بقلم: دكتور/جمال فودة
عضو الاتحاد الدولي للغة العربية
كاتب وناقد وأكاديمي مصري
أولا – (القصيدة)
صارخ بينهم
صارخ حولهم
صارخ عندهم
صارخ
صارخ
صارخ
لا أذن تسمعه
لا عين تتبعه
لا قلب يودعه
هجروه
أطرق في المجهول
في الزمن المطلول
في العلة والمعلول
في الفاعل والمفعول
في العرض وفي الطول
يتلبس وحدته
ويساير غربته
ويساءل نظرته
جهلوه
فمه مفتوح
صمت ينخره
وهواء يمخره
وغياب يحفره
التفتوا للصوت الساكت
واندهشوا للنظر الباهت
والتجئوا للوقت الفائت
وانتبهوا
بيقين
سمعوه
قد سردته الدهشة
وأضاءته الحكمة
في جوهرها
عرفوه
ثانيا – (القراءة النقدية)
يعد التكرار من الظواهر الأسلوبية التي تلعب دوراً بارزاً في كشف إبداعية النص الشعري، إذ يصور تموجات الحالة النفسية التي تعتري المبدع، لهذا فإن التكرار يتميز في الشعر الحديث عن مثيله في الشعر القديم بكونه يهدف بصورة عامة إلى الإبانة عن دلالات داخلية فيما يشبه البث الإيحائي، إذ ينزع إلى إبراز إيقاع دراميسيكولوجي.
واللفظ المكرر يمثل بؤرة أو نقطة ساطعة في جسم القصيدة تجذب نحوها الوسائل الفنية الأخرى لتتحد كلها وتسهم في كشف وإزالة الأغلفة التي تحمل في طياتها المعنىالحقيقي، فضلاً عن دوره في إثراء موسيقية النص من خلال الإيحاء بسيطرة العنصر المكرر وإلحاحه على فكر الشاعر وشعوره.
ويقوم التكرار في القصيدة الحديثة بوظيفة إيحائية بارزة،وتتعدد أشكاله وصوره تبعاًللهدف الإيحائي الذي ينوطه به الشاعر، وتتراوح هذه الأشكال ما بين التكرار البسيط الذي لا يتجاوز تكرار لفظة معينة أو عبارة معينة، وبين أشكال أخرى أكثر تركيباً وتعقيداً يتصرف فيها الشاعر في العنصر المكرر بحيث تغدو أقوى إيحاءً.
لقد برزت ظاهرة التكرار بشكل واضح في شعر”سعيد الصقلاوي“، وأخذت عدة مظاهر للحضور خلال النص الشعري، فمنها تكرار الحروف، وتكرار الألفاظ (أسماء وأفعال)، وتكرار العبارات، الأمر الذي يضع بين أيدينا مفتاحاً للفكرة المسيطرة على الشاعر في أعماق اللاشعور، إذ إن إيقاعية التكرار تمثل عوداً نفسياً للمغزى الدلالي اعتماداً على التجانس النفسي في التطابق الصوتي، وبه يصبح تشكيلاً نامياً ذا دلالات خاصة من خلال التشابهات الصوتية للوحدات الإيقاعية.
لقد عمد الشاعر “سعيد الصقلاوي ” إلى استخدام بعض الحروف وتكرارها في قصيدة بعينها، مما أثرى الإيقاع الداخلي بلون من الموسيقى الخفيفة تستريح له الآذان وتقبل عليه مستمتعة به، ففي قصيدته السابقة (صمتصارخ)تكرر صوت الراء (ست عشرة مرة) وهو صوت لثوى مجهور، تتكرر فيه ضربات اللسان على اللثة تكراراً سريعاً؛ليعطى رعشة مكررة تجسم ما أصيب به الشاعر من إحساس بالضياع وفقدان للأمل، هذا فضلاً عما لهذا الصوت من قوة ووضوح سمعي يوحيان بالصخب العنيف الذي لا يقوى الشاعر على كتمانه.
ليس معنى هذا أن الصوت المفرد يحمل دلالة ذاتية قبلية كامنة فيه، إذ من الممكن أن يحاكى كل هذه المعاني صوت آخر مختلف في صفاته عن صوت “الراء ” ولكن الشاعر استطاع أن يشحن هذا الصوت بهذا البعد الدلالي من خلال موقعه في السياق.
والشاعر إذ يسعى إلى استغلال قيمة الإمكانيات الصوتية، فإنما يهدف إلى إيجاد نوع من التماثل الصوتي الذي يساعد على تجسيد التجربة الشعرية، لذا فالشاعر يتعامل مع الأصوات تعاملاً خاصاً يستنطق من خلاله خصائصها السمعية التي تؤثر في إنتاج الدلالة.
وفي بعض الأحيان يلجأ الشاعر ” سعيد الصقلاوي” إلى تكرار بعض الحروف كأداة ربط نغمي بين أجزاء القصيدة، حيث تصبح مطلعاً للجملة الموسيقية التالية التي ترتبط بسابقتها إيقاعياً ودلالياً، مما يؤدي إلى تتابع حركة الموسيقى الداخلية مع تتابع الحروف المتكررة لفترة زمنية معينة في القصيدة؛ذلك أن للشعر خصائص تنظيمية وتنسيقية تميزه عن أي بناء لغوي آخر، وتحديد النسق ينبع من طغيان ظاهرة لغوية في التركيب الشعري، يبرز من خلال تكرارها ودورها الإيقاعي الذي يشكل المعنى تشكيلاً خاصاً.
ومن ذلك قوله:
صارخ
لا أذن تسمعه
لا عين تتبعه
لا قلب يودعه
هجروه
لقد تخلل حرف النفي (لا) أجزاء القصيدة لينفي كل ملامح الاستجابة، ومن ثم يثبت له كل مظاهر التجاهل، من أذن لا تسمع، وعين لا ترى، وقلب لا ينبض، ولعل الشاعر أراد بتوزيع حرف النفي على هذا النسق المتفاوت المواقع، أراد التركيز ـ موسيقياً ـ على هذه الحروف المتتالية كأداة ربط نغمي، فضلاً عما تمثله من تلوين موسيقي محبب لدى المتلقي.
إن الشاعر موجه بإيقاع مسيطر يطلب تشكيله، وعليه أن يلبى بإخضاع الكلمات لمطالب هذا التشكيل، الذي يستدعى الكلمات ويكسبها قيمتها في أنظمة لغوية تحقق بنية القصيدة ودلالتها الرمزية.
هذا، ويمثل تكرار الألفاظ والعبارات ملمحاً أسلوبياً مميزاً في شعر “سعيد الصقلاوي”، يعتمد عليه كثيراً كأسلوب فني يحتوي على إمكانيات تعبيرية متعددة بواسطة الإلحاح على إعادة هيئة التعبير لاستثارة المخزون والمكبوت النفسي من المشاعر والأحاسيس.
ومن أشكال التكرار في شعر”سعيد الصقلاوي” ما يسمى بـ (الترديد) وهو تعليق الشاعر لفظة في البيت متعلقة بمعنى، ثم يرددها فيه بعينها ويعلقها بمعنى آخر في البيت نفسه، ويعد التكرار بالترديد من الأساليب التي تتميز بقدرتها على ترتيب الدلالة والنمو بها تدريجياً في نسق أسلوبي يعتمد على التكرار اللفظي، كما أن هذا الأسلوب يجعل المتلقيمشاركاً مشاركة فعلية في استكشاف جماليات التعبير الفني، إذ يدفعه إلى قراءة البيت مرة ثانية ليقف على أثر التوزيع والاختيار اللذين يعدان من أبرز سمات العمل الإبداعي.
ومن نماذج الترديد في شعر “سعيد الصقلاوي” قوله:
صارخ بينهم
صارخ حولهم
صارخ عندهم
في النموذج السابق نلاحظ تكرار/ تردد كلمة ” صارخ ” هذا التردد يقوم على اكتساب معان ٍ جديدة من الألفاظ المجاورة مما يخرجه عن النمط المألوف ، ويعدل به عن دلالة المطابقة إلى الناحية الإبداعية ،لأن العنصر المتردد في سطور القصيدة هو نفس العنصر الأول فيها ،لكنه في المرة الثانية غيره في المرة الأولى ،وفي المرة الثالثة غيره في المرة الثانية وهكذا ؛ لأن وجود اللفظ نفسه أكثر من مرة في بنية تركيبية مختلفة يحدث التفاتاً من الأول إلى الثاني إلى الثالث ، ولا شك أن هذا التغاير يجعل المتلقي أكثر انتباهاً لما حل به من تغيير.
فالصارخ أولاً كان (بينهم) فلم يسمعوه، ثم ابتعدوا عنه،فصار (حولهم) قريباً منهم، لكن هيهات! انتهى به المطاف (عندهم) حاضراً غائباً.
وهكذا يتضح لنا أن التردد كنمط تكراري يتحقق معه دفع المعنى إلى النمو تدريجياً وصولاً إلى الحد الذي يحسن الوقوف عنده، حتى يمكن أن نعد اطراد المعنى تداخلا ً مع وجوه الحال المناسبة فيه.
لقد جاء التكرار ليكشف لنا عما تموج به نفس الشاعر تجاه اللفظ المكرر، إذ يكتسب التركيب معاني إضافية مع كل مرة يتكرر فيها، مما يقوى ويؤكد الدلالة المطروحة، ويجعل الحركة الناتجة عن هذا التكرار إيقاعاً يسرى في بنية النص، كما تسري هذه المعاني المتدفقة.
* ثمة شكل أخر من أشكال التكرار في شعر”سعيد الصقلاوي” ألا وهو تتابع اللفظ المكرر في أوائل السطور بشكل متتال ٍ، وتتعدد مظاهر هذا النمط التكراري، فقد يكون المكرر حرفاً أو اسماً أو فعلاً، ويحقق هذا الشكل بملامحه المتعددة توازياً صوتياً واضحاً نتيجة للترجيع الصوتي،كما أنه يساهم في ترابطمكونات /سطور القصيدة، فهو وسيلة ناجحة في تمديد العبارة، وعرض الكثير من تفاصيل الفكرة / الصورة التي يعرضها، يقول الشاعر:
أطرق
في المجهول
في الزمن المطلول
في العلة والمعلول
في الفاعل والمفعول
في العرض
وفي الطول
لا شك أن تكرار حرف الجر (في)بهذه الصورة يحفر بعمق في ذات الشاعر ليكشف عن مدى المعاناة التي تكسو التجربة، فالحرف” في ” بمثابة محور ارتكاز ينطلق منه الشاعر إلى تصوير بعد معين من أبعاد رؤيته الشعرية، فإذا ما انتهى من هذا البعد انطلق إلى بعد آخر من خلال التكرار.
من العرض السابق لبنية التكرار بوصفها ـ ظاهرة أسلوبية ـ يتضح لنا كيف تمثل مظهراً من مظاهر الحركة وإثارة الدلالة، كوسيلة إيقاعية تكشف عن إبداعية النص الشعري، فضلاً عما تقوم به من تنويع للموسيقى الداخلية وتعزيز للنغمة التي يستعين بها الشاعر على بث خواطره؛ حيث يجعل اللفظ وتراً من أوتار عدته الموسيقية داخل العمل الفني.
ومن ثم يعد التكرارتأكيداً للتنوع، وتوقيعاً لفظياً للثراء الدلالي؛ لكونه مثيراً حسياً لمجموعة من المنبهات الترابطية داخل الذهن الشعري المنتج للقصيدة التي أصبحت ـ بشكلها هذا ـ معادلاً رمزياً يوازى فيمة الداخلي الخارجي والخارجي الداخلي، بحيث لا يتضح الفصل ولا تتبين الحدود.