وعد الأمين من الثورة إلى التمكين

د. طارق محمد حامد | مصر

الثقة في وعد الله – عز وجل – ووعد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم من أهم أركان الإيمان بالله جل وعلا؛ لذلك إذا تأملنا في مفردات هذا الوعد من مرحلة الاستضعاف إلى التمكين، فنجد أن مراحل التمكين تستند ابتداءً على الثقة في وعد الله – عز وجل -، ونرى ذلك جليًّا في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وقصص السيرة النبوية الشريفة، وهذه المراحل تتمثل في المفردات التالية وما يصحبها، ويؤيدها من القرآن والسنة والشواهد:

1- مرحلة الخمول: ويكون ذلك بوجود فئة أو أمة من الأمم، ليس لها ذكر يطلع الله على قلوبها، فيصطفيها الله عز وجل لنقاء قلوبها، ثم يستخلصها سبحانه وتعالى، ويطلع على أطهرها وأصدقها قلبًا وروحًا، وأرجحها عقلاً، فيصطفيه من بينهم؛ ليكون لهم إما قائدًا أو نبيًّا، وإذا عممنا هذا الأمر على كل الأمم وكل العصور، لقلنا: قائد يقودهم في مراحلهم من الخمول إلى التمكين، وفي قصة طالوت مع بني إسرائيل ما يفي بالغرض، ويبل الغلة، وكذلك أمة العرب كانت خاملة مستضعفة مستهانًا بها، فاصطفى الله منهم نفرًا لصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم اصطفى الله منهم النبي صلى الله عليه وسلم نبيًّا؛ ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران164.

فاصطفاهم الله؛ لينتشلهم من هذا الخمول، حتى كان يستغرب الروم والفرس بعد ذلك لما حاربهم العرب المسلمون، حتى قالوا: أنَّى لهؤلاء العرب بسيوفهم البالية بهذه القوة وهذه الوحدة، وكانوا من قبل يهابوننا، وربما يدفعون لنا الجزية، ولقد تمثلت حالة العرب قبل الإسلام في مقولتين:

الأولى لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة؛ حيث قال: أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونسيء الجوار، ونأكل الميتة، ونقطع الأرحام، ويأكل القوي منا الضعيف، فبعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته، فأمرنا بعبادة الله وحده، وأمرنا بحسن الجوار، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وترك عبادة الأصنام).

أما المقولة الثانية، فهي لربعي بن عامر رضي الله عنه لرستم قائد الفرس، وهي إجابة لسؤال رستم له ما جاء بكم؟ فقال ربعي: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة).

وانظر إلى قوله: إن الله ابتعثنا، فهو دليل على الحالة المزرية التي كان عليها العرب قبل الإسلام؛ من عدم الذكر بين الأمم المتحضرة، وحالة الخمول والموات التي كانوا فيها، فابتعثهم الله تعالى؛ ليكون لهم شأن آخر في الحياة وفي قيادة الدنيا.

مرحلة الاستضعاف: وهي مرحلة يمر بها أصحاب الدعوات من الباطل المنفش المتجبر الذي أخذ زمنًا طويلاً؛ ليثبت أركانه، فباض الظلم في أركانه وفرخ، حتى لا تكاد تلمح أحدًا من أُولي النهي والعزم يقاوم هذا الباطل المتجبر الضارب في أطناب مستنقع الظلم والطغيان، وهو ما يدل على هشاشته وضعفه، ويدل على استضعاف أهل الحق في مراحله الأولى، وقصة أصحاب الكهف تروي لنا هذا الاستضعاف، وكذلك قصة طالوت وبني إسرائيل، وكذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش وبني إسرائيل، وسيدنا موسى عليه السلام وفرعون؛ ﴿إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ﴾ [الكهف: 20]، ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ^ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ^ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ [القصص: 4، 6].

فهذه إذًا مرحلة الاستضعاف التي يعدو فيها أهل الباطل على أصحاب الدعوات، يبطشون بهم؛ ليقتلوهم أو يضروهم أذًى؛ ليفتنوهم عن دينهم، ولخص ذلك قول سيدنا جعفر للنجاشي: فعدا علينا قومنا، فآذونا ليفتنوننا عن ديننا، وقول الله عز وجل عن بني إسرائيل في الآيات السابقة فمن ألوان الفتنة: الاستضعاف بقتل الأبناء واستحياء النساء والتفريق بينهم؛ استضعافًا لهم، وكذلك الاستخفاف بهم في مواضع أخرى، وهذه المرحلة تحتاج إلى صبر طويل، وتضحيات جليلة لا يقوم لها إلا من اصطفاهم الله عز وجل، ولا يصبر عليها إلا المخلصون الذين تربوا على مائدة الكتاب والنبوة، فلقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة يربي الصحابة رضوان الله عليهم في مكة على الإيمان بالله ومقتضياته، فلم يكن هناك تكاليف شرعية ولا حدود، وأمر بالجهاد، ولكن يلخص هذه الحالة في مكة حال تعذيب المسلمين من قبل المشركين قول سيدنا بلال رضي الله عنه حينما كان يعذب في بطحاء ورمضاء مكة، يلقى على ظهره فيها، ويوضع الحجر الكبير على صدره، ويطوف به السفهاء بالحبل جرًّا في رمضاء مكة قائلاً: أحد، أحد، ولا شيء غير ذلك.

3-  مرحلة الثورة على الاستضعاف؛ إما بالهجرة، أو المواجهة: ولقد ظهرت مرحلة الثورة بالمواجهة في بني إسرائيل حينما ثاروا على أحواهم من الاستضعاف والقتل وغيره من الإذلال لفرعون وقومه بامتهانهم المهن الوضيعة، فثاروا وثارت أنفسهم، فقالوا لنبي لهم كما أخبر القرآن: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ [البقرة:] 246]، هكذا ثاروا على الظلم والذلة والمهانة والاستضعاف في الدين والدنيا، فطلبوا من النبي أن يبعث لهم قائدًا؛ ليقاتلوا في سبيل الله عز وجل؛ لكي يتخلصوا من هذا الظلم وهذا الجبروت، وتكون لهم الحرية؛ ليعبدوا الله عز وجل دونما استضعاف ودونما تهديد، أما المسلمون فلقد كانت مرحلة الثورة عندهم بالإيمان العميق أولاً، ثم بالارتباط الوثيق، ثم بالتكوين الدقيق، ثم الهجرة للمواجهة الشاملة بعد ذلك مع الباطل، وبدأت هذه المرحلة مع المسلمين بالهجرتين للحبشة وهجرة النبي – صلى الله عليه وسلم – للطائف ثم الهجرة العامة من مكة إلى المدينة؛ استعدادًا لمرحلة التمكين الجزئية في المدينة، ثم المواجهة الشاملة مع الباطل، وظهرت هذه المواجهة في أولها سجالاً نصر في بدر، ثم هزيمة في أُحد، ثم لم يحدث قتال في الخندق، ثم المواجهة مع صنف آخر من أهل الباطل، وهم يهود، وظهور النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وإجلائهم عن المدينة، ثم بدأ مرحلة جهاد الطلب لنشر الدعوة، وبدأ مرحلة التمكين الكلية.

4– مرحلة التمحيص ثم التمكين: وفي هذه المرحلة تكون الفاتورة التي يدفعها أهل الحق باهظة وتكون أيضًا كاشفة فاضحة لتنقية الصفوف من المنافقين ومدخولي العقيدة معلولي الغاية أصحاب المصالح الدنيئة، فتنفي الصفوف عنها خبثها، فيخرج كل هؤلاء ويبقى المؤمنون، فتبقى الصفوف نقية صافية؛ حتى يكونوا أهلاً للتمكين؛ لأن التمكين ليس نزهة أو رحلة، ولكنه جهد يحتاج إلى احتمال وجهاد يحتاج إلى صبر وعمل متواصل، وظهر التطهير للصفوف في قصة طالوت حينما اختبر جنوده حتى صفاهم، وبقِي معه المؤمنون حقًّا؛ ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249].

وأما ما يدل على أن التمكين هو جهاد الدعوة وعمل متواصل يحتاج أيضًا إلى صبر ونفس طويل بالصبر على لأْوَاء الدعوة، قوله تعالى ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا ﴾ [الكهف: 83، 85] وما يدل على بذل الجهد في مرحلة التمكين أيضًا ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41]، وقول الإمام الشافعي لسائله: أيُمكَّن للمؤمن أم يُبتلى أولاً، فقال رحمه الله: لا يُمكَّن له حتى يُبتلى.

وتلكم سنن الله عز وجل في الأمم والفئام من الناس، فكلما استضعفت أمة أو طائفة مسلمة، ثم ثارت على أحوالها من الظلم والقهر والاستضعاف، فإنها تتعرض لسنن الله تعالى من مرحلة الخمول والاستضعاف، ثم الثورة على النفس والأوضاع الخاطئة، والظلم والقهر والاستضعاف، ثم مرحلة التمحيص، ثم التمكين الجزئي، ثم التمكين الكلي، ولقد لخص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المراحل: (أول ما تكون فيكم خلافة، تكون ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها الله إن شاء أن يرفعها، ثم يكون ملكًا عضًّا يكون ما شاء الله له أن يكون، ثم يرفعه الله إن شاء أن يرفعه، ثم يكون حكمًا جبريًّا، يكون فيكم ما شاء الله له أن يكون، ثم يرفعه الله إن شاء أن يرفعه، ثم تكون فيكم خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت).

هذا وعد الله – عز وجل – ووعد الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم بالنصر والتمكين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلي آله و صحبه و سلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى