أدب

متاهات الهوية: رحلة البحث عن الذات.. دراسة في رواية تغريبة القافر

د.رائدة العامري|ناقدةوأكاديميةعراقية

       رواية “تغريبة القافر” للكاتب زهران القاسمي، إحدى أبرز الروايات في الأدب العربي، تناقش موضوعاً مهماً ومعقداً: متاهة الذات والهوية. رحلة داخل العوالم الداخلية من خلال التعامل مع سياق التحول الاجتماعي والثقافي للوصول إلى الذات الحقيقية.

     تقدم درساً عميقاً ودقيقاً عن الواقع الداخلي المعقد والمتناقض، بأسلوب سردي متألق واستخدام ممتاز للغة، ذو تأثير عميق ومؤثر. ويسلط الضوء على تأثيرات العوامل الخارجية مثل الثقافة والمناخ الاجتماعي والصراعات على تشكيل هوية الفرد. ويجعلنا نعيش ونتأمل تلك المتاهات التي يواجهها الفرد في بحثه عن الذات ومعنى وجوده.

      نص يتضمن في داخله الكثير من الإيحاءات والمكنونات الخفية التي تشير إلى دروس وأساطير في دائرة الزمن المثقلة بالهموم والألم. رواية تتخذ من الرحلة هروباً من الحياة الصعبة وأحلام الذات المحطمة، بالتوازن مع ثقافة العقل الجمعي وتجاربه المتنوعة .

      تتحلى بثيمة الرحلة والتحوّل والتغيير الداخلي في تمثلات رمز الموت والحياة في  التناقضات والعناصر البصرية والرموز الطبيعية. وهذه المظاهر الرمزية تعزز النص، وتعمق معانيه، وتسهم في إيضاح التناوب الذي يحدث بين هذين العنصرين في الحياة الآخر والمجتمع، في إطار الصراعات الداخلية والخارجية التي يواجهها الأفراد والمجتمعات في سعيهم لكشف التناقضات والبقاء والإصرار على تحقيق الحياة والتحرر.

     تشير عتبة العنوان إلى رؤى متعددة تحمل معنى التوتر والتناقض بين الذات والآخر، ووسيلة للنقد الاجتماعي بسؤال الانتماء والهوية،ورمز التباين والتنوع الثقافي، والتحولات والتحديات مع الثقافة وسط اغتراب القيم الجديدة في البحث عن الهوية والثقافة والتحولات الاجتماعية والتاريخية، رحلة البحث للتكيف مع التحديات الثقافية والاجتماعية الجديدة.

     تستخدم الرواية تقنية الاسترجاع والاستباق من خلال تراكم الأحداث في النص السردي، حيث تتم الإشارة إلى حدث وقع في وقت لاحقاً في الرواية ومن ثم العودة بالزمن للكشف عن الأحداث التي وقعت في وقت لاحق، وأثرها على التطورات اللاحقة. وذلك لخلق التوتر والتشويق وإضفاء العمق والتعقيد على حبكة الرواية.

     توسيع المنظور الزمني من خلال آلية الاسترجاع والاستباق، يمتد زمن الرواية ليمنح المتلقي فهماً أعمق للعوالم المختلفة التي يتقاطع فيها الزمان والمكان من خلال تأثير التفاعلات بين الأحداث وتعقيد شبكة العلاقات بين شخصيات ذات خلفيات ثقافية متنوعة، من أجل إظهار التفاعلات والتحولات الأنثروبولوجية والأيدولوجية في استراتيجيات الخطاب للنص. مثل تصوير البيئات الطبيعية والطقوس الدينية والتقاليد العائلية لاسيما التي تتعامل مع الموت والحزن. فتبدأ الرحلة.. إذ يقول:(عمق البئر يتطلب أن يهبط فيها رجل ذو خبرة، لأن أي انزلاق سيودي بحياته، لا سيّما أنّ قعرها صخريّ وليس مستويًا تماما، لذلك كانت مهمّة الطّارش الثانية أن يُحضر متطوّعًا ليهبط إلى القعر) (1).

     تجربة تأمل واستكشاف للتراث البيئي وسط صراع داخلي وتأقلم مع بيئة تحمل تقاليد متعددة، تدور نحو فكرة مركزية تحمل رحلة البحث عن هويته التحولات الاجتماعية الثقافية والفكرية التي تواجهها الذات في عالم متعدد الثقافات. رحلة لاكتشاف وقبول الأخر من جانب وعدم القدرة على التكيف مع ثقافة جديدة من جانب أخر. من خلال تسلط الضوء على التناقضات والصعوبات بعمق ومتعة يواجهها الآخر مع البيئة المحيطة به، ليولد صدامات وصعوبات في التكيف والاندماج. وذلك تجسيد لمفاهيم وأفكار مرتبطة بهوية الذات سعيا للتأقلم مع الثقافات المختلفة.

    صراع داخلي واستكشاف العالم الجديد. يرغب في التأقلم مع التغير ولكنه في الوقت نفسه يشعر بالشك والقلق. تبدأ رحلة البحث عن الذات في تحقيق التوازن والنمو الروحي والعاطفي..إذ يقول:(فقدت اهتمامها ببيتها ولم تعد تكترث بمن حولها، وصارت غارقة في أوجاعها وأنينها، تنوس برأسها وهي جالسة حتى تصل به  إلى الأرض كأنها غارقة في صلاة صوفية، تتمتم بكلمات غيـر مسموعة ولا تنام إلا نادرًا ولأوقات قصيرة جدًّا، فما إن تغفـو عيناها قليلا حتى تصحو ممسكةً برأسها الثّقيل وكأنّه حصاة كبير يكاد الماء المختزن بداخله)(2)

رحلة رمزية عميقة لذات مضطربة ومنعزلة فقدت الاهتمام بمحيطها وبيتها في حالة من  الضياع والفقدان واستلاب الهوية الشخصية والانغماس/ الاندماج في آلمها وأنينها الداخلي وحزنها، رسالة تعكس حالة ذهنية/ نفسية وعاطفية قوية من الحزن والألم العميق من خلال تجاهل العالم من حولها بتصرفات غير مألوفة مثل الجلوس والإيماء والاقتراب من الأرض كصلاة صوفية.. ترمز بالارتباط الروحي وعميق التكامل مع الذات. تتمتم بكلمات دون أن يسمعها أحد، وذلك لتحويل حاجتها إلى التفكير والاندماج مع أفكارها وأحاسيسها ومشاعرها الداخلية بشكل أعمق، في نسق سياق الإفصاح الذاتي عن حالتها الداخلية، من خلال انفجار مشاعر مكبوتة بعمق وأحاسيس الألم، والاضطراب النفسي، والخوف من الآخر، في محاولة للرغبة في اكتشاف هويتها واستعادة توازن الروح والذات. فضلا عن غياب النوم وعدم القدرة على الاسترخاء، يجعلها تشعر بالألم وعدم القدرة على الراحة، والاستيقاظ سريعاً ورأسها الثقيل يشعر كأنه حجر، مما يدل على رد فعل جسدي قوي يدل على أفكار مزعجة تراودها أثناء نومها.

    متاهات اغتراب الذات والآخر، رحلة صعبة من حلقات متتابعة تعكس أهمية التوتر والقلق في البحث والحفر/التنقيب،برمزية تسهم في إضفاء الشخصيةعمقاً مجازياً يمنح المتلقي التفاعل والحرية في سبر أعماق النص ليثير التساؤلات، إذ يقول: (عادت النساء لتكفين الجثة، أمّا كاذية بنت غانم فأخذت الطفل وغادرت هربت به وفي صدرها فرح يخالطه حزن عميق، وكلّ همها أن تصل وتبحث للوليد عن امرأة تتكفل بإرضاعه. وإن لم تجد فلن يتبقى أمامها إلا أن تُرضعه من حليب بقرتها)(3)

     تبدأ الرحلة بلحظة من التضحية المذهلة والقدرة على التحمل في ظروف قاسية. واضطراب عاطفي وتوتر شديد تعيشه الذات من جانب. وتبني المكانة الاجتماعية والثقافية والقيم التقليدية التي تشكل جزءًا من هوية الفرد وتقبل الآخر في المجتمع من جانب آخر. فلوحة عودة النساء لتكفين الجثة رمز للمأساة والخسارة من خلال توظيف تقنية الاستشراف كنسق التطلع إلى مستقبل غير مؤكد، والرغبة العميقة للبحث على الهوية الحقيقية والانتماء.

    يأخذنا الزمن الدائري في المتاهة بعيدًا عن القيم والمعتقدات المألوفة لتبرز “كاذية بنت غانم” كشخص يختلف عن الآخرين، امرأة تملك قوة عاطفة الأمومة وحبها العميق للطفل. كمصدر الوحيد للفرح في حياتها، مع وجود اضطراب عاطفي وتوتر شديد يختلط التوازن الهش بين الأمل والحزن فيظهر إثبات مركزية الذات بقوة عارمة الرغبة والعزيمة والهروب بأخذ الطفل على الرغم من صعوبة دلالة الحزن العميق في صدرها الذي يعكس التناقضات العاطفية بين الأمل والألم الذي تمر به فضلا عن  الواقع القاسي للوضع التي تعيشه ، ولكنها تظل قادرة على الحفاظ على جوهر الفرح ولو بصورة محدودة ومختلطة بالحزن ممزوج بقوة الروح وتضحية الأمومة في مواجهة التحديات والمخاطر من أجل سلامة وراحة الطفل ولاسيما في العثور على حلول سريعة لمشاكلها الملحة.. امرأة تتكفل بإرضاع الطفل في المقام الأول ، من خلال البحث عن امرأة ترضعه رسالة إلى الاندماج والتواصل الاجتماعي، وعدم القدرة على تلبية احتياجات الطفل بمفردها. حتى وإن كانت تضطر في نهاية المطاف استخدام الحليب البقري لرضاعته في حالة عدم العثور على امرأة تستطيع ذلك. تعكس الشجاعة والإصرار والحفاظ على حياة الطفل. من خلال التركيز على القدرة الجريئة للشخصية في التعامل مع العقبات وجعل المستحيل ممكنًا.

      فضلا عن وجود ثيمة الطفل والهروب به رمز الأمل والبقاء والحياة الجديدة، الرغبة في البدء من جديد وإيجاد طرق الابتعاد عن الألم والمشاكل التي تواجهه. فضلا عن كونه شفرة تأويلية للاغتراب الذاتي، ورغبتها في العزلة والانفصال،ومقاومة القيود الاجتماعية، والبحث عن الحرية والهوية التي تنتمي إليها ، وذلك من أجل وجود أكثر شمولًا ومقبولا لها ولطفلها. 

     حزن يختلط بالفرح في قلب “كاذية بنت غانم” يشير إلى التضاربات الداخلية والمشاعر المتناقضة التي تعيشها الشخصية. تعبر عن غربتها وعدم تمكنها على التكيف بالكامل مع المشاعر الجديدة والتحولات في حياتها.

     توظيف اغتراب الذات والآخر يسلط الضوء على رحلة البحث عن دور الفرد وهويته، فضلا عن التوتر والصراع الداخلي، مما يمنح المتلقي التعاطف والتفاعل مع رحلتها، والتساؤل عن مكانتها في العالم، والبحث عن الهوية الحقيقية، والإرادة والإصرار على تحديد الهوية ورعاية احتياجاتها.

     نص يسلط الضوء على القضايا والأفكار المتواصلة التي تستدعي الرؤية من زوايا مختلفة. تعتمد على أحداث متقاطعة تترابط من خلال تقنية ثيمة التشابه والتشابك الزمني لربط الأحداث المتوازية واستكشاف آلية الزمان والمكان والواقع في الرواية. وذلك لإضافة عمق وتعقيد للعمل الروائي واستمراريةالأحداث والأفكار المترابطة، مما يثير من فضول المتلقي بتساؤل التفاعل والتشابه الزمني والمتوازي بتداخل وتأمل بين الزمن البيئي والاجتماعي المتغير في آن واحد. تفتح الشخصية باب الخلود الأبدي، الذي يرمز إلى البوابة التي ستدخلها في رحلتها. تنتظر الخيط الذي سيقودها إلى المسافة البعيدة  لتعبر عن تلقائية عفويتها وقبول القدر والمصير الذي سيشكِّل مسار رحلتها. إذ يقول:(وازداد انهمار المطر عند اقتراب النّعش من المقبرة، فابتلت الرؤوس وخضّل المطر اللحى وصارت الأقدام تخطو على التراب والماء يُطرطش تحتها،وابتل لحاف النعش الذي تنام الجثة تحته.

استمر الماء يسيل بغزارة على الأرض، حتى إذا وصلت الجنازة وأنزلت الجثة عند القبر، شقّ السّيل طريقه إلى جوفه وتجمع الماء في قعره، فصاح رجل: ــ عجلوا بالدفن  الماي بيترس البيت.

وضعت الجثة داخل القبر وقد وصل الماء إلى النصف، فصاح أحدهم: – القبر جام والميتة تغرق أيش الحل؟

ردّ عليه آخر وهو يصرخ بنزقٍ وقد كانت قطرات المطر تخز جسده: – الميتة غرقانة من قبل ).(4)

  تناول النص ثيمة المطر ولون السماء الداكن وازدياده مع اقتراب النعش من المقبرة، وهو ماله تأثيرعاطفي يرتبط به، مجسدا غيوم الحزن والفقد وأثرها على الهوية. إن الأقدام التي تطأ التراب والمياه المتناثرة تحتها تعكس واقع حقيقة التأقلم والاستمرارية في مواجهة التحديات والصعاب البيئية التي قد تؤثر على هويتهم وتكوينهم. إن الارتباط بين بلل لحاف النعش وتراكم الماء هو رمز لتأثير الظروف الخارجية على الجسد والهوية. ثم صرخة الرجل من تأخر الدفن وتأثير الماء على القبر تظهر بقلق وتوتر.. تعبيراً عن الرغبة في الحفاظ على الهوية الأصلية والذات دون التأثر بالتحديات الخارجية.

     تعكس عبارة “الميتة غرقانه من قبل” دلالة الاحتضار النفسي أو الانكسار. وهو ما يرمز إلى الغموض ويثير التأمل  العميق والتأويل  في تكوين الهوية. واستكشاف جوانبها الداخلية.

     رسالة تعزيزية تحمل فكرة محورية/ مركزية لرفع بناء التوتر في النص من خلال تداخل الأحداث وصراع تفاعل الشخصية وتفاعلها مع الآخر مما تسهم في بناء هيكل البنية باستخدام تقنية الرمز لتعطي طابع شعري على الإيقاع والجمال والإبداع ذو تأثير استثنائي على فكرة التماسك /التلاحم والتقارب في رسم صورة واضحة للتشابه الموازي للتأمل الذاتي في دائرة الزمن. لاسيما يحمل النص فكرة متماثلة عن الهوية والانتماء… كرمز للتوازن والقوة المتناغمين مع مكنونات الزمن الدائري للذات الواحدة. إذ يقول: (استيقظت كاذية بنت غانم على صوت المطر، فهرعت نحو الطفل الذي كان يبكي ولم تسمعه في غفوتها، وعندما اقتربت منه لاحظت شقًا في السقف تنزّ منه قطرات المطر فتتساقط على أذن الرّضيع. كان فراشه مبلولا، وقد امتلأت أذنه اليسرى بالماء، فحملته وأضجعته على جنبه الأيسر ليخرج الماء أذنه، تبكي وتلوم نفسها على تلك الغفوة التي بدت بمثابة سنوات من النوم. ثمّ احتضنت الطفل وهدهدته حتى سكت ونام ثانيةً. وكان المطر في الخارج يغسل المكان والنخيل، وما هي الا لحظات حتى سمعت هدير السيل يملأ الوادي)(5)

   يتحلى النص على تقلبات ومنعطفات في الرحلة مع العالم الغريب. نص ذو أبعاد متعددة وفريدة من نوعها. يستكشف قضايا الهوية والثقافة والانتماء والتحول الشخصي. ينمو حسب تجربته في بيئة غريبة تقوم على التحولات والنمو الذاتي والبحث عن الهوية والمأوى، يشعر فيها بالانتماء من خلال الارتباط الرمزي لإعطاء الشخصية إلى مستوى أعمق وفهم جوانبها الفلسفية والأخلاقية. رسائل وشفرات تأويلية…

    الشتاء رمز النهاية والموت، لكن مع وجود الماء أحدث تغييراً في سياق النص ليكون رمزاً للحياة والدفق الدائم، والخيط الرابط بين الوطن الأصلي للساكن والجديد، والواقع الذي يعيش فيه، وكيف يؤثر ذلك على هويته وانتمائه؟

   نص يوحي بخيال عميق لفكرة تكرار وجود رابط الأحداث والدوران، رمزا لسلسلة التغيير والتحول في دوامة الأحداث في سياق الزمن في توتر وإثارة يسهم في بناء تطور أكثر قوة وعمقًا، لا سيما يعكس تجربة في بيئة غريبة، والشعور بالوحدة، والغربة، والخروج عن السياق، رحلة بحث عن هوية المرء ومشكلة الانتماء إلى بيئة لا تشبهه.

    إذ يقول:(لم تخلف الجائحة وراءها شجرةً واحدة قائمة، إلا أن أهل البلدة فرحوا بالخصب الذي حلّ وقد رأوا امتلاء الوديان والشعاب وضجت جنبات القرية بخرير الجداول وتدفقت مياه الأفلاج بغزارة حتى فاضت السواقي)(6)

    متاهة تأخذنا إلى الاضطرابات البيئية وتلوث المحيطات والهدر البيئي. نص يعبر عن الثقة الكاشفة في قدرة الإنسان على التكيف والتغلب على الصعاب واستحقاق الفرح والرخاء بعد المحنة، من خلال وفرة الماء الناتجة عنها. وهذا ما يشعر به سكان البلدة بسبب التغير الإيجابي الذي أحدثته الجائحة. وكان رد فعل أهالي البلدة عندما رأوا الأنهار والوديان تمتلئ بهدير الجداول وتدفق المياه بكثافة رمزاً للحركة الجديدة والتجدد في إعادة التوازن والانسجام للنظام البيئي وتناغمه بعد المحنة التي تجاوزت حدودها الطبيعية، للتعبير عن الفرح والسعادة في البيئة  الخصبة، إشارة إلى عودة الحياة والتناغم البيئي بعد فترة من التوتر والتلوث، وهو تعبير عن قدرة الطبيعة على التعافي واستعادة التوازن. كما يمثل تمثيلاً للتغير والتجديد الناجم عن الجائحة. الرغم من آثارها وأثرها المؤلم على الإنسان والمجتمع، إلا أنها أتاحت فرصة حدوث التغيير للأمل والتجديد بعد الصعوبات والتحديات في الطبيعة والبيئة المحيطة بالبلدة.

     الخصوبة والازدهار الذي جاء يعكس التغيير الذي أحدثته هذه الرحلة، إذ أنها محاولة لاستعادة الاتصال والشعور بالانتماء إلى البيئة المناسبة والقدرة على تعزيز الاتصال العميق واستعادة الهوية وإعادة التوازن والتأمل في مجتمع مألوف وقمع الروح الطبيعية.

 (تنتهي من أعمال بيتها حتى تجلس أمام منزلها وتفتح باب الأبدية في انتظار الخيط الذي سيأخذها إلى البعيد، كأن كُل خيط درب يأخذها لتبحث عن زوجها في الوديان والجبال، بين الأشجار الكثيفة ومغاور الصحراء والسيوح الممتدة، لعلها تصادف الرجل الذي احتفظت به في ذاكرتها، الرجل الذي طال النسيان كل شيء فيها إلا وجهه)(7)

  متاهات رحلة الغربة والبحث عن هوية الذات والآخر، مع التوتر والصراع على هوية الشخصية النسائية التي فقدت زوجها وتبحث عنه في مكان بعيد، وينعكس النص في وصفه لإنهاء أعمالها المنزلية والجلوس أمام المنزل، وهو ما يمثل تجاوزها للروتين اليومي، والمسؤوليات والتقاليد المجتمعية، واستعدادها لمواجهة التحديات ومغامرات جديدة. فهو يفتح باب الأبدية، الاستعداد الشخصي لبدء رحلة اكتشاف الذات بحثاً عن الشوق والاشتياق العميقين، والاستعداد الداخلي والروحي لبدء رحلة طويلة وغامضة بحثاً عن الزوج الضائع. في انتظار الخيط الذي سيأخذها إلى رحلة البحث والعودة إلى الحياة والهوية التي كانت تعمل عليها.

    يتحلى النص بالتناقض بين اندماج الشخصية في البيئة والطبيعة المحيطة  بها وبين التنوع البيئي الذي  ستكشفه الشخصية خلال رحلتها التي تتجاوز المكان المحدد للبحث عن حدود المألوف/ العادي، من أشجار كثيفة، وصحراء الكهوف، والسياح الممتدة، تجسيدًا للمعوقات والتحديات الجسدية والعقلية التي تواجهها الشخصية خلال رحلتها بحثاً… عن الهوية والمواجهة معها…

 الذات في رحلة بحث، بين الألم وأمل  في العثور على زوجها المفقود، فتلفت الانتباه إلى الحقيقة المؤلمة، بين النسيان العام والتركيز على رسم وجهه ، كرمز للهوية والارتباط العاطفي القوي، وتمثيل للأحاسيس والمشاعر المتضاربة التي يمكن أن يعشها الإنسان في نفسه. وسيلة التراضي مع الذات ومع  الآخرين.

     توظف دائرة الزمن قياسا مدى الشعور بالألم والشوق المحسوس وأهمية  إيصال رسالة محددة بعيدة عن المعاني الحرفية، لرحلة بحث ممزوجة بالأمل والألم مع الصور البصرية/ المرئية للمتلقي. رحلة بحث عن الهوية الذاتية لتصوير التحديات والاكتشافات التي يمكن أن يواجهها الفرد أثناء سعيه لفهم نفسه وتحقيق التوازن الداخلي.

… تُعد رواية “تغريبة القافر” دراسة نفسية واجتماعية ممتعة ومثيرة توفر فهمًا عميقًا لمتاهة الهوية المفقودة، وتحفّز التأمل التساؤلي حول الهوية والذات في تأثير الظروف والتحديات الخارجية التي نواجهها في رحلتنا الشخصية لاكتشاف هويتنا الحقيقية.

    رواية تسلط الضوء على الثقافة والتاريخ لتوسيع الأفق الثقافي والتعبير عن مجموعة من المفاهيم والأفكار برؤى وتحليلات معمقة للثقافة والمعتقدات والتقاليد، وإبراز الجمال والسحر بتأملات عمق وتعمقًا للمتلقي، فضلاً عن إضافة الإثارة والتشويق إلى الأحداث لتعكس الهوية الثقافية والتراثية للقراء بما يعزز الوعي ومد جسور التواصل الثقافي.

الهوامش:

(1) رواية تغريبة القافر: زهران القاسمي: الطبعة الأولى: دار النشر والتوزيع ـ تونس 2022، 10.

(2) المصدر نفسه:23

(3) المصدر نفسه:28

(4) المصدر نفسه:30

(5) المصدر نفسه:31

(6) المصدر نفسه:45

(7) المصدر نفسه:215

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى