حكايا من القرايا.. ” ميّة النقل ما بتروي جمال “
عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين
لوحة للرسام. الايراني سعيد بأنه زادة مواليد 1975
من بدهيات الحياة الأساسية في القرية، توفر مرفقين لا يستغني عنهما الناس، الطابون، وبير الماء… وإذا كان الطابون يبنى بعد بناء البيت ومرافقه، فربما حُفِر البير قبل بناء البيت، حتى يستفاد من مائه أثناء البناء…
يحفر البير في الحِوَّر، وكانوا يضربون المثل في برودة مائه صيفاً، فيقولون: ميْته مثل البوزة… وعادة كان البير يكفي العائلة سنة كاملة، لحين ما الله يهونها ويغيث الناس، ويجمع الناس ماء المطر في البير… مصيبة المصائب إن لم يكفِ البير الأسرة، فهنا يجب الانتقال إلى بير آخر خارج البيت ونقل الماء منه إلى البيت…
عملية النقل، تبدأ بترتيب الجلان الحديدية على ظهر الدابة (الحمار عادة) ثم تأتي أصعب مرحلة بانتشال الماء من البير وملء الجلان… وعادة ما تكون الركوة من الجلد أو الحديد، تدلى في البير وتغترف الماء، ثم يتم رفعها بالحبل المربوطة به. ومشكلة إن كانت الركوة مخزوقة، عندها تتضاعف مشقة انتشال الماء… وملء الجلان… وتكبر المشكلة وتتعاظم إن كانت الجلان مخزوقة… عندها تتضاعف مشقة النقل من البير إلى البيت… وكان ناقل الماء يحاول سد ثقوب الجلن بقشة ناشفة… فينسد الخزق إلى لحظة وسرعان ما يبدأ السيل مرة أخرى… ما أروعها من لوحة عندما ترى المرأة الفلسطينية، وقد ملأت جلانها ورتبتها على الدابة، وملأت جرتها وحملتها بشكل مائل على راسها، وقد وضعت تحتها قطعة دائرية من القماش أسندتها عليها… ومشت وراء الدابة، توجهها، والجرة على الراس ثابتة دون أن تمسك بها يد…
أم نايف كانت تشلح أسوارتها قبل نشل الماء… – الله يسامحها – نسيت هذه المرة، وبقيت الأسوارة في يدها وهي تنتشل الماء… ويبدو أنها أكبر من المعصم (حلوة) فلم يثبتها المعصم، وسقطت في البير… أم نايف وحدها على البير، جلست قرب القصعة تجوح وتنوح… فكرت بنزول البير، لكن ذلك صعب… جاء شاب من أقصى القرية يريد الماء… – ما بك يا خالة؟ سأل سليم… – بصوت متهدج، سقطت إسوارتي في البير، أجابت أم نايف… – لا عليك… ولا تنهمي… في البير يا خالة يا دوب شبر ماء… وإسوارتك ستكون على وجه الماء إن شاء الله… حلّ حبل ركوته، وربطه بحبل ركوة البير، فطال الحبل، أنشأ فيه عقداً بين العقدة والأخرى مسافة متر، ربط طرفه بشجرة الزيتون الكبيرة بجانب البير، ومسك الحبل بيديه الاثنتين، واضعاً إصبع قدمه الكبير وجاره بين العقد، ونزل البير من عقدة لأخرى… حتى وصل قاع البير، كانت الأسوارة قد عكست أشعة الشمس وبدت تتلألأ، صاح صيحة مجلجلة، ” لقيتها” دوّى صداها في جنبات البير، ثم الفضاء، ارتعدت أم نايف من الصيحة والفرحة، وتشظّت كلمات الحمد لربها، وشكر الشاب الشهم… وطلع سليم من البير كما نزل… كانت الدنيا لا تتسع لأم نايف، التي حولت دموعها من الترح إلى الفرح… وهي تتسلم أسوارتها… وسليم خجل من كيل المديح ودعاء أم نايف له… واكتفى سليم بالعودة دون الماء… لقد تعكّر ماء البئر… في المساء كان أبو نايف، يحمل سفطاً من السلفانا، وبكيتاً من الراحة… وكيساً فيه التفاح والبرتقال… هدية للشاب سليم…