في النظرية الجمالية لدى نيتشه
د. خضر محجز | فلسطين
يقول نيتشه:
“أن الوعي هو آخر طور من أطوار نمو الحياة العضوية؛ وهو بالتالي أقل ما فيها كمالاً، وأكثرها هشاشة: فنحن نعي الزمن القريب، ولكننا لا نعي ما كناه قبل الوعي. ثمة مرحلة أقدم من الوعي وأشد رسوخاً، هي الفطرة، حدثت فيها لنا أحداث من قبل الميلاد، ولم نعد نذكرها الآن”.
هذه مقولة المقولات في فلسفة نيتشه. وهي كلمة السر، أو الثيمة الأعمق، في تفسير ما يقول في السياسة والحب والحرب والفن.
ونحن نعلم أن فيلسوف القوة كان من أهم من أَثْروا النظريةَ الجمالية: ففي تحليله لنصوص هوميروس ـ مثلاً ـ قرر أنه لم يُكتب في تاريخ البشرية نصوصٌ تضاهي هذا المستوى من الجمال.
لماذا؟
لأن قوة الغريزة في الإلياذة كانت هي التي تكتب، حيث بإمكانك أن ترى قوة غريزة التوحش في قتل أخيل لهكتور، ودورانه به حول أسوار طروادة.
وقوة غريزة الأبوة كانت هي التي أخضعت الملك الإلهي بريام، لتوسلات ابنه باريس وعشيقته هيلين، التي جاء بها من اليونان، حاملة معه وبها ومعه الموت لطروادة.
كيف أمكن أن يحمل كل هذا الحب، كلّ هذا الموت؟
إنها غريزة الأنوثة ـ أنا هنا أسميها هكذا ـ أو غريزة حواء الأبدية، حيث تعشق الأنثى فتعمى عن كل هذا العالم لصالح قلب يتحسس طريقه في الظلام، فتغوي جميلةُ الجميلات هيلين الأميرَ الطروادي الأجمل باريس، ليرحل بها إلى بلاده، تتبعهم غرائز اليونان التي تنتظر أدنى ذريعة لتسيير الجيوش لنهب المدينة الذهبية.
غريزة الأبوة في توسل الملك بريام الملك الإلهي، لمتوحش اسمه أخيل، سليل العشق المتوحش بين بشري وإلهة؛ بأن يسمح له بتهيئة جنازة لائقة بابنه مروض الخيول، هكتور بطل طروادة الذي سقط ضحية ضعف غريزة الحياة لديه أمام غريزة الأخوة فيه.
ضوء واحد للغريزة المنتصرة يلوح وسط ظلام الإلياذة، امرأة ترى بغريزتها كل شيء، فلم تعم عيناها عن هداية غريزتها: الأميرة كاساندرا أخت هكتور وباريس، التي ترى كل ذلك، لأنها لم تقع تحت غواية حب يعمي غريزة الحياة.
ربما يريد نقد نيتشه أن يقول: إن كساندرا هي الإنسان الكامل، مقابل فريديرك الأكبر الذي كان معشوق نيتشه في التاريخ، لولا أنها لم تحكم، فلو حكمت كما حكم فريديك، لوحدت طروادة حولها، كما وحَّد فريديرك الثاني مقاطعات ألمانيا حول بروسيا.
طبعا لم يقل نيتشه كل هذا، بل وضع قواعده، واستنتجت أنا منها ما تقوله القواعد.
هذا النقد النيتشوي، الذي ينمُّ عن دقة الملاحظة، يستمده نيتشه من عقيدته التي تعتبر الوعي حديث النشأة، وبالتالي لا تاريخ له: فهو أخطر ما يهدد السلالة البشرية، باعتبار الغرائز هي تاريخ البقاء، بل هي من حفظت على البشر النجاح في رحلة صراعهم مع قوى الطبيعة.
إن نيتشه يقول: انظروا ما حدث حي تراجعت الغريزة، وتقدم الوعي؟ إن نيتشه يضع غريزة الحياة ـ وهي أقوى الغرائز ـ في صراع مع ما هو دونها. وإن كل ما هو دون غريزة البقاء ليس إلا مجرد وعي أنشأته مواضعات حديثة خدرت الغريزة، فأغمضت عينيها باستسلام إلى موتها.
يمكننا القول بأن حتى الغرائز المتطورة ـ فلنقل ذلك افتراضاً ـ هي مجرد وعي لدى نيتشه، حين تتصدى لتغرير الغريزة الأم: حب البقاء.
إن عشق هيلين كان غريزة متطورة، أو هو وعي أعماها عن موتها وموت حتى من تعشق. وكذلك الأمر بخصوص باريس، وبريام.
أما غريزة هكتور في الدفاع عن موت محقق بفناء المدينة والمملكة والعائلة، فهو وعي لا غريزة، لأنه يتعارض مع حب البقاء.
جزءٌ كبير من إعجاب نيتشه بالإسلام، لم يكن إعجاباً بالدين، بل كان إعجاباً بتاريخ الفتح، نشوة نيتشوية تصلي لما تراه من سيطرة غرائز فاتحين، لا يعبؤون بالوعي والحضارة، حين يوظفون كل شيء استجابة لغرائزهم الصحراوية الفطير.
وسأستشهد لتحليلي هنا بمقولته التي تنضح إعجاباً بنشوء الدولة، حين يقول:
“إن جماعة من الوحوش الكواسر، جماعة من الغزاة السادة ـ بكل ما لها من أنظمة حربية وقوة منظمة ـ تنقضّ بمخالبها المخيفة على طائفة كبيرة من الناس، ربما فاقتها من حيث العدد إلى حد بعيد، لكنها لم تتخذ بعد نظاماً يحدد أوضاعها… ذلك هو أصل الدولة”.