الانعتاق من استرقاق الأبارتهايد، أو كارثة التهجير الجماعي!
سعيد مضيه | فلسطين
اللوحة للرسام النمساوي ( فريدريك غورمان) 1807 -1862)
رش الماء على جواد ظمآن صورة فنية أورد ها الروائي ناجي الناجي على لسان أحد شخوص روايته ” سماء وسبعة بحور”. السماء هي فلسطين والبحور السبعة من دماء تربط بينها روافد وبرك ومستنقعات. ما نفع بيانات في سوق كسدت فيه البيانات منذ ازمان ؟! بيانات التضامن وندوات التضامن لاتعدو فقاعات في مستنقع آسن إن لم تحفز افعالا تكسر الموجة الكاسحة للاستيطان والتدمير المتعمد للمجتمع الفلسطيني. المعروف ان القرارات الدولية التضامنية لا تصدر برسم التنفيذ ، بل إنها حافز معنوي لأصحاب الحق كي يهبوا وينتزعوا حقوقهم. بدون الحراك العملي تغدو القرارات والبيانات مجرد اوراق تتناثر مع الريح. رئيس حكومة فلسطين عاد من جولة أوروبية مثقلاً ببيانات ضد البناء الاستيطاني وببضعة دولارات. بيتر ستانو، المتحدث الرئيسي باسم الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، سخت “مروءته” ببيان يوم الجمعة 29 أكتوبر ، جدد فيه دعوة الاتحاد لإسرائيل، للتراجع عن خططها لبناء مستوطنات جديدة في الضفة الغربية المحتلة. وأصدر الناطقون باسم وزراء خارجية اثنتي عشرة دولة بيانا دعوا إسرائيل للعدول عن مخططها الجديد للبناء الاستيطاني بالضفة؛ وإسرائيل تعير أذنا صماء وتمضي تنفذ مشاريعها بغير تردد ولا اكتراث. الم تتكرر الظاهرة لتغدو واقعا متعينا وعبرة للواهمين في نصرة المجتمع الدولي؟!
لا تريد القيادة الفلسطينية ان تعي الدرس ؛ ورغم عقود عديدة خلت حفلت بالقرارات الدولية والفتاوى القانونية والتصريحات التضامنية، فإن اسرائيل ليست في وارد الانصياع للشرعية دولية ، ولا استهوتها عروض “السلام الشامل والعدالة “. لم تحفل ب “بناء الثقة” و” تحسين الظروف المعيشية للشعب المسجون”، أو ب “عدم قانونية المستوطنات”. إسرائيل أظهرت ان الاستيلاء على الأرض الفلسطينية وتضييق الخناق على الفلسطينيين ، وفي الأثناء توسيع نفوذها الإقليمي هي شغلها الشاغل؛ صاحب الشوكة القابض على أعنة قدرة الفعل ، بما في ذلك القتل الجماعي والتدمير الشامل بلا مساءلة، لا تعنيه الاعتبارات الإنسانية، وذلك بدهي عبر التاريخ؛ بينما الخصم ، او الطرف المقابل يصر قوته في البلاغات البليغة لكن المناقضة ويمعن في انتظار الذي لا يجيء.
القيادة الفلسطينية تعيد وتكرر احترامها للشهداء والأسرى الفلسطينيين؛ تتحدى إسرائيل واقتطاعاتها المليونية باسم احترام ذكرى الشهداء وتقديرا للأسرى . لكن هل يستقيم احترام ذكرى الشهداء والتقدير السامي للأسرى مع خذلان تضحياتهم؟ وإلا فما هو توصيف مد اليد لاستجداء أموال من يدعمون فعليا إجراءات الاحتلال، مغلفة بانتقاد خجول. اليسوا بذلك متواطئين مع مسعى إسرائيل المكشوف لتحويل كامل فلسطين دولة يهودية؟! ألم تصمت هذه الدول مجتمعة حيال قانون قومية دولة إسرائيل يشْهر الأبارتهايد الإسرائيلي ويحرم شعب فلسطين من تقرير مصيره فوق أرض وطنه؟! بحفنة الدولارات تمنح براءة من تواطؤها الشنيع ونستخف بالتضحيات السخية؟
السؤال الأهم : هل ترد حفنة الدولارات مشفوعة بالبيانات كارثة تتراكم مقوماتها بأفعال تغول الاستيطان الإسرائيلي؟ ألا تفشي مواصلة الاستيطان وتخريب الزراعة وهدم البيوت والقتل العشوائي مسعى جعل حياة الفلسطينيين بلا قيمة وإحدى نافلات الحياة الدولية ؟
إسرائيل ، وكما اكد إيلان بابه عن معرفة واطلاع ، فرضتت احتلالها قبل أزيد من نصف قرن ، وخلال الفترة المنصرمة نهبت الأرض بسلام! الاحتلال خُطِط له ، وأعدت له العدد ، الى جانب النظم القانونية والاقتصادية والإدارية كي يحاصر شعب فلسطين داخل اكبر سجن على الأرض ، حسب تعريف إيلان بابه ، صوت الضمير الإنساني المحاصر أيضا من قوى المال كي لا تنتقل عدوى الضمير الشريف الى سلطة القرار. وفلسطين ليست المكان الوحيد تقمع فيه إرادة الضمير، لكن الكثيرين في فلسطين لا يرون سوى بليتهم . إسرائيل باحتلالها ضمت عمليا الضفة الغربية وغزة، و بالمستوطات تشدد حصارها على التجمعات الفلسطينية بالمدن والقرى والمخيمات تفرض عليها قوانين وإجراءات دون ما هو سار على التجمع اليهودي. لم يعد الاحتلال احتلال ؛ إنما بات نظام أبارتهايد يحرم فيه قطاع بشري من الحقوق الإنسانية كي يجبرعلى الرحيل. حقا، فقد نقل بابه عن رئيس الاستخبارات العسكرية شلومو غازيت، الذي عمل عام 1967 اول منسق للحكم العسكري، قوله : ” إسرائيل أرادت للفلسطينيين مواجهة البطالة والنقص في الأرض والمياه والتدمير، وهكذا يمكن ان نخلق الأسباب المؤدية لرحيلهم عن الضفة الغربية وغزة” . إسرائيل بيدها أن توفر أو تمنع، الماء والكهرباء وفرص العمل وسلع الاستهلاك والأراضي للزراعة أو للبناء.. كل شيء بيد إسرائيل ، ويمكنها منعه في اي لحظة تشاء، لتخلق ملابسات التهجير القسري. ويقول بابه أيضا في كتابه “اكبر سجن على الأرض”، “كان المطلب الرئيس المفروض على السكان ان يقبلوا بان لا رأي لهم على الإطلاق بتقرير مستقبلهم”، أي العيش في حالة رق ؛ وهذا ما أكدته تصرفات الإسرائيليين اليومية تجاه مناطق احتلا لها، استرقاق بصورة نظام ا[ارتهايد يطبق قوانين وإجراراءات وحقوقا لفئة من المجتمع دون الفئة الأخرى ؛ لم يستشر الفلسطينيون بتاتا في أي إجراء إسرائيلي؛ وإذا تم اللجوء للقضاء فالمحكمة العليا في إسرائيل تلتزم بالقرارات العسكرية!
عبارة قالها كيسنغرمن قبل: الولايات المتحدة لا تتدخل إلا مع تفجير مشكلة! وتفجير المشكلة ليس من مهام دول الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة او اليابان ولا حتى من مهام روسيا والصين وإيران؛ إنها مسئولية المقاومة الفلسطينية. اغتصاب الأرض كفيل بتفجير مشكلة ، وكذلك القتل العشوائي وهدم البيوت وترك المضربين يذوون، وعربدات المستوطنين وانتهاك حرمات المساجد والمقدسات … جرائم تحدث كل يوم ، وكل جريمة تستحق الرد عليها بمظاهرة شعبية عارمة لو كانت القيادات السياسية، وعلى رأسها قيادتا السلطتين في رام الله وغزة، معنية بتصعيد حراك شعبي . الاحتجاجات الشعبية حالة تراكمية ، تتكرر بجمهور اكبر وتحد أشد، لتبلغ مرحلة تستقطيب حملات التضامن من زوايا المعمورة . حينئذ لا تعنّي الحكومة الموقرة النفس بمناشدات وتوسلات؛ حركات التضامن تتجاوب مع الفعل وليس القول . مصيبتنا ان ثقافتنا قولية ويتمجد المرء بما قاله او صرح به ، فلا حاجة لتنظيم حراك شعبي او إلهاب احتجاجات جماهيرية !
لسنا في وارد التصديق او التشكيك في مواقف الاتحاد الأوروبي ودوله بلجيكا والدنمارك وفنلندا وفرنسا وألمانيا وأيرلندا وإيطاليا وهولندا والنرويج وبولندا وإسبانيا والسويد. إسرائيل لم تلتزم بفتوى محكمة العدل الدولية عدم شرعية الجدار العنصري وشيدت جدارا يتلوى كأفعوان عبر الأراضي الفلسطينية المحتلة. والتشبيه بالأفعوان ورد على لسان الرئيس الأميركي بوش الابن؛ غير ان إدارته والإدارات اللاحقة غضت الطرف. ومع أن ذريعة تشييد الجدار انه مصدٌّ ل “الإرهاب”، فقد تأكد مع الأيام أنه معبر لمصادرة الأراضي الفلسطينية خلف الجدار وأراض اخرى امامه، لغرض الاستيطان. إسرائيل تتصرف باعتبار أراضي منطقة جيم( أو سي بالانجليزية)، وتشكل 64 بالمائة من أراضي الضفة هي جزء من دولة إسرائيل ، تمنع البناء الفلسطيني وتهدم مساكن وخدمات ملحقة لزراعة الفلسطينيين او رعاية مواشيهم. التصريحات الدبلوماسية هي أقصى ما تقدمه دولة من أعضاء المنظمة الدولية، باستثناء الولايات المتحدة الأميركية . فهذه الدولة تستطيع فرض الموقف على حكام إسرائيل ، وإن تظاهر هؤلاء انهم أصحاب قرار يحاورون مسئولين أميركيين بصدد هذه القضية او تلك، ويصدرون البيانات تتضمن ما يتوجب على دول المنطقة عمله او الامتناع عنه؛ فهي تخوض بالوكالة حروبا متلاحقة داخل المنطقة . إسرائيل باتت في الوقت الراهن القائد الظافر لنهج الامبريالية في الشرق الأوسط الكبير. وتحاول ان يكون صوتها الأقوى بالمنطقة وتتبع تكتيك الهجوم المتواتر.
نجاح مشاريع الاحتلال بالضفة وإحكام الحصار حول غزة تثير في اوساط اليهود بإسرائيل موجة حماس وتعصب قومي ومزيد من الازدراء للعرب – لايفهمون سوى القوة- ؛ وحتى لو رافق ضم المناطق الفلسطينية تجنيس كامل لسكانها في دولة إسرائيل، مثلما يقول أتباع فكرة دولة ديمقراطية واحدة في أوساط اليسار وبعض مؤيديها في أوساط اليمين، فإن نظام الأبارتهايد يتعزز ويتوطد بالدعم الشامل من طرف الجمهور اليهودي المشحون بالعنصرية.
إسرائيل تتوسع وتجور وفي نفس الوقت تنعم بالسلام؛ ولا حاجة الى حصافة سياسية كي نعي ان دول الغرب الامبريالية جميعا، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تتمنى لإسرائيل فرض نفسها دولة قطرية بالمنطقة ، وكيلة للهيمنة الإمبريالية. وجدنا هذه المجموعة الدولية ترحب بقرارات التطبيع الخليجي مع إسرائيل ، وهي تدرك أن التطبيع عبارة عن سيطرة اقتصادية وسياسية. دول الغرب على أقل تقدير غير معنية بجلب المشاكل على نفسها؛ وهي أيضا دول معتدية تنتهك القانون الدولي، تركل وتدوس على القانون الدولي، وكذلك القوانين المحلية في بلدانها. الليبرالية الجديدة بالولايات المتحدة الأميركية تهين القانون المحلي وتعلي من شأن الداروينية الاجتماعية نظريا وعمليا . الداروينية الاجتماعية تود إخضاع الحياة الاجتماعية والدولية للقانون البيولجي –البقاء للأصلح، والأصلخ هو من يملك القدرات المالية. الليبرالية الجديدة شكلت منظومة دول فاشية تتكاثر باضطراد. في دول الراسمال يفرض حق القوة بديلا لقوة الحق، والمال يقرر الشرعية والقانون والحقوق . فكيف ينتظر منها ان تلزم إسرائيل بمراعاة القوانين الدولية الإنسانية؟ّ! بالولايات المتحدة أضخم سجن حقيقي بالعالم، وتضم السجون الأميركية أكبر عدد من المحتجزين ظلما وضعفا ، إذ لا يجدون محاميا يستانف قضيتهم، بعد أن خدعوا من قبل التحقيق الأولي وحكموا بناء عليه. بالولايات المتحدة وغيرها من دول الرأسمال تعرض للظلم قائد حزب مثل كوربين وتم إقصاؤه مهانا من منصبه الذي يؤهله لتسلم منصب رئيس حكومة بريطانيا، وذلك لأنه نصير حقوق الإنسان منذ ان بدأ نشاطه السياسي. ودول الغرب الامبريالي توسع عدوانها واستفزازاتها لمن يتمرد على سيطرتها الكونية مثل روسيا والصين وإيران ، وتتدخل علانية لتقويض الأنظمة التي تختار بديل التحرر والتنمية والديمقراطية. رغم فشل المساعي فإنها تلحق أضرارا اقتصادية واجتماعية بتلك الدول.
إلام نقصّ أثر الذئب ونحن نشاهده بالعين المجردة؟! الحكمة الشعبية أحق أن يسترشد بها، ومنها نرقى الى فهم فلسفة الحياة. نحن داخل عربة مختطفه اوقفت على شفا هاوية ، يمكن دفعها بغتة الى شلال تهجير جماعي، ردا على طخطخة او بتصريح كالذي صدر عن جورج قرداحي وهو إنسان حر لا يتحمل مسئولية ؛ اولا وقبل كل شيء ينبغي الإفلات مع العربة من أيدي الخاطفين ولا نتحدث عن تحرير شامل أو جزئي . فلا مسوغ لمن يطرح هذا الخيار أو ذاك ، ولا مبرر لمن يقف على نبوة يهيب بقوة السلاح. على الجميع منتمين لفصائل او طلقاء، متطلعين الى فلسطين وطنا جامعا او جرء منها، إحدى المراحل الممكنة نحو وطن شامل.. على الجميع أن يضموا الصفوف ويوحدوا الجهود للخروج من المصيدة المرصودة على حافة شلال جارف.
ذاهبون لكارثة تهجير اخرى تزحف، لا تجهض إلا بوعي جديد، وبمقاومة يصنعها المجتمع من خلال فصائله السياسية كافة تجتذب الطلبة والعمال والعاطلين عن العمل وابناء المخيمات والمزارعين بالقرى وبإصرار المثقفات والمثقفين على الدفاع عن المعاني والقيم الإنسانية.
هذه هي معركتنا.