أفق التغيير المتجذر في التاريخ
البشير عبيد | تونس
كاتب مهتم بقضايا الفكر التنويري وإشكاليات المشهد السياسي العربي والنزاعات والصراعات الإقليمية والدولية
إن الحلم بالمدينة الفاضلة مثلما هو متعارف عليه في الثقافة العربية الإسلامية يستدعي بالضرورة رؤية فكرية متناسقة٫منهجا ومضمونا٫ وهذا العمل الفكري التنظيري لا تقوم عقول شغلها الوحيد الغذاء والجنس وجمع المال من كل حدب وصوب٫بل هذا العمل الشاق تقوم به عقول راجحة لها من التفكير النقدي والسفر والترحال بين الثقافات ومنجزات الحضارات المختلفة٫دينا ولغة وهوية.
إن الأجساد الحاملة لعقول راجحة مع الأفق البعيد، زمانا ومكانا في النظر للاشياء والإشكاليات والمعظلات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية بإمكانها الذهاب بعيدا وصياغة مقاربات لإخراج أي بلد أو أمة من الأمم من إنفاق الظلام والتخلف والتبعية للدول والإمبراطوريات الكبرى المسيطرة في العالم، وإدخال هذه الشعوب إلى قلب الحضارة المعاصرة عبر آخر منجزات الفكر الحديث وإنجازات العلوم والتكنولوجيا.
من هنا تلج هذه الشعوب مناطق الضوء و الاستنارة وتبدأ رحلتها الطويلة من أجل تحقيق الرفاهية والتنمية والتقدم والعدالة الاجتماعية وإرساء مجتمع المواطنة النقيض للمجتمع الرعايا: الأول مركزه حقوق الإنسان بكل تعبيراته وسياقاته أما الثاني فلا يعترف بهذه الحقوق الكونية نظرا لغياب هذه الحقوق و كل القيم عن مرجعياته الفكرية وعقيدته السياسية.
إن الأباطرة والملوك والأمراء والرؤساء على مدار التاريخ لم يكن “الإنسان”جوهر تفكيرهم واهتمامهم، بل غاب عنهم هذا الإنسان المقهور والمغدور والمستغل نظرا لاعتبارهم هذا المخلوق الذي يتحكمون في مصيره هو في النهاية رعية وليس مواطنا حرا .
هذه الأفكار كتب عنها الكاتبة المفكر المصري والعربي الكبير خالد محمد خالد في كتابه القيم “مواطنون لا رعايا”سنة 1951 قبل سنة واحدة من ثورة الرابع والعشرين من جويلية/أغسطس 1952 التي أخرجت مصر من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري بأبعاده الديمقراطية والإجتماعية. وليس بإمكان أي شعب في العالم أن يخرج من نفق الرعايا إلى أضواء المواطنة إلا بالفكر النقدي وإبعاد المؤسسة الدينية والعسكرية عن السلطة السياسية و العمل السياسي.
الطموح المسنود بفكر مستنير ورؤية استشرافية للقادم من الأحداث يجعل المرء منحازا بالضرورة للغد المتسم بالتغيير وإدخال الحركية والدينامية على مسارات الشعوب الحالمة بالتحرر والانعتاق و تأسيس الأرضية الصلبة التي تبنى عليها أركان دولة الحكم الديمقراطي والعدل الاجتماعي والتنوير الفكري والثقافي المناهض للظلام نهجا ونسقا ورؤيا.
ما تنتظره الجموع الغفيرة من مكافحي الطبقة العاملة بالفكر والساعد في كل أقاليم العالم هو الذهاب بالمشروع المدافع بلا هوادة عن الدولة العادلة إلى الأمام بعيدا عن التسرع والشعبوية وحرق المراحل مع الاستفادة من كل تجارب التحرر الوطني التي خاضتها الشعوب الخارجة رغم كل التضحيات الجسام من نير الاستعمار والاستغلال.
ولا سبيل لإحداث أي تغيير متجذر في مسار التاريخ دون النهل من قيم المواطنة والفكر الاجتماعي المدافع عن بهاء العدالة ومقاومة التفاوت الطبقي والتمييز الظالم بين الفئات و الأجيال والجهات و الأعراق و الطوائف. هنا وهناك.
الغد تصنعه العقول المستنيرة المنتجة للفكر التحرري المستقبلي والسواعد المؤمنة بالوطن الحر والإنسانية التقدمية.