التداخل الدينامي للزمن في رواية (أفراس الأعوام) للروائي زيد الشهيد
أ.د. مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي
يلجأ الكثير من الكتّاب إلى وصف الزمن وصفا مسهبا في سبيل إعطاء القارئ نكهة الواقع الذي يحاولون خلقه,وتصويره,والروائي الناجح (زيد الشهيد) لا يقتنع بإعطاء قرائه وصفا موضوعيا مجردا للحقبة التاريخية للحدث,بل يحاول أن يجعلهم يعايشون شخوصه معايشة وجدانية, وفكرية عن طريق زج انفعالاتهم,واستجاباتهم الجمالية في انفعالات,ومواقف شخوصه الواقعين. ويعد الزمن عاملا فعالا في الحياة,لأنه عنصر يحمل قدرة على التغير يجعل البيئة بكل تفاصيلها لا تستمر في حالة ثبات,بل يحركها باستمرار,بوصفه متحركا, فللحظة الواحدة متحركة إلى اللحظة التالية, وكل حركة تحمل معها تغيرا, وبما أن الزمن فعال في الحياة فهو عنصر فعال في الرواية أيضا, وبسبب هذه الفاعلية لابد لزيد أن يحدد زمن الإحداث التي تجري في الرواية,كما ينبغي عليه إن يحرص على وضوح المراحل الزمنية بين كل حدث وآخر,لان كل حدث في الرواية لا يكون له زمنه الخاص فقط, بل يكون له زمن علاقاته بالأحداث الأخرى, لقد كان الزمن وما يزال يثير الكثير من الاهتمام,وفي مجالات معرفية متعددة ابتدأ التفكير فيه من زاوية فلسفية,فكانت منظورات الفلاسفة تنطلق من اليومي لتطال الكوني,فمقولة الزمن متعددة المجالات,ويعطيها كل مجال دلالة خاصة ,ويتناول بأدواته التي يصوغها في حلقه الفكري,والنظري,وقد يستعير مجال معرفي ما بعض فرضيات أو نتائج مجال آخر,فيوظفها مانحا إياها خصوصية تساير نظامه الفكري, فأرسطو يعرف الزمن بمقدار الحركة فيما يتعلق بـ القبل,والبعد فهو يعرفه على أكثره اتساما بطابع الفيزياء, ويربط بينه وبين الحركة الفيزيائية, فلم يعد الزمن يعرف ميتافيزيقيا, على انه صورة للأبدية, أو حركة النفس, بل أصبح يعرف- كما يمكننا القول- فيزيائيا,أي كنظام عددي يبين اتجاه الحركة,يبين ما يتقدم,وما يتأخر, ونجد في رواية (أفراس الأعوام) للروائي المبدع (زيد الشهيد) تحتوي على رؤى فلسفية,وليست هي الفلسفة المحضة التي ورد ذكرها في كتب الفلسفة,بل هي رؤى إنسانية تستشرف المستقبل,وتحاول تنوي الواقع,وتغيره إلى واقع أفضل,وكذلك الرؤية الفلسفية نحو الماضي من خلال رموزه التاريخية,والأسطورية,والحكايات الشعبية,وعند استنطاق نصوصه القصصية نجدها تتحدث عن الزمن الذي تجري فيه إحداث الرواية ,ويمكن إن يكون في الماضي,أو الحاضر,أو يكون في المستقبل,ويمكن إن تكون ارتدادات في الزمن كما في قصص تيار الوعي فيتداخل الزمن الحاضر بالماضي,أو المستقبل بحسب إحداث الرواية , فنراه يقول :- ها هو جعفر حسن درجال قد بلغ الستين وما يحدث أمامه ضحى هذا اليوم من آب 1959 من هرج ومرج وفوضى لا تطاق في محاولة الفوز بكرسي أو منضدة أو مزهرية أو شمعة تعليق الملابس أو ستارة نافذة أو مروحة سقفية أو منضدية أو … أو… أو … تلك الأشياء التي أبيح نهبها من مقر اتحاد الشعب الواجهة الأمامية للحزب الشيوعي في مدينة السماوة, وهنا يبدو واضحا أن الروائي (زيد الشهيد) يعيد تركيب بعض الأفكار المعلن عنها في العلاقة بين الرواية, ومفهوم الزمن، حيث يخلص إلى القول بان الذاكرة والديمومة تعدان الأداتين اللتين يتفق حولهما الزمن النفسي, والفلسفي للأدب، فإذا كانت الديمومة هي التدفق المستمر للزمن، فإن الذاكرة ليست سوى مستودع أو خزان للمسجلات,والآثار الثابتة للأحداث الماضية يشبه السجلات المحفوظة غير أن الفكرة الرئيسة التي لم يتوسع الروائي فيها تتمثل في تصوره حول التداخل الدينامى ,إذ إن العلاقة المتفاعلة بين الزمن ,والذات، وهو ما يفرز لنا مدى التركيز على الترابطات الزمنية التي لا يتم ترتيبها بانتظام في رواية (أفراس الأعوام)، مما يعنى كسر العلاقة بين السابق,واللاحق,كما تكشف عنها الأحداث في الرواية عن طريق الزمن الداخلي, المرتبـط بالشخصية المحورية الفاعل يقوم على استحضار البطل الماضي,بواسطة الذاكرة,و الومضة الوراثية، وهو زمن المستقبل المعاش في الحلم بنوعيه حلم النوم,وحلم اليقظة,وعلى هذا الإحساس بنيت أحداث الرواية فالزمن الداخلي هو الغالب, وتبتدئ وقائع الحدث بعملية انتقال من وضعية,لا واعية إلى وضعية واعية الاستفاقة من الحلم، وتنتهي بعملية معاكسة، أي الانتقال من حالة واعية إلى حالة غير واعية فنلاحظ أن الزمن الداخلي دائما يتم تقليصه على مستوى الخطاب الروائي لإفساح المجال أمام الخواطر,وحديث النفس, والتداعيـات الحرة ,والذكريات, والأحلام، فلا يتبع الزمن في هذه الرواية رسما تصاعديا تتطور عبر مساره الأحداث ,وتتضافر في نسج الحبكة الحديثة, والفنية فإنما يتخذ شكلا تتشابك فيه الأبعاد الزمنية الثلاث, الماضي, والحاضر ,والمستقبل, إذ نجد البطل /الفاعل، عند تلقيه للصدمة يلجأ إلى تغييب رد الفعل الخارجي الجسماني ليحل محله النشاط النفسي المعتمد على الذاكرة التي تتراكم فيها ذكريات مشاعر الإحساس بالمحنة،فهو ينقلنا إلى الزمن الماضي أيام النظام الملكي فيسرد لنا الأحداث, فنراه يقول : – أعود إلى ثلاثين عاما خلت وذلك الصباح الذي قادتني لحظات ضحاه إلى دائرة البريد لأكتب برقية طويلة على هامش إصدار وزارة الداخلية ونحن في العام 1935 امرأ بمنع إقامة شعائر الزنجيل والتطبير واقتصار طقوس عاشوراء على إقامة جلسات الوعظ وتنوير العامة من الناس بخطأ إقامة مثل هكذا ممارسات لا تمت للدين الحنيف بشيء وإنما هي سلوكيات جاهر بها الغلاة ودفعوا بها إلى البسطاء ليجعلوها طقوسا ترتدي معطف التقديس.. إذ يتكاثف,زمن الديمومة أي الزمن الجاري لا زمن القياس زمن يجري, ويتكون كما يقول برغوس هو الذي يجعل كل شيء يتكون, إن اعتماد الروائي (زيد الشهيد) على الزمن الداخلي هو الذي خلف توارد جميع أحداث روايته باعتبار أن الفاعل في الجزء الأول من ملفوظ روايته يعيش حالة الصدمة, والألم, ويلجأ إلى استحضار الماضي عبر الأحلام, والذكريات لتفتيت هذا الألم,وإحلال محله اللذة ، وفي الجزء الثاني من ملفوظ روايته عندما يكتشف الفاعل لدخول التحدي عن طريق إثبات وجوده باللجوء إلى الماضي,والتصور المستقبلي، فيقع بذلك تجاوز للزمن الخارجي ,وما يطبعه من رتابة يولدها تسلسل الأحداث السردية تسلسلا خطيا ، فالبطل /الفاعل ينطلق من الآن إلى الماضي ثم, إلى المستقبل عبر الحاضر إلى زمن ينتقل فيه الراوي بين مختلف الأبعاد الزمنية بكل حرية دون اعتبار لما قد يحدث لدى القارئ من تداخل بين الأحداث وما قد يجده من عسر في إدراك رباطها المنطقي.
ونجد الروائي(زيد الشهيد) يسرد لنا الإحداث بطريقة متسلسلة وشيقة, فنراه يقول :- من هامش حرية قدر جعفر وجودها مستفيدا من فرصة توجه الدولة إلى احترام الفن والأدب والإبداع قبل فكرة إقامة معرض فني لجميع إعماله طرحها عليه أعضاء رابطة الفن التشكيلي المنشاة حديثا في الأول من تموز 1959 حيث أشاروا إلى انه رائد الفن التشكيلي في المدينة,وفي إطار هذا الزمن الداخلي المتشابك يبرز الزمن الكائن المتصل بماضي الفاعل البطل, وحاضره ،وما يتســم كلاهما من التأزم المرتبط بعلاقة انفصال اللذة /الأم,الوعي /اللاوعي كما يبرز الزمن الممكن وهو يومئ إلى المستقبل وما يمكن أن تفعله الكتابة المضادة التابعة من كيان الفاعل المثقف الذي يدرك أحقيه هذه الكتابة في تغير الوضع الكائن, أما الزمن الخارجي وهو الزمن الذي يبقى عند طرفي الرواية, البداية والنهاية, وبما أن الرواية ليست حدثا يسير أفقيا فإنه من الصعب بما كان تحديد زمنها الخارجي ,و مع ذلك فإننا نعتمد في تحديد هذا الزمن على مجموعة من القرائن التي تدل عليه ، كون الحدث الأول، متى وقع ذلك في الليل, أم في النهار, فهذا المقطع يدلنا على أن الزمن هنا يتعلق بمدة معينة ، لذا فإن الزمن الخارجي للرواية يقوم على مدة محددة, و قصيرة ,و يكون بذلك الزمن الإطار الخارجي لكامل أحداث الرواية وهو زمن الحاض, ونجد ذلك قد تجسد الروائي (زيد الشهيد) ,وهو يتحدث عن الشخصية المحورية في الرواية ,وهو يتمنى الحرية للشعب العراقي من خلال القرينة الآتية التي تدل على الحرية , فنراه يقول :- مات جعفر حسن درجال ولم ينتبه احد إلى اللوحة التي تقبع في غرفة مرسمه مع اللوحات النائمة على الجدران تلك التي كانت بيانا خبيئا لأحداث مهولة تنبأ بحصولها فاستحالت واقعا مائلا دخلت إليه السماوة عارية إلا من وجلها وخوائها ,, وضغينة أبنائها , وأخيرا نقول أجمل ما في رواية (أفراس الأعوام) أنها تتحدث عن شخصية المثقف, السياسي, والرسام , والتي تناول فيها المبدع الكبير زيد الشهيد سرد سيرة غيرية عن مدينة السماوة والتي تعد وثيقة تاريخية , وعن بطلها لقائد والمناضل والسياسي جعفر بشكل جميل ومعبر عن شاعريته,فهو الشاعر, والفنان ,والروائي في روايته أنها تناولت ثالوث المثقف, والسياسي, والرسام الحالم فضلا عن أنها تتحدث عن زمنين الماضي زمن الظلم ,والاضطهاد من خلال ممارسات القتل والتدمير, والحالي من خلال تطبيق الظلم على الفقراء.