الإرهاب في إدراج المنظمات الحقوقية الفلسطينية ضمن قائمة “الإرهاب”
أمير مخّول | حيفا – فلسطين
على الرغم من اليقين من أن إسرائيل لا تتورع عن أي انتهاك ضد الشعب الفلسطيني، فإن خطوة وزير الحرب غانتس في إدراج ست منظمات حقوقية فلسطينية ضمن قائمة “الإرهاب”، كان فيها نوع من المفاجأة، وخصوصاً أننا بصدد خطوة تصعيدية نوعية من دولة الاحتلال، والتي فيها تعميق وتثبيت لسيطرتها على مساحات جديدة، فإن كان الحيز الفلسطيني العام مصادَر ومحتل، فالخطوة الحالية هي عدوان تصفوي على الحيز الفلسطيني الخاص أيضاً، وعلى الخطاب الحقوقي الفلسطيني.
لا تنحصر المفاجأة في الملاحقات، إذ تعرضت هذه المؤسسات وغيرها وطواقمها، وتتعرض دائماً للملاحقات والمداهمات ومصادرة الحواسيب والأملاك. بالإضافة إلى حملة عدوانية دولية من دولة الاحتلال لإسكاتها وقطع التمويل عنها، مرة باعتباره دعماً للإرهاب، ومرة باعتباره دعماً لنزع شرعية إسرائيل، وأُخرى باستخدامها فرية “العداء للسامية” التي تُخرجها من إطار الموقف من اليهود وتُلحقها بكل من يناوئ سياساتها.
كانت المفاجأة أيضاً في الإعلان جماعياً ودفعة واحدة تصنيف ست مؤسسات حقوقية، وهي من أكثر المؤسسات المحمية دولياً بسبب ارتباطاتها بالمؤسسات الدولية الأممية والرسمية وغير الحكومية، ولأنها مجتمعة، وكل واحدة منها على حدة تملك سمعة ورصيداً وجدارة عالميين. كما أن الاحتلال ودولته سيخضعان لمساءلات وضغوط دولية جرّاء هكذا خطوة؛ وبتفكير سياسي، من شأن الإجراء الاحتلالي أن يرتدّ على أصحابه، بل سوف يندرج ضمن عمل لجنة التحقيق الدولية في ممارسات إسرائيل، والمنبثقة عن مجلس حقوق الإنسان الأممي. كما تمتلك هذه المؤسسات صدقية كبيرة محلياً، سواء بسبب دورها في الدفاع عن الحق الفلسطيني ومن أجل استعادته، أم في حماية حقوق الإنسان في مقابل انتهاكات المؤسسة الفلسطينية الحاكمة في الضفة الغربية وقطاع غزة على حد سواء.
المفاجأة الأُخرى كانت في مدى التحسّب والتخوف الإسرائيلي من المؤسسات الحقوقية الفلسطينية، بما في ذلك من اعتراف ضمني بمدى نجاعة دور هذه المؤسسات وأخواتها في كلٍّ من قطاع غزة والضفة والقدس والداخل، وتخوُّف اسرائيل من دورها. وفيها تأكيد أن الإجراء يتضمن استخدام إرهاب الدولة من أجل هدف سياسي لا علاقة له بالأمن، ناهيك بأن مقاومة الاحتلال هي حق مثبت في القوانين والأعراف الدولية.
على الرغم من تقدير موقف الاتحاد الأوروبي من رفض الإعلان الإسرائيلي، وموقفه من الاحتلال والاستيطان، فإن أي تراجُع أمام الضغوط الإسرائيلية لا يمكن أن يوقفها، بل تستغلّه من أجل المزيد من الابتزاز المتدحرج الذي لا يتوقف إلا إذا واجهه موقف حازم. لقد حدثت تراجعات في سياسة الاتحاد الأوروبي التمويلية، جزء منها يعود إلى الموقف الأميركي تحت مسمى “محاربة الإرهاب” وفرض توقيع المؤسسات المعنية بالتمويل وثيقة حظر الإرهاب، والتي تعني صيغتها أن النضال الفلسطيني إرهابي. وعملياً، تبنى الاتحاد الاوروبي سلسلة من التضييقات في هذا الصدد، وهو ما عزّز التمادي الإسرائيلي الاحتلالي على حساب المؤسسات الحقوقية الفلسطينية.
سواء أكان بالصدفة أو مخططاً له، فإن إعلان قرار غانتس، وهو قرار ليس وليد اللحظة، لكن التحكم في التوقيت هو شأن مهم لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، جاء في نهاية الأسبوع وعشية انعقاد أحد أهم الاجتماعات الفلسطينية الدولية في لاهاي الهولندية، تحضيراً لرفع الدعاوى والحملات المرافقة أمام محكمة الجنايات الدولية وضمن الاستعدادات للجنة التحقيق في ممارسات الاحتلال المنبثقة عن مجلس حقوق الإنسان. وكانت التنظيمات الداعية هي: مؤسسة الحق، والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، ومركز الميزان لحقوق الإنسان.
ذهنية إملاء التراجع على الفلسطينيين
تطورت لدى دولة الاحتلال عقلية القدرة على ارتكاب كل الانتهاكات بحق الفلسطينيين من دون دفع الثمن، وقد شكّل القرار المذكور أيضاً استباحة للسيادة الفلسطينية السياسية والقضائية المبتورة أصلاً، واعتداءً على مقومات وجود السلطة الفلسطينية. لكن هذا التوجه ليس بجديد، بل هناك مواقف سابقة يجدر ذكرها كي لا تتكرر. إذ إن هناك مشكلة فلسطينية لا يجوز تغييبها، وهي ما حدث سنة 2002 بعد المجزرة الاحتلالية في مخيم جنين، حيث قامت إسرائيل، بواسطة الوعود السياسية والضغوط والتهديد السياسي، بفرض تراجُع منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية عن رفع دعوى أمام محكمة الجنايات الدولية لمحاكمة القيادات الإسرائيلية السياسية والعسكرية بصفتهم مجرمي حرب.
في سياق إعلان غانتس المذكور، ومن منطلقاته، لا يُستبعد أن تكون زيارته إلى الرئيس محمود عباس التي سبقت الإعلان واللقاءات الأمنية والسياسية التي جرت، مسعى استعمارياً وضربة إسرائيلية استباقية لتفريغ القرار الفلسطيني باللجوء إلى الجنايات الدولية والتعاون مع لجنة التحقيق الأممية من محتواه. بينما ما قام به غانتس تجاه المؤسسات الحقوقية غير الحكومية فيه أيضاً مركّب من مسعى لنسف بنية المؤسسات ذات الصدقية التي تتابع الجنائية الدولية وتعدّ الملفات بشأنها وبشأن لجنة التحقيق. ومن عادة اسرائيل السعي لتكرار تطبيق نماذج العمل الناجحة بالنسبة إليها.
كما أن خطوات إسرائيل التي تبدو متناقضة، بينما هي متكاملة في الجوهر، تبيّن أن هذه الدولة تملك مخططاً أبعد من حصره في المؤسسات الست. ففي الأسبوع نفسه الذي صدر فيه إعلان إدراج المؤسسات، أُعلن منح تسعة آلاف تصريح لعمال بناء فلسطينيين في المرافق الإسرائيلية، وأُعلن قرار بناء ألف وثلائمئة وحدة استيطانية في مقابل السماح ببعض البناء الفلسطيني في مناطق ج. كما أُعلن تنظيم وضعية المواطَنة في الضفة لأربعة آلاف من الفلسطينيين، أي السماح للسلطة الفلسطينية بتسجيلهم في سجلات السكان التابعة لها، والخاضعة للاحتلال. ففي هذه المناحي دلالة على عمق التفكير الاستعماري القائم على مقايضة الحق الفلسطيني بمنافع مادية. يضاف إليه استغلال الحكومة الحالية لسمعتها وللغطاء العربي واليساري لها، لتصوير نفسها بأنها حكومة تغيير، بينما تقوم بممارسات، بما فيها إعلان غانتس، من المستبعد أن حكومة نتنياهو كانت قادرة على القيام بمثلها.
المستعمِر المرعوب من أداء ضحاياه
في سنة 2001، وفي سياق المؤتمر الدولي ضد العنصرية (مؤتمر ديربان) استُحدثت وزارة إسرائيلية تُعنى بالشؤون الاستراتيجية والإعلام. في سنة 2015 أقرت حكومة نتنياهو إناطة وزارة الشؤون الاستراتيجية بمسؤوليات قصوى، وهي تعمل من خلال مكتب رئيس الحكومة، وتعنى بمواجهة كل المساعي للنيل من شرعية إسرائيل بصفتها البيت القومي للشعب اليهودي، وبمحاربة حملات المقاطعة والدبلوماسية الفلسطينية الشعبية والرسمية في أنحاء العالم. قامت الوزارة بتنسيق كل الحملات الصهيونية الرسمية وغير الرسمية، على أساس تكامُل الأدوار وخدمة أهداف الوزارة. وكان مرصد المنظمات غير الحكومية (NGO Monitor)، ولا يزال من أبرز هذه الحملات المعتمدة رسمياً، والذي يراقب كل ما يصدر عن المنظمات الفلسطينية غير الحكومية، والمنظمات العالمية، وكذلك المنظمات الإسرائيلية لحقوق الإنسان. كما يراقب تصريحات مسؤوليها ومصادر تمويلها ويبني الحملات للقضاء على التمويل.
لقد استحدثت الدولة منظومة أطلقت عليها “كيلَع شلومو” (مقلاع سليمان)، والمعروفة أيضاً باسم “مشروع كونتسيرت”، وقد أقرتها الحكومة سنة 2017، وخصصت لها ميزانية تصل إلى أكثر من ربع مليار شيكل (80 مليون دولار)، وهي الذراع المتقدمة لوزارة الشؤون الاستراتيجية، وهي “شركة للصالح العام”، وبملكية خاصة أقيمت من أجل تنفيذ جزء من الأنشطة فيما يتعلق بظاهرة نزع الشرعية عن إسرائيل والمقاطعة، وذلك بالتنسيق مع الوزارات ذات الشأن في سنة 2018، وتملك هذه المنظومة عدداً من البنى التابعة لها في مجالات متعددة، ومنها المعلومات والأبحاث، والنشاط على شبكة الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، والتأثير في الوعي العام، وانتداب الوفود والزيارات، وكذلك منح مالية لأنشطة المنظمات المساندة لإسرائيل وتطوير أنشطة وأدوات جديدة للعمل في هذا الصدد. كما تتلقى الدعم غير الحكومي من ذات المصادر التمويلية اليمينية اليهودية الأميركية التي تدعم حركة إم – ترتسو.
لو أنعمنا النظر في تسويغات غانتس لإعلاناته الستة المتزامنة، والتي يدعي أنها مستندة إلى عمل استخباراتي، نجد أنها اعتمدت بشكل شبه مطلق على تقارير مرصد المنظمات غير الحكومية و”كيلع شلومو”، وهي في جوهرها تقارير قائمة على مفهوم الملاحقات السياسية.
توسيع مفهوم المنظمات “الإرهابية”
نسب وزير الحرب غانتس إلى التنظيمات الستة “تهمة” العمل في “الإرهاب” وتوفير مظلة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بل وتشكّل بنية مدنية لها. هذا المفهوم الاستخباراتي ليس جديداً، بل هو متّبع على الأقل منذ ثلاثة عقود ونيّف، وعلى سبيل المثال “مركز دايان” في جامعة تل أبيب الذي تخصص في الثمانينيات والتسعينيات في الحركات الإسلامية، وقضت تنظيراته بأن جمعيات ولجان الإغاثة والزكاة ورعاية الأيتام هي جميعات تبييض أموال وتغطية للعمل “الإرهابي” لهذه التيارات، وفعلياً، اعتمدت المؤسسة الأمنية والسياسية الإسرائيلية هذا التوجه وعملت بموجبه في ملاحقة مؤسسات وجمعيات الحركة الإسلامية في الداخل، أو في ملاحقة المؤسسات الخيرية في الضفة والقدس بادعاء ارتباطها بحركة المقاومة الإسلامية “حماس”.
بينما تم في العقدين الأخيرين توسيع نطاق هذه الأفكار لتشمل مجمل المنظمات الحقوقية والتنموية الفلسطينية، وبالذات التي تصدت في حينه لهذه الملاحقات والمساعي لتجريم العمل الاسلامي، وفي سنة 2018 أصدرت وزارة الشؤون الاستراتيجية كتيّباً بالعبرية بعنوان “مخربون بالبدلات”، وفيه استخدام النمط التفكيري نفسه، وهذه المرة تجاه العاملين والعاملات في المؤسسات الحقوقية الفلسطينية واتهامهم بأنهم “إرهابيون بالياقات البيضاء”. وشمل التقرير المؤسسات الست التي استهدفها غانتس بالإضافة إلى منظمات أُخرى.
كما استحدثت جانباً آخر وهو ما تقوم به الاستخبارات الإسرائيلية من مساعٍ لنسف صدقية هذه المؤسسات أمام شعبها وأمام الممولين، والتضامن من خلال الادعاء أنها تبيّض الأموال، ودمغها بالغش وخداع الجهات الممولة، وسوء إدارة المساعدات المالية، وبالذات من الاتحاد الأوروبي المعروف بصرامة المعايير التمويلية. وإذ جرى تسويغ القرار أمام الإسرائيليين بأنه مسألة أمن قومي ومحاربة “الإرهاب”، فإن في ذلك أيضاً رسالة إلى منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية وفرض سطوة عليها بعدم التعاون مع المنظمات الحقوقية الفلسطينية في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية.
وهذا نهج استخباراتي معهود بقبحه، وهو دمغ القوى الوطنية الملاحقة سياسياً واستخباراتياً بالفساد أو الغش، وهي “تهم” لا تعني الشاباك أو أجهزة الدولة، بل على العكس، فالشاباك مثلاً يمنح الحصانة من ملاحقات الشرطة لعالم الجريمة والخوّة والغش وتبييض الأموال من أعوانه، كما أنه تاريخياً فرض مسؤولين فاسدين لإدارة أملاك الغائبين وأوقافهم، وبالذات لكونهم فاسدين، كي يعقدوا الصفقات مع الدولة لتصفية هذه الأملاك والأوقاف.
في الملاحقات السياسية يدمغون هذه التهمة، ولا دلائل ولا حاجة إليها، إذ إن كل ما يسمى أدلة وبيانات هي سرية بطبيعة الحال ومصانة بحسب القانون والقضاء الإسرائيلييْن، وذلك كي يمارس إرهابه الاحتلالي من جهة، وكي ينسف صدقية هذه القوى، ومنها يسعى لنسف صدقية نضال شعبها وكي يبتعد الناس عن مناضليها ومناضلاتها.
حاصر حصارك
أدارت المؤسسات الحقوقية الفلسطينية بصورة لافتة مواجهة ومناهضة قرار دولة الاحتلال، وذلك على الصعيدين المحلي والدولي الرسمي وغير الرسمي. وهناك مَواطن قوة من المهم ألا تغيب عن التجربة الكفاحية. من هذه الأمور كان الموقف الواضح غير القابل للتأويل برفض القرار الاحتلالي ورفض الانصياع له، وإطلاق حملة يمكن أن نستعير لها عنوان “حاصر حصارك”. وقد اعتمدت هذه المؤسسات على أهم نقطتي قوة، وهما: صدقيتها كمؤسسات وصدقية الحق الفلسطيني.
لم تلجأ المؤسسات الست إلى خطاب الدفاع عن النفس والخطاب التبريري، بل رأت في القرار عدواناً على الشعب الفلسطيني ومؤسساته، وعلى المستوى الأهلي والمجتمع المدني، وعلى المستوى الرسمي. وكان لوقوف السلطة الفلسطينية، سواء باجتماع الرئيس محمود عباس بمسؤولي ومسؤولات المؤسسات، وكذلك موقف رئيس الوزراء محمد اشتية والتحرك السريع والذكي للدبلوماسية الفلسطينية، وكذلك اجتماع هذه المؤسسات بلجنة المتابعة العليا في الداخل والقائمة المشتركة، بالإضافة إلى ممثلي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ومندوبي الأمم المتحدة وهيئاتها، أثر معنوي وفعلي كبير. كما كان تحرك حركات التضامن وحركات حقوق الإنسان الدولية لافتاً وله كبير الأثر.
إن هذا التعامل القائم على تكامل الأدوار وعلى الصدقية هو توجه واعد من شأنه حماية هذه المؤسسات الست، لكن بذات المستوى حماية المؤسسات الحقوقية والمجتمع المدني، وحماية مجمل الشعب الفلسطيني وحريته بالتنظيم ومواجهة الاحتلال حتى إنهائه.
لم تنتهِ المعركة بعد، بل ما زلنا في بداية حدث كبير قد يكون فرصة لإعادة الزخم إلى تلاحُم العمل الفلسطيني الشعبي والمؤسساتي والرسمي. ففي هذه المعركة يملك شعبنا كل مقومات الانتصار.