أعدو نحو السراب

قصة بقلم: عبد الله علي أبو طالب عليوة| مصر
كان المساء يزحف ببطء على البيت الريفي البسيط. الجدار الطيني العتيق يتهدّل بظلّ الشمس الأخيرة، ورائحة التراب الرطب من بقايا السقيا تتسرّب إلى أنف الشاب وهو يخطو بخطواتٍ متثاقلة. قلبه مثقل كأنّه يجرّ وراءه سنوات من الركض… ركض لم يصل به إلى شيء.
جلس بجوار جدّه، الذي اتّكأ على عصاه وجعل ظهره يسند الحائط. كانت التجاعيد على وجهه كخريطةٍ لحياةٍ طويلةٍ أنهكتها الحروب والفقدان.
تنفّس الشاب عميقًا وقال بصوتٍ مبحوح:
أعدو منذ سنين… كلما مددت يدي لأمسك الحلم انفرط بين أصابعي ماءً. ظننت أنّه أمامي، هناك في البعيد، لكن حين توقّفت لألتقط أنفاسي… اكتشفت أنّ السراب كان في داخلي. أحلامي تتساقط كأوراق الخريف، وكلّما حاولت أن ألملمها، بعثرها الريح. لم أعد أعرف: أكنتُ أركض نحو حياةٍ، أم أهرب من موتٍ يسكنني؟
سكت قليلًا، يحدّق في الأرض كأنّه يخشى مواجهة عينَي جدّه. ثم تمتم:
“أنا يا جدّي كمن عاش عمرًا على وعدٍ لم يأتِ، وظلّ يفتح الأبواب فلا يجد وراءها سوى الجدران
أشعر كأنّني ظلّ يمشي في النهار بلا جسد، رجلٌ نصفه ميت ونصفه الآخر يتظاهر بالحياة. الناس من حولي يظنون أنّني عابر مثلهم، لكنني في داخلي غريقٌ، يتشبّث بالهواء وكأنّه خشبة نجاة.”
مدّ الجد يده المرتجفة ووضعها على كتف حفيده، كأنّه يسكب في قلبه شيئًا من سكينة السنين. أطرق برأسه قليلًا، ثم رفع عينيه وفيهما دمعة لم تسقط بعد، وقال بصوتٍ هادئٍ كأنّه يجيء من عمق العمر:
“يا بُني… لا تركض خلف السراب فتُتعب روحك، ولا تظننّ أنّ الحياة دينٌ مؤجَّل عليك أن تستوفيه. إنّ ما ضاع مضى، وما لم يأتِ فليس لك بعد. سرّ السكينة أن ترى نعمة اللحظة قبل أن تفلت من يدك، وأن تفهم أنّ جراحك ليست عدوّك بل هي التي جعلتك تفهم قلبك أكثر. الحلم الحقيقي ليس في آخر الطريق، بل في قدرتك أن تمشيه وأنت راضٍ. لا تجعل الماء المنفلت بين أصابعك يطفئ عطشك عن المعنى.
يا بُني… لقد عشتُ ما يكفي لأفهم أنّ الدنيا ليست سوى قافلة تمضي، كلّما توقفنا عند سرابها عطشنا أكثر. رأيتُ رجالًا يضحكون صباحًا ويبكون ليلًا، وبيوتًا تُشيّد عالية ثم تخلو كأنها لم تكن. عرفتُ أنّها دارٌ لا تثبت على حال، تُقبلك بوجهٍ وتدير لك ظهرها بوجهٍ آخر.
لا تركض خلفها حتى لا تنكسر، وخذ منها ما يكفيك للسفر، كما يأخذ الراكب زاده في الطريق. السنين يا ولدي مثل الرمل في الكف، كلما شددت قبضتك تسرّبت أسرع. فلا تُضيّع عمرك في مطاردة ما لا يُمسَك.
اجعل قلبك معلّقًا بما يبقى لا بما يفنى، فإنّ ما عند الله هو وحده الباقي. ستكتشف أنّ السكينة لا تُشترى ولا تُؤخذ من يد أحد، بل تُولد حين تنام قرير العين، راضيًا بالقليل، شاكرًا على ما أبقى لك الله من نعم.
وصدقني يا بني… في اللحظة التي ترضى فيها، ستدرك أنّك لم تعدُ نحو سراب، بل كنت تسير نحو يقين، يقينٍ أكبر من الدنيا وأطول من العمر.”
ساد صمت قصير بعد كلمات الجد، كأنّ الزمن نفسه انحنى إجلالًا لها. نظر الشاب إلى يدي جدّه المرتجفتين وهما تضمان العصا، فرأى فيهما ضعف الجسد، لكنه لمح أيضًا قوة الروح التي لم تهزمها السنين.
خارج النافذة، كانت الشمس تميل إلى المغيب، تصبغ السماء بلونٍ أحمر كدمٍ سال ثم هدأ. شعر الشاب أنّ قلبه، الذي كان يلهث في صحراء السراب، قد وجد أخيرًا ظلّ نخلةٍ وارفة. ابتسم ابتسامة صغيرة، مرتبكة، لكنّها صادقة.
وفي داخله، تردّدت الكلمات الأخيرة لجدّه كنداء بعيد:
“إنما الدنيا ظلّ زائل… فخذ منها زادك، ولا تضيّع عمرك في مطاردة سراب.”



