حكايا من القرايا.. ” ولا واحد ضحك عليّ “
عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين
بنيته قوية… طويل، كتفاه عريضان، وجهه في الشمس كأنه شمس، يداه طويلتان وقويتان، كان يعصر حبة الليمون بالشّدّ عليها في كفّه دون شقّها… ويغلب قبضايات الحارة كلها بالمكاسرة… ويغلبهم بلعبة المنقلة التي تحتاج دراية وفطنة…ويضحك عليهم، ويدّعي: عمره ما واحد ضحك عليه أو استخفّ بعقله، يقولها وهو يرفع راسه إلى أعلى… شغله الرسمي (ع الكابوسة) حرّاث بن حرّاث، ورث عشق الأرض، واقتنى حصاناً، ويقضي وقته في أرضه يحرثها، ويستأجره الآخرون ليحرث أراضيهم…
استيقظ أبو خليل من النوم باكراً، توضأ وصلى واستغفر… حمد الله اليوم (وفار) أول يوم من ثلاثة أسابيع وفار… انقطع عن الحراثة ثلاثة أسابيع؛ لكثرة المطر وتطيين الأرض، كما انقطع حصانه عنها… سيحرث اليوم قطاين (أبو صالح) الغرابى… جهّز حصانه وعدّة الحراثة، وجهّزت له أم خليل فطوراّ خفيفاً وكاسة شاي؛ ليكسر الصفرا، ويؤسس قاعدة للتدخين عليها… مع العلم أن فطوره الأساس في العاشرة، يأتي به صاحب الأرض، ويرفض أن يعمل (مكمّماً)…
تحركت قافلة الرجل، الحمار في المقدمة، يحمل أبا خليل وعدة الحراثة، وعليه الخرج الذي احتوى على برّاد الشاي… وخلفه الحصان… وصل القطاين، حلّ عن الحمار، وربط على الحصان، وما أن قال (دي) أول (الديرة) حتى انطلق حصانه… ما شاء الله الدنيا براد… والأرض تحت العود طريّة مثل الحلاوة، فرفع عقيرته بالغناء:
قطان الغرابى هيّانا جينا……… جبنا معانا البحر والمينا
والله ما حدا ضحك علينا……. ولو حدا ارصعه رصع الزيتونا…
دي… والله يابو خليل طول عمرك راس… لا عاشوا الانذال… ولون الأرض يتحول بفضل السكّة من البنّي إلى الأحمر… وطيور الزرزور تلقّط رزقها خلف السكّة… والحراث مزهزهة معه، والحصان مزهزهة معه أيضاً… من بعيد رأى أم صالح تحمل (جونة) كبيرة، فيها الزوّادة… ع العافية صاحت… عافاك الله ردّ… هاي الزوّادة تحت الزيتونة، افطر وينتا بدّك… أنا رايح أجهّز الغدا… اللي رح يجيبه أبو صالح… مشت المرأة، راح وتفقد الأرزاق: خبز، قنية زيت، جبنة بيضاء وصفراء، بندورة مقلية، بيض مسلوق، علبة حمص، وأخرى فول… وبرّاد شاي… الله يسامحك يا أم صالح، مفكرتيني بدّي أفتح دكانة؟ ابتسم، طول عمركم خيّرين… برم سيجارة هيشي، أشعلها، احتسى كاسة من الشاي الساخن، ثم قام، يخط ديرة ورا ديرة، ومعناة ورا معناة، وتعريمة ورا تعريمة… ومن قطان إلى آخر… وراسه في الفضا: ما حدا علّم عليك يا بو خليل… جاع الرجل، وتعب الحصان، وضع مخلاة التبن في رقبة حصانه… وانطلق فرحاً إلى الجونة… يا هول ما شاهد! يا قشيلك يا بو خليل! شو هذا؟ الزيت مدلوق على الأرض، بقايا ألوان: الأصفر والأبيض والأحمر تدل على جبنة منهوبة… وبيض وتالي بندورة مقلية… الحمص مدلوق… وتوالي خبز موجود… فتل تحت الزيتونة، فتل يديه، مطّ شفتيه، برم سيجارة… من؟ وكيف؟ من الجاني؟ نظر في البعيد علّه يرى إنساً… حيواناً مفترساً… طيراً جارحاً… لا أثر لأي شيء من ذلك… صاح: أنا أبو خليل يتعلم علي؟ أنا ينضحك علي؟ أنا… أنا… وكادت دموعه أن تنزّ… والله تعلّم عليك يا بو خليل… ضحكوا عليك يا رجل… وين المراجل وين؟ وحلف: والله لو الذي فعلها نيصاً إلا أقلع شوكه… ولو كان وبراُ صخرياً إلا سلخت وبره… وإن كان سالولا ًأو واوياً إلا سلخت جلده… سأربط لك وأراقبك يوماً ما… نفخ تالي سيجارته، وتناول قطعة من الخبز دهنها بقليل من الحمص المدلوق… وشرب كاسة من الشاي… استراح نصف ساعة… ثم مضى في عمله.