أدب

صوتٌ لا يُسمع: التشظّي كقَدرٍ معاصر

سليمان التمياط| السعودية
ليس ما يحدث حولنا تحوّلاً عابرًا في أنماط الحياة أو في وتيرة الإدراك بل تفتّت داخلي دقيق يصيب جوهر الأشياء وهيئتها ويحوّل المعنى إلى شظايا لا تتّصل ولا تملك القدرة على أن تعود .
التشظي لا يُشبه الانفجار.
هو لا يهددك بصوت عالٍ بل يمتدّ مثل شقٍّ في زجاج نقي تراه ولا تسمعه؛ يكبر بينما تبدو الأشياء كما هي.
هذا هو أخطر ما فيه: أن يحافظ كل شيء على هيكله الخارجي بينما يتهاوى المعنى في الداخل.
الإنسان كما عرف نفسه طويلًا كان يسكن سردًا ممتداً وكان يحمل هوية متجذّرة في الزمان والمكان واللغة والذاكرة.
لكن اليوم يتنقّل بين ذوات متعددة تتشكل حسب المنصّة والسياق واللحظة.
لم تعد الذات بناءً داخلياً إنما مزيجًا من الأقنعة المتقاربة تظهر وتختفي دون قوام حقيقي .
اللغة، التي كانت طريقه إلى المعنى فقدت هي الأخرى امتدادها الداخلي .صارت الكلمات مشاهد سريعة والخطاب تأدية صوتية والفكرة رد فعل .لا أحد يصغي لِما تحت الكلام ولا أحد ينتظر اكتمال الجملة .كل شيء مقطوع والمعنى لا يُنجز فقط يُلوّح به ثم يُترك .
حتى الزمن… لم يَسلَم . لم نعد نحيا الزمن بوصفه خيطًا طويلًا. صرنا نعيش لحظات منفصلة كل واحدة منها لا تعرف أختها . الماضي مُجزّء، الحاضر مُفرَغ والمستقبل ضبابي لا يَعد بشيء.
الذاكرة الجماعية انهارت أيضًا . لم تَعُد حكايةً نرثها اصبحت معرضًا ننتقي منه ما نحب ونُسقط منه ما يؤلم .لا أحد يروي؛ الكلّ يعرض والعرض لا يُنشئ معنى بل يزيد المسافة بين الشاهد والمشهود .العلاقات تلك التي كانت سندًا ؛ تحوّلت إلى تفاعلاتٍ آنية تحكمها المنفعة أو الخوف أو التجاور المؤقت .الحضور كثير بينما الارتباط مفقود .
الدفء تلاشى . حتى الحبّ في زمن التشظي أصبح قابلًا للضغط والإرسال لكنه لا يملك جذورًا كافية كي يقاوم .
الذات، اللغة، الزمن، الذاكرة و العلاقة…كلها تتفتّت وتنكمش إلى أجزاء لا يُمكن لحمها بسهولة .
هذا ليس مشهدًا طارئًا بل هو بنية العصر ذاته. العالم لا ينهار من الخارج هو ينهار من الداخل ؛ بصمت وبأناقة وبابتسامةٍ توهمنا أن كل شيء بخير .
ومع ذلك، ثمّة ما يمكن فعله .أن نُدرك أن نُسمّي ، أن نكتب ، أن نبطئ وأن نعود إلى الحكاية لا إلى الصورة وإلى الفكرة لا إلى الانفعال .
ليست الغاية أن نعود كما كنّا ولا أن نبحث عن نسخة قديمة من الذات بل فقط أن نحفظ فينا شيئًا لا يتفتّت ؛ أن نُنشئ نقطة تماسك صغيرة تقاوم بصمت كجذر شجرة لم تنقطع تمامًا .
ربما لا نلتئم لكننا نستطيع أن لا نذوب .ربما لا نستردّ الكلّي لكن يمكننا أن نرفض الفُتات .
وفي عالمٍ مكسورٍ مثل هذا حتى الصرخة… قد لا تُسمع لكن مجرّد إطلاقها هو أول شكلٍ من أشكال السير نحو النجاة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى