حكايا من القرايا.. ” ضيف المساء “
عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين
عندما يهاجم الفقر بيتاً من البيوت ويستوطن فيه، فإنه يحتل عقول ساكنيه، ويسكن وعيهم وممارساتهم، ويؤثر على علاقاتهم بالآخرين. وبدران المالح (لا حيلته ولا سيلته)، إن اشتغل أكل وأطعم زوجته وأطفاله الخمسة، وإن لم يعمل فلهم الله، لا شجرة له، ولا عرق زيتون، ولا متر أرض، غير عقد قديم ورثه عن والده، وطيّن بقربه مرافق… وخشّة بناها من حجارة وطين مخلوط بالتبن. بدران عطّله المطر الشديد عن العمل، يستيقظ كل يوم في الصباح الباكر على صوت الرعد والمطر والبرد، يستغفر الله، ويطلب الرزق منه، ولكن من يشغّل بدران في المطر؟ يكاد يصيب الرجل الجنون، حتى دفتر الديون في دكاكين البلدة أقفلت في وجهه، فقد وصل الحد الأعلى في ديونه… بدران المالح أقماره معمية، ويرى الدنيا قد خرم الابرة.
قبل أذان المغرب بقليل، في ذاك الجو الشتوي البارد، دقّت خوخة الباب… قال في نفسه: الله يستر… تسابق وابنه محمود لفتح الباب، وكانت المفاجأة… صاحبه الحج خليل العاني، يربط دابته في السنديانة الكبيرة، ويحمل شمسيته، ويرفع الخُرج عن الدابة… أسقط في يد بدران وهو يسلم على صديقه الذي لم يره منذ زمن… صافحه وذهبا في عناق… وسرعان ما اشتغلت ماكينة تفكيره: ياه… كيف سيتدبر أمر هذه الضيافة الشتوية المسائية… أكل للضيف ولدابته، ومنام له وللدابة أيضاً… لا شيء في البيت غير كسرات من الخبز الجافر، وقليل من الزيت ومخلل الفقوس… وزوجة تفاجأت بقدوم ضيف… حمل الضيف خُرجه ووضعه قرب باب العقد… قال بدران ممازحاً ضيفه: ليش متأخر يا رجل… ظيف المسا مالو عشا…؟ أجابه العاني: غداي وعشاي إني شفتك واطمنيت عليك… أي سرساب حاف بدران وزوجه، التي أتت على استحياء وأطفالها يسلمون على ضيف المساء… اجتمع بزوجته في الخشّة، والدمع يكاد يسقط من عينيه، وهمس ” الظيف بيجي أمير، وبقعد أسير، وبروح شاعر”… شو بدنا نسوّي يا بنت الحلال؟ صمتت… همس (خاف الله) سيقضي العاني ليلته حبيس جوعه، وبرده… يا خزاوتنا! وتبادل الرجلان التحايا والترحاب، والخراريف المشتركة، والأسئلة الروتينية وأجوبتها، وهما جالسان عل الفرشة، وأمامهما قرطة خشب مشتعلة في تنكة كبيرة… يشربان الشاي… لكن بدران ساهم في تفكيره… وغير مرتاح…
في العتمة حمل بدران الخُرج إلى الخشّة… يا للهول: لحمة… أرز.. سكر، تفاح… برتقال… حتى الشاي أحضره معه العاني هدية… انقشعت الغمّة… قالت الزوجة: الله أفرجها… ظيف وزوّادته معاه… الظيف ظيف الله… بيجي ورزقته معاه… ما ظل يا بدران إلا نستقرظنّا رغيفين ثلاثة خبز من الجيران، ونحط قدام الظيف…
عندما ازدادت العتمة، طقّ أبو السعيد الدار، وهو يحمل (جاطاً) من الرز واللحم، وصحناً من المرق، وطقّ أبو إبراهيم الباب وهو يحمل صحناً من البحتة وخبزاً… ونادت أم خالد وهي تحمل… والشريف يحمل… وفي ثوانٍ كانت تشكيلة رائعة أمام الضيف والجيران… وجبة عشاء يزينها البرتقال والتفاح ومخلل الفقوس… وسهر الرجال، تخرّفوا وضحكوا… ولعبوا الصينية… وغلب العاني بدران… ثم استأذن أبو إبراهيم المعزب بدران، ليأخذ الضيف، وحمارته إلى بيته للنوم هناك… وشعر بدران المالح أنه خلق من جديد…