قراءة في قصيدة “حكايا على متن سفينة نوح” للشاعرة التونسية نفيسة التريكي

محمد المحسن | تونس     
                                   
آه لو
تحكي شجون حكاياها العليلة،الشجية
لو عن
زلزات الريح للحصون
تحكي
عما أبقت لها وما أبقت فيها
آه لو
“سيخرّ لها الجبابر ساجدين”
لكنها لن تفعل،فكم ألفت صوت الصمت في قلبها الميت المعتوه المشحون بالأماني الخاويات واهات الروح في الحواشي والمتون
آه لو
يحكي شجن حكاياه الندية عن الراعدات القاصفات العاصفات المرعبات وصروف الصرصر و الدموع والأنين وويلات الخسارات والمحن
سوف تعتذر منه الأيام الغادرات
قد تلين
إنما
ربما هذا قد يصير
إن يتحول المستحيل ممكنا
أما والمستحيل سيظل المستحيل
فليس سوى الوهم والسراب يقرعان أبواب الافول والخراب
التناول بالنقد يعني أولاً أن المادة محَطَّ النظر قد تجاوزت عتَبَةً مُعيّنَةً ودخلت إلى دار الجدارةِ بالاهتمام والتفحّص. في هذا التجوال سأحاولُ أنْ أنظرَ للقصيدة في العموم أولاً، أتطرق بعدها إلى ما انزوى عن المألوف من مبررات للتناول بالنقد والغايات مِن ذلك، ثم أنظر فيما أظنه معايباً في القصيدة معتمِداً في ذلك بعض الأمر على المبررات والغايات تلك.
إذن؟
إن الشعر إذا الذي يستفز مواجدنا هو شعر حي,فكيف إذا تعرضت لقصف جميل من فوهة القصيدة،قصف يحشد جوارحك لتبحث عن خندقك في الصفوف الأولى,وتتحسس جعبتك,وتشهر -حبر روحك- لتصد حجافل الهزيمة, وتتهيأ لعرسك القادم،هكذا تندلع قصائدنا،تتلو كتابها المفتوح،لتلوذ من هزائم جديدة وانكسارات جديدة،فهل أطلت قصيدة شاعرتنا المبدعة نفيسة التريكي المبدعة من نافذة هذه اللوعة!
فالشاعر الحقيقي مشروع قائم بذاته،هذه-نفيسة التريكي-الشاعرة المسكونة بين الصمت والمعنى بجوهر الاشياء لا باعراضها،فالجملة الشعرية عند الشاعرة تأتي من معاني كبرى وعطاء غير مألوف، ولا مكرر، والملفوفة بموازنة شعرية دقيقة، بين الفكرة عمقا،واصالة، وتجديدا، وبين عرضها بأسلوب الحداثة الشعرية وتقنياتها وموسيقاها وأنينها التي تكرست عبر منجزات شعرائها واضافاتهم وفي مقدمتهم شاعرتنا الفذة نفيسة التريكة صاحبة هذا العمل الشعري(حكايا على متن سفينة نوح)
فالنصوص الشعرية التي تحشد بها دواوينها (وأزعم أني اطلعت على معظمها)،والتي تأتي في بنائها المكثف على شكل ومضات سريعة،تتحدث فيها الشاعرة بعفوية متألقة وتقنية بالغة التآلق والجمال، وتتمسك بدلالات موضوعة على نحو تلعب في حقل اللغة بمهارة اللاعب الذي يجيد كل ادوار اللعب في ساحة الملعب وتلعب المفارقة والمفاجئة دور الاهمية..
ولعل ما اقتبسناه من هذه الومضات الشعرية،يتيح للقارىء التعرف الى شعرية قصائد نفيسة التريكي سيما في القصيدة آنفة الذكر،وعمل الشاعرة التي حرصت على التكثيف والإيجاز والجسارة في استخدام الايحاء والرمز في اللغة،وتملك قوة وجدانية وعرفانية خارقة تنطوي على مزيد من الاحساس يالمفارقة،ويسجل لها بعض ملامح تفردها وخصوصيتها كواحدة من شعراء هذا الذوق الفني التونسي والعربي المصلوب بين ألم الكارثة،وبين الرؤيا الجميلة والرؤية الدميمة،ولها القدرة على التقاط صور المكان بشفافية وأختزال،-( السفينة-الحصون -الدموع-الأنين..إلخ)-، وعلى تحويل واقع الخيبة والألم الى واقع شعري صاف وجميل، تتآزر موسيقاه وصوره ودلالاته في نقل أحاسيسها الى قارئها والتأثير فيه،فمفرداتها شديدة الايماء كالشعر والاماني والشجن والخسارات والمحن..وما يحدث عند تلاقيها من تصادم وانشطار وتشظي في الآلم،ويجعل من هذه الامكنة وأشياء الطبيعة من خلق شعور بالألفة والانسجام الذي يخدم ايقاع الوجع،وما تتركه مجتمعة من فضاءات روحية،وايحاءات محفزة للمخيلة الشعرية،بلغة رشيقة وصور رامزة،وايحاءات كامنة في دلالات لا تخلو من فيض من الاحاسيس والرؤى المقلقة التي تشير ولا تفصح، والمدرك والمدقق فيها يكفيه فهم أبعاد الرؤيا وتحسس ما هجست به الشاعرة من رغبة في معادلة بالغة العمق وجوهرية الدلالة..
فلغة نفيسة التريكي لغة طازجة، وصورها مبتكرة، وهي تشكل حضورا متفوقا ومترعا بالعميق والجميل في حركة تصاعدية يزيدها توهجا في انتقاء لعبتها الشعرية بعناية فائقة،وان هواجس الشاعرة أوسع من ان تستوعبها قصيدة او ديوان شعري..
فالقصائد لا تقاس بالطول والعرض وانما تقاس بالعمق والإرتفاع أفقيا وعموديا، فنفيسة التريكي عميقة ماهرة بارعة في اصطياد المعنى وارتفاع في منسوب صياغته التركيبية والدلالاية،فبعض الجمل الشعرية عندها لا تزيد عن كلمة او كلمتين تأتي على شكل ومضة خاطفة ما لا تقوله المطولات الشعرية،بل ان هذه الومضات الخاطفة تنداح وتتناسل صورا عديدة قبل أن تبهر وتعبر العقول وتسكن في القلب ثم لا تبرحه.
تلك تجليات الشعر في أضيق المساحات المكانية والزمانية، انطلاقا من الشعر كالذهب، قليل ونادر،ولكنه غال الثمن والمعنى،وتستوفي الشاعرة التونسية نفيسة التريكي بهذه المقاطع الشعرية-المشار إليها أعلاه-شحناتها وتوترها،وتضع بصمتها على جرح التجربة – ان جاز التعبير-تجربتها مع الشعر ومع سيرتها الذاتية التي تحترق جل نصوصها الشعرية، وتطل منها شامخة بخرسها وتعاليها المنكسر..
هذه الشاعرة التونسية التي أنجبتها مدينة سوسة الساحلية تتصرف في عجينة اللغة كما تشاء واللغة تنبسط بين يديها كعاشقة مستسلمة لمداعبات الحبيب،تفرغ كل خزينتها وشحناتها وانفعالاتها لتعيد تشكيلها على شكل وحي من الشعر،وابنية واشتقاقات ولوحات ورسومات وصور وايقاعات بحرية رحبة فنفيسة التريكي وليدة تجربة -عتيقة-،في المجال الشعري،كما لها حضورها الوثير في الملتقيات الأدبية والإبداعية وقد استطاعت أن تفتح عالما جديدا لدلالات جديدة في عالم الشعر التونسي والعربي عموما..
ولها مني أجمل التحايا المفعمة بعطر الشعر..
ولنا عودة إلى مشهدها الشعري عبر مقاربات مستفيضة..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى