قراءة في رواية ” بنت دجلة ” للعراقي محسن الرملي
د. موج يوسف | ناقدة وأكاديمية – العراق
جدلية الاستلاب والاستعادة
يضعنا الروائي محسن الرملي في روايته «بنت دجلة» الصادرة عن دار المدى، أمام القضية الأهم في الوجود الإنساني هي صراع الذكورة والأنوثة، وهذه الأخيرة ظّلت تتأرحج بين الاستعادة والاستلاب. ونجدُ هاتين الثنائيتين في مشهدين دارميين للبطلة قسمة، الأرملة الشابة والمتمردة من صغرها.
الرواية كُتبت بضمير الغائب ومتن حكائي ظهرت فيه الحركية المستمرة؛ لأنَّ السردَ مكتوبٌ بالأفعال المضارعة التي جعلت من الحدث دائم الاستمرارية. فالبطلة قررت أن تأكلَ العراق بعد أن عثرت على رأس أبيها موضوعاً في صندوق كارتوني من دون باقي الجسد، فأخذت على عاتقها مهمة البحث عنه، وفي رأينا أن الجسد المفقود هو رمز للعراق التائه فهل وجدته قسمة؟ مهمة البحث تتطلب أن يرافقها شخص آخر يكون رجلاً بحكم العادات الاجتماعية؛ فتزوجت من الشيخ طارق. وهو صديقُ أبوها المقرّب ليتشاركا البحث. والانطلاقة من منطقتهما يلوح الكاتب أنها شمالي بغداد، فغيّب مسميّات المدن والمناطق؛ لأنّه أراد أن يكون الموضوع أكثرَ شمولية ويطالُ أي إنسان تتوالى على بلده النكبات، من احتلال وتدمير شامل، فزمن الرواية بعد دخول الاحتلال الأمريكي إلى العراق، وانقلاب جميع الموازين في لحظة، وهذا ما جعل قسمة وطارق يتعثران بقبيلة الشخابيط وشيخهم طافر الذي احتضن القوات المحتلة في ديوانه، والشخابيط مسمى القبيلة له رمزية ـ في رأيي ـ أن منطق القبيلة الفوضوي واللامدني هو المؤثر والجاذب في ظروف كهذه.
الرواية لا تخلو من السخرية ومشاهد تثير دهشة القارئ، لكنها تحمل وجهة نظر وهي أن بلدا كالعراق يعاني من الاضطراب القيمي.
ولأنَّ عشيرة الشخابيط وشيخها احتضنوا المحتل صادف حضور قسمة والشيخ طارق عند صديقهم الشيخ طافر، الذي احتفى بالجميع فأخذ دورَ بطولة المشهد، الذي استعادت فيه الأنوثة هويّتها؛ عبر اقتحام قسمة وزوجاته وبناته مضيفه ومشاركتهن الحوارات، التي انصبت في السياسية والانتخابات، دارَ حوارٌ ساخنٌ بين طافر وقسمة، واشتد لتحدث مبارزة قضيبية عندما اعترض على مشاركة نساء عشيرته في الانتخابات فقال أنه لا يستطيع أن (يجعل امرأة رأساً لعشيرة؛ لأنَّ هذا لم يحدث من قبل وسيكون إهانة لعاداتنا وتقاليدنا فقالت له: إن ذلك لا يعني أن المرأة غير قادرة على قيادة عشيرة، فما أكثر النساء اللاتي قدن امبرطوريات عبر التاريخ). غير أنه حاول أن يفحمها وقال لها: (إن الرجل يستطيع أن يبول وهو واقف أما المرأة فلا تستطيع).
هذا الحوار يجرّ الروائي إلى تجسيده بمشهد درامي بعد أن أعلنت قسمة أن تبارز الشيخ ويتبولان واقفين أمام الحضور، وتمّ رسم خط لمن يصل بوله إليه فكانت قسمة هي السلحفاة المنتصرة (ثم صدحت زغرودة من وسط أعقبها بالتصفيق الحاد، ومن تبعهن الصغار بالتصفيق والصفير والتقافز كأنهم شهدوا تسجيل هدف كرة قدم في مباراة فريق يحبونه).
قد نقع في سخرية من قبل القارئ الذي يسأل ما علاقة مبارزة البول باستعادة والهوية؟ قد يقول قارئ آخر للرواية عن هذا المشهد: هل الكاتب يستهزئ بعقول قرّائه؟ (وأنا منهم)؛ فالنظرة السطحية توحي بذلك، لكن الرؤية النقدية الفاحصة تفكك المشهد، انطلاقاً من دخول النساء إلى مضيف الرجال فهذا أول اقتحام لمحاولة استعادة الهوية المسّلوبة، والثاني المبارزة القضيبية والسؤال الذي يشغلنا لماذا بين القضيبين؟ هذا يحلينا إلى المتن السومري الذي شهد أوّل اغتصاب من قبل (أنيليل وآنكي) فالأوّل اغتصب ننليل والثاني إنانا (عشتار البابلية) واستعادا القضيب المنسي نفسه من الأنوثة الهجينة؛ لنوضح هذه المسألة أكثر كما حلّلها فرويد في الكبت الجنسي: إذ رأى أن المرأة تتسم بالإزدواجية الجنسية خلال فترة الطفولة، ولا يمكن أن تصل إلى سن الرشد إن لم تتخلَ عن الزائد القضيبي لديها أي البظر، وهو العنصر الذكوري، فالاغتصاب الأول والتخلي القضيبي هو فقدان رمزي للهوية الأنثوية، ولا يمكن أن تستعاد الا بفعلٍ مشابه، لكنّ الاستعادة جاءت بشكل مؤقت (أوضحه بالمشهد التالي) انتصار الشخصية البطلة قسمة بمبارزة التبول كان استعادة للهويّة الأنثوية وهذا ما جعل الروائي يواصل سرده للرواية بصلاحية قسمة في الحكم والقيادة وتشكيل الحزب، بل حتى في الممارسة الحميمة التي امتنعت عنها ولم تفعلها إلا وقتما شاءت وكان هذا المشهد قبل الأخير، عندما اعتكف الشيخ طارق الحياة، ولجأ إلى التصوف في المسجد والتأمل والعبادة فتمت ممارسة الحبّ في المسجد في منتصف الليل، وفي الجانب الآخر نلحظ تدرج المشاهد في عودة استلاب الهوية الأنثوية مرة أخرى حتى وصل إلى المشهد الأخير، الذي خرجت فيه قسمة من المسجد باتجاه بيتها وتّم اختطافها وقيادتها إلى شاطئ دجلة، والروائي جعل البطلة منقادة إلى موتها من دون حركة او دفاع منها (وهناك انزلوها من السيارة وأمروها أن تجثو على ركبتيها وتعصب عينيها لكنها هزت رأسها رفضاً ووجهها باتجاه الماء، عندها نطقوا للمرة الأولى منذ أن خطفوها حيث سألها أحدهم وهو يقف خلفها.. كيف تريدين رصاصة في الرأس أم ذبحاً بالسكين؟ فأجابت بإرادة ووجها نحو السكين، نظر الخاطفون بعضهم لبعض مستغربين وخائفين بعض الشيء، فسألها المستند على كتفها هل أنت متأكدة؟ أومأت برأسها تأكيداً).
هذا المشهد يعيدنا إلى المتن السومري مرة أخرى الذي فقدت فيه الأنوثة كيانها عبر فعل الاغتصاب ومع (إنانا) التي حصلت على السلطات عبر علاقتها بالملوك بفعل البغاء، وهذا الأخير تقايض به السلطات. وتمّ التخلص منها بفعل الاغتصاب من قبل البستاني (شوكالليتودا) يتضح في المتن التالي (أنانا تفحّصت نفسها عن قرب وفهمت أنها اغتصبت وعند ذلك أيّ كارثة لن تثرها بسبب فرجها المهان) فهذه الحادثة مع مشهد الرواية، نوع من الانتقام الذكوري للتجرؤ الأنثوي على مشاركتها للسلطة أو امتلاكها. وحسب رأينا هذه منطلقات اجتماعية بنى عليها الأدب خياله.
الرواية لا تخلو من السخرية ومشاهد تثير دهشة القارئ، لكنها تحمل وجهة نظر وهي أن بلدا كالعراق يعاني من الاضطراب القيمي.