ذليل.. قصة قصيرة
د. سامي الكيلاني | فلسطين
بعد أن وقع في السجل المخصص لـ”إثبات الوجود” الخاص بمن صدرت ضدهم أوامر الاحتلال بالإقامة الجبرية، ككل يوم، طلب منه ضابط الشرطة المناوب أن ينتظر خارج المكتب. فهم الأمر، إنه اليوم الأخير في فترة الإقامة الجبرية الحالية، ستة شهور انقضت، إذن هناك أمر عسكري بفترة إقامة جبرية أخرى، هناك ستة شهور أخرى سيقضيها في القرية بعيداً عن بيته في المدينة، بيت الأسرة التي تشكلت بزواجه. كان لديه بعض الأمل بأن لا يتم تجديد هذا الأمر لأن العادة كانت أن يتم تسليمه الأمر الجديد قبل أيام من انتهاء الأمر الموشك على الانتهاء. منذ الصباح تشكل لديه بعض الأمل، أن يخرج من مركز الشرطة وعلى وجهه علامات فرح ستراه زوجته المنتظرة في الخارج. صور التفاؤل التي راودت خياله منذ الصباح بدأت تتلاشي، صورة العودة إلى البيت الذي غادره منذ سنتين في سيارة عسكرية بعد اعتقاله ليلاً ونقله إلى مقر الحكم العسكري حيث سلموه أمر الإقامة الجبرية الأول، البيت الذي تركه قبل أن يكتمل الشهر السادس لزواجه راوده الأمل بالعودة إليه مع الزوجة والطفلة. صورة دخول البيت وتفاصيله ترتيبه ليتسع لفرح العودة، صورة الجلسة على الشرفة الشرقية لاحتساء قهوة الصباح، صورة الغرفة التي ستتجهز للطفلة التي جاءت إلى هذا العالم بعيداً عن البيت، صورة العودة إلى العمل وقاعات التدريس وطلابه وطالباته، وجلسات الحوار مع الزملاء، مشاريع كثيرة للتعويض عمّا فات برحلات وزيارات واستمتاع بحرية التنقل في أرجاء الوطن، صور كثيرة بدأت بالتلاشي مع مرور الوقت جالساً على المقعد في طرف الممر مقابل مكتب الضابط. طال جلوسه على مقعد الانتظار، أكثر من نصف ساعة من الانتظار بدت ساعات، فكانت مساحة زمنية واسعة للمد والجزر. ربما ليس في الأمر تجديد للأمر اللعين، استعاد الأمل، ربما سيطلبون منه مراجعة المخابرات ليسمعوه التهديدات والتحذيرات المعتادة، وأنهم رغم انتهاء الإقامة الجبرية فإن عيونهم ستبقى مفتوحة عليه وأنهم يعرفون الصغيرة قبل الكبيرة، الاسطوانة المشروخة ذاتها. ارتفع مد التفاؤل قليلاً، سيستمع للأسطوانة بهدوء أعصاب وسيرد عليهم بأقل القليل، وسينتهي الأمر بعد ذلك بالخروج إلى عالم حر، سيعود إلى القرية سريعاً ليودع الأم والعائلة في القرية ويأخذ حقيبة الملابس وحقيبة الكتب وسرير الطفلة ويمضي إلى البيت المنتظر.
مر عنه رجل سمين يلهث من صعود الدرج وتوجه إلى مكتب الضابط. اعتقد للحظة أنه مطلوب للتحقيق، لكنه سمعه يتحدث بكلمات ممزوجة بلهاثه، حديث مسموع مليء بعبارات التوسل والرجاء، اتضح له من خلال أطراف الحديث أنه واحد من عملاء الاحتلال يتوسل ألاّ يسحب منه مسدسه لأنه “مهيّب” عليه، سمع العبارة بوضوح “الناس سوف يأكلوني لحمة خضرة لولا وجوده معي”. كان الباب نصف مفتوح فرأى جزءاً من الصورة والحركة داخل المكتب. غابت عنه الصور المتضاربة، غاب عنه شعور القلق، ولم يعد يفكر بفترة الإقامة الجبرية التالية، لم يعد يفكر بستة شهور أخرى بعيداً عن عمله وبيته في المدينة كما كان قبل دخول الرجل السمين إلى الغرفة. شعر بفخر مضاعف وبحلاوة التحدي الذي يعيشه على الرغم من كل ما ينتظره من معاناة متجددة وآلام لأسرته، لزوجته وطفلته. تمنى لو أنه يرى المشهد كاملاً بكل تفاصيله، ووتمنى لو أن المشهد يتكرر مع عميل آخر، عميل تبجح طويلاً بغير خجل معتبراً نفسه وجيهاً من وجهاء المنطقة، لكنه بدأ ينكمش حين انتشرت المظاهرات في الأيام الأخيرة ولا بد سيصل في يوم من الأيام إلى هذا الوضع.
أسند ظهره ومد ساقيه مستمتعاً بالرضا عن الذات. العميل يحاول أن يقع على الأرض ليقبّل قدم الضابط الذي كان يدفعه بقرف ويصرخ به بلغة مكسرة بأن أوامر من أعلى تقول إن عليه أن يسلم مسدسه ولا مجال لغير ذلك، كان يصده صارخاً بأن يبتعد عنه وأن يفعل ما هو مطلوب منه فقط، أن يسلم سلاحه لأنه استعملته دون إذن، فمن يعتقد نفسه، هل يفكر نفسه جندياً. انتبه الضابط للباب المفتوح وللجالس على المقعد في الممر منشرحاً مسترخياً، قام وأغلق الباب بقوة. لم يعد يسمع سوى كلمات متناثرة غير واضحة، يسمعها بالكاد، ولكنه يميز نوعين من الأصوات، نبرات عالية بلغة الضابط الخليط من العبرية والعربية المكسّرة، وصوتاً ضعيفاً استجدائياً.
خرج السمين مطأطئ الرأس، رآه صغير الحجم، كان منكمشاً فعلاً، كان ذليلاً لا ينظر إلى أية جهة غير النظر في أرضية الممر، تنحنح بقوة عسى أن يجعل الذليل ينظر باتجاهه، كانت لديه رغبة جامحة أن يرى تفاصيل وجهه، وحتى ودّ لو يستوقفه ويسأله بسخرية عن مشكلته ولماذا كان الضابط يصرخ عليه وكأنه لا يعرف شيئاً، لكن الوضع لم يكن يسمح بذلك، اختفى الذليل نزولاً مع الدرج إلى الطابق الأرضي. بعد قليل فتح الضابط الباب وناداه ليدخل، أخرج ملفاً من درج المكتب وانتزع منه ورقة وسلّمه إياها، وطلب منه التوقيع على نسخة أخرى، كانت تتضمن أمر إقامة جديداً مكتوباً باللغة العبرية. أراد الضابط أن يوضح له حيثيات الأمر وكالعادة بلغته العربية الركيكة، لكنه اختصر عليه الأمر وقال بأنه يعرف كل حرف في الأمر، لا يريد أن يضيّع أية دقيقة أخرى فزوجته تنتظره في الخارج ولا بد أنها قد قلقت عليه، فالتوقيع وإثبات الحضور في سجل الشرطة لا يستغرق عادة أكثر من خمس دقائق.
هبط الدرج إلى الطابق الأرضي، سار باتجاه الباب الرئيس للمبنى، تناول بطاقة هويته التي كان الشرطي الواقف في الباب الخارجي قد أخذها منه عند الدخول، خرج من المبنى وصور العديد من رفاق النضال والمعتقل وحتى الشهداء منهم يمشون في موكب كبير، كلهم يسيرون منتصبي القامات مندفعي الصدور رافعي الرؤوس في ساحة واسعة، ساحة لم يدخلها من قبل، ساحة ربما دخلت ذاكرته من إحدى الروايات التي قرأها في الوقت المفتوح الذي منحته إياه إقامته الجبرية في القرية، اندمج في موكبهم وسار مثلهم منتصب القامة مندفع الصدر رافع الرأس.