فيروز عزف على أوتار الذاكرة
عبد الجبار نوري | كاتب عراقي مقيم في السويد
الكثيرون يربطون بين فيروز وقهوة الصباح ، وبفنتازية سحرية يتخيّل لهم إن فيروز والقهوة “طقس صباحي” ولا زلتُ وأنا في خانة الثمانين من العمر أدمن على هذا الطقس الجميل كل صباح وأستسلم تماماً لسحر صوتها وهي تغني:
يا بياع الخواتم بالموسم اللي جاي
جيبلي معاك شي خاتم –
يا بياع الخواتم راح يتركني حبيبي
أحبس لي حبيبي بخاتم .
وتدخل في لحظات تأمل صوفي حين يأسرك سحر الصوت وسحر اللحن وسحر الأحساس وهكذا يأخذ بتلابيب العقل التي هي فعلاً ” معجزة الجمال ” فالأستماع إلى فيروز ليس سهلاً إن فيه معاناة من نوع خاص لمن تحمل كل كلمة وكل لحن عندهُ طوفاناً من الصور والذكريات التي عاشها ولم يعشها ، وربما أنا المغترب معني بهذه الأرهاصات الحلوة والمرّة ،حين أستمع لأغنية بغداد وهو أمرٌ يعنيني ويعزيني وهنا أقف عندها لأصلي لمدينتي الحبيبة الغافية على ضفاف دجلة الخير ومفارقها منذ ربع قرن وهي تصدح ( بغداد والشعراء والصورُ ذهب الزمان وضوعهُ العطرُ ) ، فأدمنا على صوتها الملائكي الرخيم فلا تتم صباحاتنا ومفردات أيامنا إلا بصوت جارة القمر ينبعثُ دافئاً هامساً يمنح الفرح والتفاؤل .
وقد سطرت مسيرة فنية وأنسانية مستمرة لآكثر من ستين عاماً قدمتْ خلالها 800 أغنية، جاءت نهاد رزق وديع الشهيرة بأسم فيروز من قرية جبل الأرز في قضاء الشوف اللبناني لتبدأ مشوارها الغنائي منذُ عام 1940 وكان عمرها أنذاك ستة سنوات لتنظم إلى الكورس الأذاعي اللبناني وأكتشاف خامة صوتها الغنائي ” حليم الرومي ” الذي أطلق عليها أسم ” فيروز ” .
وما أشهى الحديث عن ” فيروز ” جارة القمر، عصفورة الشرق ، قيثارة السماء ، سفيرة الأحلام ، سيدة الصباح، المعجزة ، ولادة بيروت 1935 ، قدمت مع الأخوين الرحابنة العديد من الأوبريهات والأغاني، وسرعان ما لمعتْ بالنجومية بعد عام 1952 مع الأخوين في توليف ومزج بين الأنماط الغربية والشرقية مع الألوان اللبنانية في مضمون موسيقاها وأرثها الحضاري، وفولكلورها التأريخي العريق .
وساعدها صوتها العذب الرخيم الذي يمتاز بأنسيابية وشفافية مخملية عذبة تداعب شغاف القلب طواعية، مع عرض سلايدات للطبيعة اللبنانية الساحرة بخيال فنتازي ممتع حين تحكي (غنياتها) القصيرة بلسان حكواتي لبناني متجلبب لحد الطربوش بذلك الحب والعشق الصوفي المؤطر بالأنسنة وبرومانسية قروية فطرية مجردة من العبثية الصبيانية فهي حقاً ثورة في الموسيقى العربية خاصة بعد 1970 بعد الحرب على لبنان، وذلك لأن أغنياتها بسيطة التعبير مع عمق الفكرة الموسيقية وتنوع المواضيع حيث غنّتْ للحب والقدس – لتمسكها بالقضية الفلسطينية – والأطفال، وللحزن والفرح والوطن والأم، وغنّتْ ياجارة الوادي الرائعة من تلحين العبقري المصري محمد عبدالوهاب، ومن بعد الثمانينات أتجهت موهبتها الفنية إلى الألق والسمو الروحي باستثمار الموهبة الموسيقية الخلاقة لدى أبنها (زياد رحباني) حيث طلعتْ علينا بتوليفةٍ جديدة بين الموسيقى اللبنانية والموسيقى العربية والموسيقى الشرقية والموسيقى العالمية ، وأبدعت في تقديمها للعمل المسرحي ، وأحياناً تأخذ المسرحية نقداً لحاكم الشعب ، وفي تمجيد البطولة ، وهل في الليلة الظلماء يفتقدُ البدرُ في ( غنيتها) الرائعة :
يا أنا — يا أنا
وياك صرنا القصص الغريبه
يا أنا —ياأنا أنسرقتْ مكاتيبي
وعرفوا أنك حبيبي!!!
أنها روائع ودرر ما غنّت هذه الشحرورة اللبنانية بمقاربات حسيّة ووترية تبدو وكأنّها مستوحاة من أنغام سمفونية الموسيقار النمساوي المبدع ” موزارت 40 أو 41 ذات الأيقاعات الوترية المتماثلة .
ومن أغاني فيروز الأكثر شهرة: ربما أخرج من دائرة الحياد وبأنتقائية أكتب لكم الأغاني التي أهواها وأعشقها أمنيتي أن تلقىى رضاكم:
جارة الوادي وأكتب أسمك يا حبيبي ، ونسّم علينا الهوى ، وسألوني الناس، وأعطني الناي وغني، وأنا — يا أنا، وقدمت عدداً من الأغاني لمحمد عبدالوهاب في ستينات القرن الماضي منها يا جارة الوادي ، وخايف أقول ، وقدمت 15 مسرحية من أشهرها بياع الخواتم، كما قدمت ثلاث أفلام سينمائية، وبهذا أجزم أن فيروز ظاهرة الأنبعاث الثقافي لبيروت في الخمسينات والستينات والسبعينات ، وهي المطربة الوحيدة الباقية من جيل الكبار في الغناء العربي .
قالوا فيها:
-جاءت السيدة ذات الصوت المائي ، هجمت ك— مكتوب غرام من كوكبٍ آخر ، هجمت كتفاصيل حبٍ قديم، ومررنا تحت أقواس صوتها الحضاري فتحضرنا، وغمرتنا بالنشوة والوجود ( نزار قباني) –
-أنها تجعل الصحراء أصغر ، وتجعل القمر أكبر(محمود درويش)
-إن صوت فيروز أجمل صوت سمعتهُ في حياتي ، وهو نسيج وحدة الشرق والغرب( مغنية الأوبرا الهنغارية ” أنا كورسك ” .
وأخيراً/ ماذا تعني زيارة الرئيس الفرنسي أيمانوئيل ماكرون لفيروز ؟
ربما تعني أن زيارة ماكرون يريد توجيه رسالة ما! من خلال تقديمه فيروز على كل كبار المسؤولين والزعماء السياسيين اللبنانييين ، وأعجبتني مداخلة الكاتب والأعلامي ” غسان شيربيل ” في هذه الزيارة الملفتة للنظر قرأتها في جريدة الشرق الأوسط اللندنية: {إنهُ جميلٌ أن يدخل أيمانوئيل ماكرون لبنان في زيارته الثانية الجديدة من منزل فيروز ماراً بالأحياء المنكوبة وميناء العاصمة المدمر ، ولعل الرئيس الفرنسي أراد تذكير اللبنانيين بالجسر الأخير الذي عاند العواصف الذي هو جسر فيروز الذي لم يبق الكثير مما يجمع بين اللبنانيين} .
وهكذا الدنيا — العابرون لا يتكررون ، والراحلون لا يعودون ، ربما —- وربما — القادم أجمل