَ رَٰوَدَتۡنِي عَن نَّفۡسِيۚ وَشَهِدَ شَاهِدٞ مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن قُبُلٖ فَصَدَقَتۡ وَهُوَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٢٦ وَإِن كَانَ قَمِيصُهُۥ قُدَّ مِن دُبُرٖ فَكَذَبَتۡ وَهُوَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ ٢٧)(5) وهذا التوظيف لم يكن لفظيا فقط، بقدر ما جاء محملا بدلالته وفق ما تطلبه المقام السياقي في القصة، غير أن الآية القرآنية جاءت باحتمالين مختلفين، إما أن يكون القميص قَدْ قُدَّ من الخلف فتكون الغلبة للخير وصدق سيدنا يوسف، أو قُدَّ من الأمام فتكون الغلبة للشر المتمثل في امرأة عزيز مصر. أما ما عبر عنه الكاتب فقد كان هناك احتمال واحد، يعود لغلبة الموضة على شخصية ” العياشي ” الذي لم يعد مظهره مظهر الرجل المسلم والمتدين، بل سولت له نفسه وأدخلته في دوامة الانحراف والموضة الغربية وفساد القيم الإسلامية معتبرا أن ذلك يدل على الانفتاح والغنى… .

     وقال الكاتب في قصة ” مفقود وموجود “: ” التسلح بما في جعبتهم من الأسلحة والعزائم غير آبهين بجبروت هذه العاصفة وبأمطارها التي كلما ازدادت هطولا قالت هل من مزيد “(6) فقد استدعى الكاتب هنا مفردات من  قوله سبحانه وتعالى في سورة ق ( يَوۡمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمۡتَلَأۡتِ وَتَقُولُ هَلۡ مِن مَّزِيدٖ ٣٠ )(7) وهذا الاستدعاء جاء بمثابة ربط علاقة تشابه بين عظمة نار جهنم وعظمة العاصفة التي طوقت رجال القرية وهم يبحثون عن الراعي، وبالتالي يكون الكاتب قد أبقى على نفس الدلالة المُحملة في المفردات داخل النص القرآني، إلا أنه قام بتحريك موقع المتكلم، بحيث نجد نار جهنم هي القائلة ” هل من مزيد ” في القرآن الكريم، أما في المتناصّة فقد تغير القائل إلى العاصفة والأمطار الغزيرة، وذلك بغية وصف شدة الجو وجبروته الطاغي.

     كما يقول أيضا في قصة ” عدالة وطنجية ” : ” فترى وجوها تخرج ناضرة إلى أهلها ناظرة “(8) فهذا التركيب اللفظي يكشف المرجع الذي استقى منه الكاتب مفرداته، والمتمثل في قوله سبحانه وتعالى من سورة القيامة ( وُجُوهٞ يَوۡمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ ٢٢ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ ٢٣ )(9) وفي هذا التناص أيضا أبقى الكاتب على نفس الدلالة التي جاءت في قوله سبحانه وتعالى، وبالتالي هناك تطابق على المستوى اللفظي والدلالي، لأن الآية الكريمة هي تصف وجوه المؤمنين الحسنة والمشرقة وهي تنظر إلى وجه الله تعالى، والكاتب يصف وجوه الأشخاص الذين يتذقون طعم الفوز  داخل المحاكم، تلك الوجوه التي تخرج مسرورة ومشرقة وهي تنظر إلى أهلها، أي هذا التناص جاء قائما على تصوير لحظة إنسانية في غاية الفرح والسعادة. وقد سعى الكاتب من خلال توظيفه لهذه الخطابات القرآنية إلى تحقيق نوع من الجمالية على نصوصه سواء على مستوى اللفظ أو المعنى، كما يمكن أن نعتبر هذه التوظيفات  بمثابة دلالة على تعلق الكاتب بهويته الإسلامية، وتشبعه ببلاغة وفصاحة الخطاب القرآني.

2_ الأسطورة.

     إضافة إلى التعالق النصي بين القرآن الكريم ونصوص الكاتب، نجد أن هذا الأخير عمد أيضا إلى تضمين بعض الخطابات الأدبية الأخرى والثقافات القديمة. فنجده قد استدعى الأسطورة في قوله ” وأحذرك من المآل نفسه الذي آل إليه نرجس وهو يقارع نفسه في صفحة الماء(10) بحيث تبدى لنا من خلال هذا التركيب، حضور أسطورة ” نركسوس ” اليونانية، الشاب الذي افتتن بجماله الذي ظهر له على سطح الماء، فمات غرقا وهو يحاول أن ينزل عند انعكاسه. وهذه المتناصة جاءت للدلالة عن الثقة المفرطة التي تُكنها المرأة لنفسها داخل القصة، متغنية بنفسها ومتحدية المرآة في الجمال والبهاء…، فكأن الكاتب أراد أن يبني علاقة المشابهة بين نركسوس والمرأة في نقطة اتصال وهي ” النرجسية ” محاولا التحذير على لسان المرآة من المآل الخطير الذي قد يؤدي إليه الإفراط في حب النفس.

3_ الشخصيات.

    لقد وظف الكاتب التناص على مستوى الشخصيات أيضا، بحيث نتقابل مع شخصية تكشف عن المرجعية العربية التي استقى منها الكاتب متناصته، وهذه الشخصية هي ” شيخ القبيلة ” في قصة ” مفقود وموجود “، حيث قال فيه ” ولكن الغلبة كانت لشيخ القبيلة وأقرانه ممن خبروا الحياة وعبروها بمراس وحكمة وتروِ، فصار أمام ضيق الوقت يقنع هذا ويحاجج ذاك ويسكت ذلك ويستمع إلى ذانك، معتمدا على فراسته وبصيرته…(11) ويقول أيضا في وصف شجاعته ” ولكن فراسة الشيخ فاجأتهم جميعا حين خمن في الانعطاف بالقوم نحو الجهة الغربية للجبل [….] وشد لجام خيله بقوة ليرفع من إيقاع حماستهم صارخا في وجه الظلمة والمجهول…(12) فالقوة التي اتصف بها شيخ القبيلة هنا ليست غريبة على القارئ، لأنه راكم كل تلك الأوصاف من الثقافة العربية القديمة والآنية، إذ غالبا ما تتصف شيوخ  القبيلة بالجد والفراسة والشجاعة… نظرا لتقلدهم منصب القائد، وخاصة في مثل المواقف التي تعرضوا لها في القصة ( فقدان الراعي ) وبالتالي نكون أمام علاقة تقابلية بين الشخصية الواقعية المتنامية في ذاكرتنا، والشخصية التخييلية في القصة التي كشفت عن رؤية الكاتب ورؤيتنا. وهذا التناص حتى وإن لم يكن لفظيا مقصودا لعدم تحديد الكاتب لشخصية محددة باسمها، إلا أننا نفهم المتناصة من السياق الدلالي الذي جاء فيه النص، وبالتالي يكون هذا الاستدعاء ضربا من ضروب الهوية العربية التي تشكل منها الكاتب في واقعه المُعيش.

 4_ الخطابات الأدبية.

     بشكل ضمني غير صريح، وجدنا أنفسنا وكأننا نقرأ إحدى المقامات العربية في قصة ” مفقود وموجود “، حيث يقول على سبيل المثال ” همد الصياح، وخمد النباح، واشتعلت العاصفة بمطرها الغزير وكأن سقف السماء قد فتح بماء منهمر، دون أن يعثروا لهذا الراعي على أثر أو خبر، وبدأت الأقوال تدور والأراء تمور، وظنوا بالراعي كل الظنون…(13) فهذا المقتطف جاء مازجا بين السجع والازدواج والجناس… حتى بات شبيها بخطابات جنس المقامة، هذه الأخيرة التي تتميز باحتوائها للمحسنات البديعية بشكل لافت ومميز عن باقي الأجناس الأخرى، وهذا التشابه بين المقامة ونص الكاتب لم يأتِ اعتباطيا، بقدر ما هو نتاج لوعي سعيد يفلح العمراني بأساليب وأسرار الكتابة في الأدب العربي، وبالتالي هذه المتناصة كشفت عن إمكانية تداخل النصوص فيما بينها بشكل ضمني بالرغم من تباعد الجنس الذي ينتمي إليه كل نص.

     وإذا ما عدنا أيضا لقصة ” عدالة وطنجية “، فإننا نتقابل من خطاب آخر من مجال مختلف، وهو الخطاب القانوني، بحيث قال الكاتب في نهاية قصته ” وقد أصدرت علي شهيتي الموقرة حكمها النافذ بأكل الطنجية فور تمكني من ذلك في حالة سراح مع تحمل الصائر(13) ليكون بذلك قد حرك منحى الخطاب بأطرافه وفضاءه، بحيث تغير من ( المُرسل: القاضي / المرسل إليه: المتهم / المكان: المحكمة أو مؤسسات القانون / الزمان: وقت إعلان الحكم ) إلى بناء جديد ( المُرسل: الشهية / المرسل إليه: الكاتب / المكان: خارج المحكمة / الزمان: وقت خروجه من المحكمة )، وهذا التغيير لم يلحق فقط الجوانب المذكورة سلفا، بل لحق أيضا الصيغة التعبيرية، لأن الكاتب بنى نصه بحس كوميدي، لكنه في الآن نفسه كان ردا على ما قابله من إهمال وعدم  تحمل مسؤولية العمل داخل المحكمة من طرف العاملين بها.

خلاصة

     في الختام يمكننا القول إن الكاتب سعيد يفلح العمراني قد استطاع مد جسر الترابط بين نصوصه ومختلف الخطابات الدينية والتراثية، أي أنه فتح آفاق قصصه السردية على أصول ومنابع الموروث الثقافي الغني والمتنوع، فجاءت_أي قصصه_ متسمة باللغة والأسلوب البليغين والدقة  في الوصف والتصوير…، وبالتالي يتبين لنا أن التناص هو بالفعل يعمل على الربط بأواصر متينة بين الثقافة القديمة والمعاصرة، ويجعل من النص الواحد نسيجا محبوكا تتآلف وتختلف فيه القيم الإنسانية والدلالات التعبيرية…،والأمثلة المُقدمة في القراءة ما هي إلا نماذج للتمثيل فقط، أما القصص فهي غنية بمقتطفات عدة من نصوص قرآنية وأخرى أدبية، ساهمت بشكل أم بآخر في زرع نوع من الجمالية في اللفظ والعمق في الدلالة، وكذا فتح أفق واسع المدى أمام القارئ ليدمجه في ثقافته المتنوعة.

الهوامش

(1)_ نتالي بييقي_غروس، مدخل إلى التناص، ترجمة عبد الحميد بورايو، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2012م، ص 11.

(2)_ نفسه، ص نفسها.

(3)_ جراهام الان، نظرية التناص، ترجمة باسل المسالمة، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، الطبعة الأولى 2011م، ص 9.

 (4)_ سعيد يفلح العمراني، عدالة وطنجية، مطبعة الخليج العربي، مكتبة سلمى الثقافية، الطبعة الأولى 2014م، ص 9.

(5)_القرآن الكريم، برواية ورش لقراءة الإمام نافع، إعداد ومراجعة وتدقيق الأستاذ مروان نور الدين سوار، دار الفجر الإسلامي للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2008م، سورة يوسف، الأية 26_27.

(6)_ سعيد يفلح العمراني، مصدر سابق، ص 32.

(7)_ القرآن الكريم، مصدر سابق، سورة ق، الآية 30.

(8)_ سعيد يفلح العمراني، ص 18.

(9)_ القرآن الكريم، سورة القيامة، الآية 22_23.

(10)_ سعيد يفلح العمراني، ص 40.

(11)_ نفسه، ص 32.

(12)_ نفسه، ص 34.

(13)_ نفسه، ص 32.

(14)_ نفسه، ص 24.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى