المُبدعون غاضبون وحائرون بين الشهرة و قلة الحيلة.. فماذا يريدون؟
تحقيق أجراه: صبري الموجي | مصر
د. يوسف عبد الفتاح فرج: الفنون جنون
المصادفة: توقف دعم الكتاب سبب فقر المبدعين
د. كاميليا عبد الفتاح: لابد من وجود مؤسسات مُتخصصة في تسويق الإبداع
د. رأفت الخولي: الشهرة أغلي من المال
أحمد علي: ثورة الطباعة الديجيتال وراء قلة نسبة المطبوعات
تناقل الناسُ جيلا تلو جيل : (إن فلانا أدركته حرفةُ الأدب)، بمعني أنه وقع في مصيدة الفقر والعوز . وتؤكد وقائع التاريخ شدة مُعاناة المشتغلين بالأدب، فأكَلَ بسببه أبو حيان التوحيدي الخُبز الجاف، ولبس القميص المُرقع، وبسبب احترافه أخذ الشاعر أمل دنقل يجوس خلال شوارع القاهرة بحثا عن صديقٍ يدفع له ثمن الغداء أو العشاء. واعتبر الروائي الإنجليزي وليم ثاكري امتهانه الحظ الأنكد، كما تخلت بسببه ماريا بيرنل عن تشارلز ديكنز حبِها الأوحد بحجة أنه لن يستطيع أن يعولها بقلمه… حول معاناة المٌبدعين من قلة عائد الإبداع يجري هذا التحقيق.
الإبداع والجنون
يستهل أ. د يوسف عبد الفتاح فرج الأستاذ بجامعة القاهرة كلمته بقول نيتشه ” اللغة نوعٌ من الجنون العذب، فعند الحديث بها يرقصُ الإنسان فوق جميع الأشياء” فهل من علاقة بين الإبداع والجنون؟
يجيب د. فرج: أعتقد أن ثمة علاقة بين الإبداع والجنون، إذ إن مفهوم الجنون لا يقتصر علي الاضطرابات العقلية، وإنما يمتد إلي كثيرٍ من غرابة التفكير والسلوك والتصرف، فالفنون جنون كما يقول المثل السائر، فالخروج عن المألوف من طرق التفكير يُعد جنونا، فالشاعر الذي يطيلُ شعره بصورة غير مألوفة يُعتبَر ما يفعله نوعا من الجنون، وكذلك الموسيقي الذي يهيمُ في الطرقات، والرسام الذي يرتدي أزياء غريبة، كلُ هذا ليس إلا تحليقا في عالم الخيال أو الجنون.
ويوضح د. فرج وإذا كان الجنونُ يبدأ حيث ينتهي العقل المُرتبط بالواقع، فإن الأدب يبدأ بالجنون؛ لأنه يقومُ علي الخيال، ويعمل علي كشف الوهم، ولهذا يبدو أن قَدَر المُبدع عالِما مُخترعا، أو أديبا أو فنانا هو أن يضحي من أجل تقدُم البشرية، وأنه لا حيلة له في ذلك، فهو يرث سمات الإبداع والخيال.
ويضيف د. فرج من الصعب كتابةُ الشعر أو الرواية أو المقال الصحفي إلا إذا تجذَرتْ في كاتبها روح الدعابة والسخرية والتهكم، بحيث تبعث البهجة واللذة والسرور والضحك لدي القارئ فيفوز بالفائدة والمتعة في آن واحد، والسبب في ذلك أن روح الدعابة والفكاهة لا تتوافر إلا لمن له قدرة عقلية تُمكنُه من اكتشاف الجانب الساخر في البنيات والمواقف العادية، والتعبير عنها بطريقة غير عادية، فيتلقاها القارئ بنوعٍ من الدهشة والتعجب.
مُفارقة عجيبة
في البداية تؤكد الروائية د. سهير المصادفة أن الكاتب العربي يعيشُ مفارقة عجيبة لا توجد في الغرب الآن، فهو أحيانًا يكونُ أديبًا مشهورًا، وفي الوقت نفسه معدوم الدخل من الكتابة!
وتُجذِر د. المصادفة للمشكلة فتقول: منذ سبعينيات القرن العشرين، انقطع دعمُ الكاتب في مصر، ولا أقصد هنا أيَّ دعم مباشر، وإنما أن يُترَك الكاتبُ لجمهوره، وأن تُمد الجسور بينه وبين هذا الجمهور من خلال تحويل الروايات الجيدة إلى أفلام سينمائية، كما كان يحدث في عصر السينما الذهبي، أو شراء مؤلفاته من قبل مكتبات المدارس والجامعات والمراكز الإعلامية الكبرى ومكتبات قصور الثقافة وأندية الشباب إلخ…،أو أن تُقررَ بعضُ إبداعاته على التلاميذ في مُقرراتهم الدراسية، بدلًا من المناهج القديمة التي تجعلهم ينفرون من اللغة العربية وآدابها.
وطالبت د. المصادفة بإعادة النظر في القوانين التي تُحدد علاقة الناشرين بالكُتَّاب فهي ما زالت علاقة غامضة، وليست في صالح الكاتب.
وأضافت: ضحكتُ عندما حدثتني كاتبةٌ أجنبية وهي تشكو من سوء توزيع روايتها الأولى الذي لم يتجاوز مائة ألف نسخة، وهي النسخ التي تم شراؤها للجامعات والمراكز البحثية المتخصصة في الأدب.
واستنكرتْ د. المصادفة: نحن هنا ندعم الرياضة بأموال طائلة وكذلك بعض الفنون ويأتي الأدبُ في ذيل اهتماماتنا، واستشهدتْ : كنتُ مدعوة ذات مرة لقناة فضائية خاصة بمناسبة صدور روايتي الجديدة، وفي البرنامج نفسه كانت الفقرة السابقة لي لمدة ربع الساعة مع لاعب كرة نصف مشهور، حصل مقابلها على ربع مليون جنيه ـ كما قال لي المعد ـ وسألتُ نفسي يومها بدهشة : ما الذي جعلني أوافق على هذه الدعوة؟ وختمت د. المصادفة كلمتها مُمتعضة: إنه زمنهم وسياقهم الثقافي.
الأديب يأوي إلي الظل
وفي كلمة الأكاديمية والروائية د. كاميليا عبد الفتاح أكدت أنه بتتبع النشاط الكمي للمشهد الثقافي نلحظ أنه أفرز كثيرا من السلبيات لعدم وجود معايير وضوابط تُنظم هذا الزحام، فوسط هذه القنوات المتعددة للنشر تراجعت فرصةُ كثيرٍ من المبدعين الحقيقيين في نشر إبداعهم، لأنهم حوصروا بإلحاح النتاج الغث الذي أفلح أصحابُه في فرضه على كل مواقع النشر بسطوة النفوذ أو المال أو الصداقات والشللية والقانون الساحر المعروف بتبادل المصالح.
واستطردت د. كاميليا وقد بلغت هذه الإشكالية درجة عالية من التأزم في راهنِ مشهدنا الثقافي المصري والعربي على الرغم من الدور المهم الذي اضطلعت به السوشيال ميديا في نشر النتاج الإبداعي والفني، وفي ذيوع أسماء كثيرٍ من الأدباء والفنانين من أجيال مختلفة، فضلا عن الزيادة المطردة في المجلات والصحف المتخصصة ورقيا وإلكترونيا، جنبا إلى جنب القنوات الفضائية.
وقالت د. كاميليا: إن التاريخ الإنساني عبر أطواره المُتعاقبة يؤكد لنا صعوبة الجمع بين الموهبة الإبداعية وموهبة التسويق والدعاية والعلاقات العامة في شخصية واحدة، وتفسير ذلك عندي أن الموهبة تستنفد كل الطاقات الروحية والفكرية لصاحبها، تستقطب مهاراته وقدراته وتفكيره وذكاءه، ويتحول كل هذا إلى موارد إمداد للموهبة، فالمُبدع يبرع في نطاق الحيل الفنية والرواغ الدلالي، لكنه فقيرٌ في الدهاء الاجتماعي وفي التحايل على أبواب الرزق وأسباب الحياة.
وأضافت د. كاميليا: نصل هنا إلى إشكالية شديدة الحرج والإيلام لكل مبدع حقيقي، وهي: الافتقار إلى وجود مؤسسات متخصصة في تسويق العمل الإبداعي والدعاية اللائقة له وتوزيعه داخل وخارج مصر، والحرص على ترجمته، وترشيحه للجوائز الحقيقية، فهناك من الأدباء في مصر من يعجز عن نشر نتاجه، وكثيرٌ منهم لا يكتسب من النشر، باستثناء الحاصلين على جائزة كبرى، حيث تدفع الجائزة دور النشر إلى الثقة في هذا الأديب والتعاقد معه، رغم أن كثيرا من هذه الجوائز يرتبط الفوز فيها بمواقف سياسية وأيديولوجية بعينها، ويرتبط أحيانا أخرى بالعلاقات والتوصيات.
وأكدت د. كاميليا أن الأمر ذاته ينطبق على النشر في المجلات والصحف، فالنشر في كثير منها لم يعد يرتبط بالقيمة الإبداعية والفكرية، أو بالحرص على وضعية مصر الثقافية، فمعايير النشر في كثير من المجلات المصرية والعربية أصبحت مُخيفة، تعزز الشعور باللا جدوي.
وتعترض د. كاميليا في مصر الممثل المبتدئ نجمٌ يسطع، والأديب يأوي إلى الظل أو إلى العتمة.
تجاوزات صارخة
فيما يشير د. محمد شلبي شاعر وباحث في العلوم الإسلامية إلى أنه رغم أن دور النشر ترفع شعار المحافظة علي حق الناشر والمؤلف، إلا أن العديد من المؤلفين يشكو من عدم تقدير دور النشر لأعمالهم و(أكل) حقوقهم، حيث أبدت لي تجربتي الخاصة أن دور النشر تريد الانفراد بالقيمة المادية للعمل في مقابل انفراد المؤلف بالقيمة المعنوية، فصار أجرُ المؤلف نشر علمه فقط بين الناس، ودليلٌ ذلك أن كثيرا من دور النشر تشتري العمل برُمته بمبلغ مالي زهيد في مقابل حق الطباعة عدة مرات، أو إعطاء المؤلف عدة نُسخ من العمل في مقابل تكفل الدار بالتكلفة، أو تحديد نسبة لا تبلغ أحيانا كثيرة ٢٠ ٪ من الربح، هذا فضلا عن حدوث تجاوزات كاستمرار طباعة العمل بعد انقضاء فترة العقد، وهذا بلا شك يلحق بالمؤلف خسارة فادحة، ويحقق لدار النشر مكاسب طائلة لم يكن متفقا عليها.
وعودٌ كاذبة
ويؤكد د. صبري عبد العظيم المُتخصص في علوم اللغة أنه شغف بالكتابة والتأليف منذ قرابة ربع قرن، أنتج خلالها نحو 40 مؤلفا في مجال القرآن ولغته، وتعامل مع ثلاثين ناشرا كانت وعود معظمهم كاذبة، وكانوا بين متعالٍ يُشعرك بأنه أخذ هذا العمل منك تفضلا بالإحسان إليك، وثانٍ يشعرك بأن العمل ابتغاء وجه الله، ولو استطعت أن تنفق عليه من جيبك مساهمة منك في نشر العلم فأجرك عند الله، وثالث شعاره: حقي حقك، ولك على كل ملزمة ما بين سبعين أو مائة جنيه بعد الطبع بإذن الله تعالي، وبعد الطبع يكونُ القول: السوق واقفة والحالة صفر، وما تعاملتُ مع رابع والحمد لله.
المبدعون العرب يعانون
ولم تقتصر المعاناة على المبدعين المصريين بل تمتد مظلتها لتطال مبدعين عربا فتؤكد الأديبة والشاعرة السعودية عِطاف سالم سليمان أن كل مبدع كان يظنُ أن الطريق سهل لطبع ونشر عمله الأدبي، ويطرق باب أول دار نشر يعرفها دون أي معرفة منه بدهاليز دور النشر، وسوق دور النشر، وشللية تلك الدور وعنصريتها، وصراعات وأخلاقيات أصحابها، ومن يعمل بها من موظفين، وإداريين، ويكتشف متأخرا بعد عدة تجارب أن الالتزامات الواجبة، والعهود الموثقة مجرد حبر علي ورق، هذا إن كان فيه ورق أصلا.
وتتأسف الشاعرة عطاف قائلة: لكن يبدو أن المبدعين آخر من يعلم عن خطط دور النشر وأصحابها واتفاقياتهم السرية مع موظفيهم أو منافسيهم لاستغفال المبدع أو بلغة السوق العميل.
وتستطرد الشاعرة عطاف: فمن خلال تجربتي أُجزم بأن أغلب المبدعين يعانون، فكم من مبدع أو مؤلِف صُدم، وخابت ظنونه واستغفل و سُرق لمجرد أنه اختار إحدي دور النشر بحسن نية وثقة وإخلاص، فمع أكثر من ديوان اتفقت مع دار النشر علي نسبة من الربح، وبعد طباعته وبيعه يتبخر ما اتفقنا عليه وأفاجأ بأنه كان سرابا أو أضغاث أحلام، فضلا عن أن هناك أعمالا تكلفتُ طباعتها من الألف للياء، ولم أكلف دار النشر مليما في الطباعة، وفوجئت أنها اتفقت معي علي سعر كانت تبيع بضعفه وتضع الفرق في جيبها !
وعن رؤيتها لحل المشكلة تري الشاعرة عطاف سالم أن وزارات الثقافة في الدول العربية مسئولة عن مراقبة الدور، ووضع معايير وقوانين وعقوبات لحماية المؤلف وحفظ حقوقه.
وتضيف الشاعرة عطاف: كما أطالب بأن تتولي وزرارة الثقافة طباعة أعمال المبدعين بأن تعطي العمل لأصحابه من أهل العلم والمعرفة والتخصص وأهل الأدب والتأليف والإبداع، تماما كما يقول المثل : “اعط العيش لخبازه”؛ وذلك حماية للمبدع من أن يدفع الآلاف لدار النشر، ويفاجأ بطباعة رديئة، وأعداد وهمية، وتوزيع سيئ، وإعلان معطل، وغير ذلك من معوقات.. وتتساءل عطاف:
من يراقب هذه الدور ويتابع أعمالها؟ ومن له صلاحيات الإشراف عليها واختيار من يديرونها؟ ومن يضع الشروط على عواتق المؤسسين أصحاب هذه المشاريع التجارية التي لا تمت لمكانة دور النشر الحقيقية الأصيلة بل تقوم بتشويهها والتعدي عليها؟ من يُقنن المعايير، ويضع القوانين عند التأسيس للحفاظ علي مكانة دور النشر كما عرفناها؟
كل هذه الاسئلة لابد أن تتحمل ثقلها والاجابة عنها وزارات الثقافة والإعلام حتي يُعطي كلُ ذي حق حقه.
إعجاب القارئ بما أكتب أغلي مقابل
وفي كلمة الروائي د. رأفت الخولي قال: لم يكن في ظني أبداً حين بدأتُ الكتابة أن أحصل من ورائها على المال، لكنْ دعني أكن صادقاً فأقول إن الشهرة نجمٌ برَّاق يطمح له كل البشر في كل المجالات، إلَّا أنني لاحظتُ أن المتعة التي أحسستها حال الكتابة لا يضاهيها مالٌ ولا شهرة، فقط تلك الابتسامة وكلمات الإعجاب ـ التي وإن لم يقلها النقاد بل ربما تقفز وحدها من عيونهم ـ تكفي لملء قلب المبدع ووجدانه بشيء غريب لم أدركه إلَّا حين شاهدتُه، ـ أو قل تكفي لملء الأرض ذهباً ـ حتى وإن كانت هناك ملاحظات موضوعيه فهي تُفرح الكاتب وتُدخل على قلبه بهجة من نوع خاص مؤداها أن الناقد قد قرأه بعناية واهتمام، وهو جُل ما كنت أتمناه وما زلت أتمناه ليس فقط من النقاد ولكن من قراء عاديين ومتذوقين يتحرَّون الكلمة المعبرة والمعني الجديد والرسالة التي أراد المبدع أن يوجهها لهم وللمجتمع بأكمله.
وأضاف د. رأفت: لذة إفراغ ما بداخلي على الورق ـ سواء أكانت عيني على القارئ وقت الكتابة أو لم تكن ـ شيء يرتفع بي إلى عنان السماء، والأبدع من ذلك حين أنتهي من العمل، وأعهد به إلى درا النشر، فإنني أتنفس الصعداء، وتقر عيني وحدها دون رغبة في مال أو شهرة، ولك أن تعلم أنني وغيري من الكُتَّاب، لم يدخل جيوبنا قدر فِلس واحد من وراء ما نكتب، ولا نحن بالساعين بدَأَب نحو هذا، فقط الكتابة من أجل الكتابة، أمَّا عن الشهرة، فإنني آمل ـ ليس اليوم، بل رُبَّما بعد عدة أجيال ـ أن يفتخر أحفادي بأنه كان لهم جَدٌ يعشق الكتابة، ويحتفي به مجتمع القراء وقتها، وحتي لو تحقق ذلك بعد مئات السنين، فإن رسالةً ما بهذا المعني سوف تصلني وأنا هناك في عالم الموتي.
انخفاض نسبة المطبوعات
فيما أشار الناشر أحمد علي إلي أن الكتابة والعلم لا يُقدران في وطننا العربي بشكل كبير، ورغم ظهور جوائز أدبية وعلمية، إلا أنها قليلة، ولا تمتد مظلتها لتستوعب كل المؤلفين والمبدعين.
وعن مقدار ما يُحصله المؤلف من إبداعه، قال أحمد علي إن نسبة ما يتقاضاه المؤلف من الناشر، لا يتخطي 10% من قيمة البيع، وحيث إن المبيعات قليلة في مجتمع لا يقرأ، فإن مردود البيع قليلٌ جدا.
وتدليلا علي تفاقم مشكلة الطباعة والنشر مؤخرا، قال أحمد علي كنا نطبع سابقا ما بين ٣: ٥ آلاف نسخة، وربما يزيد، تراجعت هذه النسبة منذ سنتين مع الطباعة الديجيتال، ومواقع الـ(بي دي إف) إلي مئات فقط.