ثقافة العيب أم مخافة الله؟
د. سبأ جرار | فلسطين
“الإحساسُ ضعفْ،والتعبيرُ عن المشاعر عيبْ” ….عبارة إستوقفتني وأنا أستمع لأحد البرامج الإذاعية في الصباح، وكأنها المرة الأولى التي أدرك كم هي المشاعر محرمة وموؤده بمفهوم مجتمعاتنا في ألعلانية وكم هي مقبولة وبغيضة ومخنوقة في السر .
كم نحتاج من الثواني لنجيب على سؤال:- هل التعبير عن المشاعر والإحساس حرام تبعا لقوانين السماء وسنن الأحبة ممن لا ينطقون عن الهوى؟
هذا يبعث العديد من الأسئلة البسيطة التي قد تساعد على وصف الحالة التي يستفزها موضوع المشاعر والتعبير عن الصدق في الإحساس أي كان شكله أو وإتجاهه، والمصارحة في الرفض أو القبول أو الغضب إتجاه الاخر في لحظة نقرر فيها أننا أُرهقنا؟ …ما هي أولوياتنا؟ ما هي حدودنا؟
كبرنا مع مفهوم مقيت وخاطئ لا يربط المشاعر إلا في العلاقات مع الجنس الآخر، ولا يقبل العطف والمودة مع مفهوم الأبوة الصارمة، ولا يتقبل المعنى الإنساني لمفهوم الحب والعاطفة في كل علاقة عمل أو خدمة أو تكامل التي تتجسد في العطاء والإحسان، لا النفاق والمراءاة في كل ما عملنا أو علمنا، أو تواصلنا بحب .
ما هي قدرتنا على تقييم أنفسنا وتحقيق غاياتنا ضمن القوانين الذاتية والأحلام الخاصة، ومنصة الإعدام المنصوبة دائما للأحلام تحت بند العيب والخفاء
ويبقى السؤال الاستفزازي أين يمكننا أن نعبر عن مشاعرنا؟ أصلا كيف يحق لنا أن تكون لنا مشاعر مع الله أو مع الوطن أو مع أنفسنا أو مع الناس أو الإنسان في ألشارع؟ سواء أكان هذا الإنسان جنديا، أو موظفا، أو عتالا، أو سائقا ،أو طبيبا، أو طفلا، أو معلما، أو امرأة، أو أما ثكلى، أو مديرا متمرسا على الفساد، أو شابا يبحث عن وجوده.
المسميات الاجتماعية عانس، فقير، عديم الحظ، منكوب، تعيس، أرى من منظوري الإنساني الذي يحتمل الخطأ والصواب أنه في كل مكان، ولكل من تنفس وعرف الله، لأن التعبير عن المشاعر والتعامل بحب، هوية إنسانية لبناء مجتمع لا يخشى فيه الآخرون الآخر، ولا يتردد فيه الطفل من النزول للشارع وقبول قطعة حلوى من عابر سبيل.
إن هذا الميراث المقيت لبعض تراثنا حول ثقافة العيب لكل ما هو جميل وإنساني وعاطفي، قد خلط المعايير،فأصبح تعبير الأب عن مشاعره كسر للصلابة، وإضعاف للعلاقة مع الأبناء، وابتسامة المتجهة نحو بيتها في وجه السائق كسر للحياء، ودعوة للخطيئة، واحتضان المعلمة لمشاعر الطالبة المكسورة المهزوزة أمام المعادلات والمفاهيم المعقدة تحطيم لسور الصين العظيم بين المعلم وأتباعه.
كلها صور تلخصها عبارة واحدة ــ من وجهة نظري أيضا ــ أننا سحقنا حرية وإنسانية المشاعر والتعبير عنها لدرجة أنها صلبت على مذبح واهن يقف على كتلة من عالم الخفاء و التظاهر بالشرف والتستر بالكذب، فلا الحب والإنسانية مات بالطلقة الأخيرة وأحرق روايات عنترة وروميو، ولا سواد الكذب وإمتهان الادعاء إكتسب رداء القبول والسيطرة فنشرة سيرة الشيطان وأتباعه.
إن بلوغ القدرة على اقتلاع هذه المنصة المتربعة في قلب وعقل كل واحد منا تطلب، انتزاع الحق في التواجد بحرية متطلبات أي موقف إنساني، كما نريد لا كما يتحقق رضاء الآخرين والتوازن مع أحكامهم الحالية وأحكامهم المتوقعة التي قد يعلنون عنها.
لقد أرهقنا من رقابة الآخرين غير المبررة، فكانت عوالمنا الداخلية سلسلة من التعقيدات والاحباطات والتناقض، فلم نتقن الفرح بل نعيش الحزن والتأجيل له في كل تفاصيل الحياة، حتى بلغنا فقدان الإحساس بالدقائق والساعات والأيام المتحولة لكوابيس من المعاناة والقهر والكبت، نتمنى لها المضيّ وبلوغ الموت بنوعيه الموت الحي، أو الموت المدفون في المقابر .
ما أريد أنأصل إليه… أن أُخرج من نفسي أولا ذلك الخوف في بلوغ صدق التعبير، لأبلغ مرتبة الناصح للآخرين ودفعهم لتكسير سلاسل القهر والتبعية التي نلبسها لحظة نخرج للحياة فتكتسي اللون الأزرق أو الزهري، ويعيش كل منا عقوبة كونه ذكر أو أنثى.
كل ما أريده أن أصبح ونصبح مرئيين لا ظلال منعكسة لحقائق مرتعبة، وأن نبدأ في الإفصاح عن خوفنا قبل فرحنا وعن ضعفنا قبل قوتنا، أن نتقن التسويق لقيمتنا كما نراها، ونكسر تماثيل القبص التي وضعت أُطر لقيمة كل واحد فينا تحت مسميات الشهادات والأموال والرضى من الأسياد والعباد، يجب أن نتمرد على الموروث الجاهلي لحقيقتنا المرتبطة بالتعصب والتبعية للآخر، ونستبدلها بحقيقة ما ميزنا الله به عن كائناته بالقدرة على التفكير والتفكر، لنتقن العبادة وصنع الحياة .
يجب أن نبلغ تحقيق “ألهو” فينا لكل من يريد بعدالة وتوفر الفرص والتوازن مع الأنا والأنا الأعلى، وأن نتخلص من مسلمة الرهبنة الاجتماعية لتبرير ظلمنا وسرقتنا لأحلام الآخرين، يجب أن نخرج عن كل ما يفقدنا السعادة ونحطم أوثانه تحت مبرر أن الحزن والتضحية ضريبة الرضى لأولي الأمر وأُولي النعمة وأُولي السلطة.
هذا فهمي لما شعرت فكتبت وهو محتمل للخطأ أكثر من الصواب، ورؤيتي كيف تستحق الحياة أن نعيشها.
وأخيرا يجب أن نؤمن ان أجمل ما في احتمالية الخطأ أنها تعطينا فرصة جديدة لتشكيل مفهوم أكثر إبداعا وخبرة، لنتابع الحياة بعد النهوض، وأن تكون أي رابطة إنسانية مع الآخر نابعة من مخزون القيم المستند لعقيدة الإيمان لا من ثقافة العيب المصطنع.
وجدنا لنحيا، وعندما أخطأنا عاقبنا الله بالخروج من الجنة لبلوغ الحياة، والتي تحتضن من الجمال وسمات الجنة الكثير ليكفي إعادة البحث عن العودة للجنة .