شعرية الليل عند السياب

د. محمد حسين الواضح | ناقد وأكاديمي – العراق

mohammed.alwadh@alkadhum-col.edu.iq

mohammed.alwadh@alkadhum-col.edu.iq

يحمل الليل سَمْتا عجيبا في الاستعمال الأدبي عبر عصور الأدب المختلفة ، ولاسيما في التوظيف الشعري تحديدا، بما يكتنزه معناه اللغوي الأصيل والمتفرع بلاغيا، فيشخص في العهد الجاهلي مضربا للمباريات الشعرية؛ كلٌّ بحسب مخياله وما يلقيه ظلال المعنى للمفردة من تنوعات صورية بصرية او ذهنية لافتة،

فيستعيره الشاعر الجاهلي المسكون بفجاجة الصحراء والفضاءات المفتوحة باعثا للخوف، “فإنك كالليل الذي هو مدركي إحساس بالمطاردة، وآخر يجنح لتوصيف مفارق، يجرد الليل من سكونيته الى مخيال يعج بالصخب”وليل كموج البحر وآخر يعدُّهُ مناسبةً للمكابدات الوجدانية، وهكذا تجد التراث الادبي يزخر بتنويعات صور الليل.

الحزن المكظوم لدى السياب، كثيرا ماتجد الليل يُمثّل فيه”زمن اللحظة الشعرية المفتوح” -لوجاز التوصيف- في أغلب استعمالاته للمفردة، يحج السياب الى الليل مشعرا ومحرابا ومثابة تسكن إليه زفرات اغترابه، ووَكْد الفراق ومبارحات جسده العليل، فثيمة الليل والعراق تكاد تعد (مصاحبة معنوية) عجيبة في بثه الشفيف النازف عشقا، والتصاقا به وإليه ومنه! عبر قصيدته مدار التحليل: (إقبال والليل)

فالليل لديه طابور ممتد بامتداد انبلاج الضوء الأخير،

فهذا التعاطف بينه وبين العشاق يجسّر  حالة من الانتظار الصوفي الجميل، لا يفقهه الا الندامى والمبرّحون على قارعة الحب: (الليل و العشاق ينتظرون فيه على سنا النجم الأخير)

الصورة الشمية والبصرية لليل في تعبير السياب تفوح من “جوار بلاغي” لافت، امتزجت بالعراق فتضوعت عطرا جماليا يُشم”بعبير تربته” ومشهدا فنيا بارعا، يُرى ب”هدأة مائه تراسل الحواس:

(يا ليل ضمّخك العراق 

بعبير تربته و هدأة مائه بين النخيل)

ثم يؤثّث لصورة من التناسق والتشكل الصوري والجمالي في نصّه،  ما يوقظ لديك تلقيا متحركا وقابلا ل_التقولات الشعرية- لقابلية النص وتطوعه، حاكيا الحالة الشعرية الصورية لعلاقة  العراق بالليل بما أضفاه عليه من تصوير لمشهديته الجمالية، فَسَمْتُ اختلافِ ليل العراق عمَّا سواه تجاوز أفق السواد القانم المبتلي بالهموم كما يصوره قديما “الملك الضليل”، فهو ليل عراقي مختلف بضوع تربته الحاكي لعراقته وحضاريته، ومبدعيه، ليل عراقي مختلف بهدأة مائه الغافي تحت ظلال نخيله!

فتأمل كسل الأغصان يشعرك بغنجه وتثاؤبه وترنحه وهو يتمدد في باحة الليل الطويل وكأني بالشاعر يستعير جمال البصريات المكتحلات بسواد هذا الليل:(أغصانك الكسلى و يا ليل طويل) 

يظهر السياب بأنه يهيئ لدبيب شعوري ينساب من خلال ذلك “الحزن المكظوم” المبثوث في نوح تلكم الاغصان التي تعزف شدو الفراق والأحبة والأمكنة:(ناحت مطوقة بباب الطاق في قلبي نذكر بالفراق)

مستعيرا لحبيبته إقبال بتناصّ مكافئ لحالته الشعرية المتمثلة بصورة “الحمداني لحمامته” النائحة الهائجة بجنبه،  وكأنها : السياب وحمامته إقبال، مبارحان هجدة الليل الطويل الممتد، ومشيّعان للفراق وانقطاع الوصال.

ثم لم ينفكّ يطلق تهوّعات التياعه وندبه، لإقبال التي تدور في مخيال الشاعر أمنية: (إقبال مدِّي لي يديك من الدجى ومن الفلاه جسِّي جراحي وامسحيها بالمحبة والحنان).

لردم فجوة الهوّة والقطيعة بينهما، غير آبه لبعد المسافات العابرة للقلوب في هذا التيه والاغتراب الذي يعيشه، وهيمن على روحه التي انسلخت من آلامه الجسدية لتستحوذ على جل تفكيره ومناه: (بك ما أفكر لا بنفسي: مات حبك في ضحاه، وطوى الزمان بساط عرسكِ والصبى في العنفوان.)

فمن هنا نرى أن شعرية الليل تمثل لدى الشاعر وقدة تستعر بجمرة وطن، ولسعة شوق لحبيب، محكومين بالغياب والنفي في لحظة الاستدعاء السيابية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى