قراءة نقدية للمجموعة القصصة (مخرج) للكاتبة السعودية صباح فارسي

هدى توفيق | ناقدة وأديبة مصرية

قراءة للمجموعة القصصية القصيرة والقصيرة جدًا. ( مخرج). الطبعة الأولى ـ 1443ه ـ 2022م . للكاتبة صباح فارسي. لا شك أن فن التجريب في القصة القصيرة قد حظي بقسط وافر من النمو والتطورمن أشكال قصصية مختلفة تأتي تحت مسميات عدة: القصة الومضة ، القصة الشاعرة ، أو الشعرية، أو ما يقترب من مصطلح قصيدة النثر إلى حد ما. إذا جاز لنا هذا الادعاء بالإضافة إلى الأقصوصة. وصولاً إلى الشكل المعروف والشائع الآن بكثرة، وأكثر اتساقًا  تحت عنوان القصة القصيرة جدًا، لتمتزج مع مكونات القصة القصيرة سواء في البنية الحكائية أو البلاغية؛في شكل أقل من حيث الطول والحجم،وبعددمن الجمل أقل كثيرًا. فتظهر في شكل مكثف ومختزل بقدر ما من مرتكزات القصة القصيرة المعهودة على التلقي والقراءة ، والتي أيضًا تحمل البنية الاستعارية والتركيبية،باستدعاءات توحي من الوهلة الأولى بالغموض والابهام للقارئ العادي، أو حتى من متذوق الأدب بوجه عام.مما يسبب إشكالية تحتاج كثيرمن الجهد. وذلكبتفكيك تلك الشفرات .ورغم كل ما يُقال عن أنه فن مبهم وغامض. هذا  أيضًا لا ينفي وجودنوافذ من الطرح الإبداعي داخل تلك النماذج القصصية القصيرة جدًا. في قدرته المهارية على ظهورهكفن متخفي والتظاهر بأن يقول ، وما يرغب ويريد وراء الجمل البسيطة، والكلمات المعدودة بفنية الانزياح المتعمد،وسليقة لا تتوفر بسهولة إلا من خلال مبدع أراد أن يحترف لعبة القص من أبواب صعبة المنال كمن يصرح معلنًا: أنا أقول القليل ، ولكن بداخلي الكثير. وربما كما يقول دَريدا: ( لا تخبر بما تفعل، تظاهر بأنك تخبربما تفعل ، ثم افعل شيئا آخر يخفي نفسَه بنفسه..، ينميها ويحصنها ).(1).

 تحتوي المجموعة القصصية ( مخرج ) من حيث العدد على (11).قصة قصيرة ، و(52). قصة قصيرة جدًا. العنوان الذي يمثل عتبة تلك النصوص القصصية جميعًا. والقصة الأولى تبدو بمثابة عنوان لكرنفال قصصي كبير يحتفي بقدرة الخروج عن عتبات المألوف والعادي والمتاح.موقعه كاسم (مخرج ، والخروج). والفعل (خرج ، ويخرج). والمشتق منه (استخرج). في جميع أحواله يعبرعن الانطلاق والتحرر والخروج من ضيق أو أزمة، أو للنزهة والترويح عن النفس، أوالخروج بلا عودة في رحلة أو هجرة، أوالخروج عن المألوف بصنع عمل متميز، ومختلف عن كل  الموجود.أو الخروج الاجتماعي بتحدي التقاليد والعادات، أو حتى الخروج الاقتصادي ، والتعافي من أزمة حرجة.أي مخرج بالضبط تقصده الكاتبة ؟! وأي مخرج جاء بهذه الاطروحات الإبداعية القصصية، أم أنه مخرج ذو دلالة اجتماعية وثقافية تخص حياة المرأة المناضلة، فيكون مخرج لتلك السيدة من كل الأزمات الاقتصادية ، والاجتماعية ، والثقافية؛ التي تعيشها المرأة العربية بشكل عام في الشرق الأوسط. إنه مخرج يحمل الرمزية ذات الوجهين كما أشار (بول دى مان). في مقاله المترجم ( وجه الرمزية المزدوج).(2). إنه مخرج استحضر كل هذه القصص الإبداعيةسواء القصيرة والقصيرة جدًا. سواء في الشكل القصصي المعتاد ،أو في شكله المعاصرأي القصص القصيرة جدًا. له وجه مزدوج يحمل في طياته إبداع فني، ورؤية سيسولوجية ( اجتماعية وثقافية).عن وضع المرأة في المجتمعات العربية. أشبه بالطلقات الصاروخية أمام وجوه التسلط والذكورية ، والبطريريكية ، التي تُمارس بكل اضطهاد وتعسف كي لا تنال المرأة حقوقها المشروعةفي الحياة. من منطلق التجنيس العنصري دون الوعي بقيمة الإنسان المعنوية والمادية كعقل وروح ، لا بد أن تزخز بحقوق المواطنة السوية دون أي تمييز أو تقييد. برفع شعارات التخلف والعنف ضد المرأة باعتبارها كائن من الدرجة الثانية.

 (مخرج) رمز هائل للتعبير عن المسكوت عنه ، والمختبأ خلف الدهاليز المظلمة، وجدران الرجعية والجمود، وترسبات الذكورة المتوارثة، والتي تشي بميراث ضخم من محاولات ممتدة لقمع ، ووأد نصف الحياة. المتمثل في تلك المرأة المتعددة الوجود والمهام من : أم ، وأخت ، وزوجة ، وابنة ، ووجود حضاري كامل. ولكن ما يهمنا في طرحنا المعرفي والثقافي هو المنتج الأدبي كأطروحة لها وجه رمزي يحتوي على وجهة نظر تأويلية نحاول بها أن نقترب، ولو بعض الشئ من روح النصوص المقدمة بشكلها القصصي المعنون بعنوان ( مخرج ). في المقام الأول والأخير والهدف من هذه القراءة.

حيث أن فن التجريب في القصة القصيرة يؤكد على فنية الاختزال ، والتكثيف من خلال جملة طويلة كاملة المعنى ،أو عدة جمل لا غير. ويكون من المفترض أن هذه الجمل تطرح كامل المحتوى الإبداعي ، والقيمة والمعنى أمام رؤيته لهذا العالم أجمع. بدون تحديد مكان أو زمان أو هوية الجنس المستخدم في أغلب الآحايين. ونستخلص المعنى العميق ، والمغزى من كل كلمة بدقة حتى لا يهرب منا النص في غياهب الغموض والابهام.في أهم صفتين توجه لفن القصة القصيرة جدًا، والشعور بالحيرة بتلك الرمزية المشبعة بها بين ثنايا مجرد مفردات محددة، ومكثفة للغاية.في هذا الشكل القصصي الجديد تضمكل المتاح من الدلالات بين الدال والمدلول. ولكن كيف تتحقق تلك الإبداعية من هذا البسيط والقليل؟! ليأتي السؤال الأهم : وكيف يستطيع القارئ المتذوق لقراءة الأدب بذائقة عامة، الوصول إلى هذه المعاني المعمقة وسط هذا (الضلال المرجعي). أو(بلاغة العمى). كما أطلق عليها بول دى مان من منظور( التفكيك على طريقة بول دى مان).(3)؛ إذا تلك الإشكالية المعقدة تركيبيًا وبلاغيًا وإبداعيًا ، ربما لابد أن تواجه بمنظور تفكيكي منفتح على تأويلات معاصرة حسب هذا الطرح القصصي الجديد الآن على الساحة الأدبية الإبداعية إلى حد ما. فنعترف بمقولة عن التفكيك الذي : ( لا يعرف رحمة أو هوادة ، كلا ولا التماسا أو رجاءً ).(4) ، وعندما نعود للبداية عن حاصل هذه البلاغة المعاصرة من وجهة نظر بول دى مان. في مقاله المترجم ( السميولوجيا والبلاغة ).(5). الذي يمثل :(بيان التفكيك في الأدب).ومقال دَريدا ( الاختلاف المرجئ ). الذي يمثل : ( بيان التفكيك في الفلسفة).(6) ؛ نستطيع أن نحصل ولو على بعض الإجابات  من أجل تفكيك شفرات تلك المجموعة القصصية التي تجمع بين القصة القصيرة والقصيرة جدًا. وإن كانت المقاربة ” الدمانية” (7) ، أقرب عن تأويل مقترح لتلك الأشكال القصصية الإبداعية المعاصرة دون مقاربة دَريدا في ( الاختلاف المرجئ). ومن ثم نستهل القول بالتالي : ( والحاصل أنه بقدر ما كانت البلاغة القديمة بمنطقها وأدواتها ـ تهدف إلى الاقناع ، تسعى البلاغة التفكيكية المعاصرة إلى الكشف عن إخفاق الخطاب وعجزه عن الاقناع ). (وتلك هي بلاغة العمى أوالضلال المرجعي فيما يقول دى مان ، أو الاختلاف المرجئ فيما يقول دَريدا . ويُعدَّ الخطاب الأدبي ميدان التضاربات البلاغية الأوضح. ولو أردنا تعريفا إجماليا للبلاغة التفكيكية المعاصرة لقلنا بأنها تعنى الوقوف على مكر اللغة وحيلها التمويهية. وهذا معناه أن المحدود في حقيقة أمره وواقع حاله غير محدد).(8) ،واقترابًا من عناصر القصة القصيرة جدًا ؛ التي تتميز بعدة مميزات أبرزها: الاختزال، والتكثيف، والمكاشفة. والتي تجلس على قاعدة الرمزية المركبة بداية من عتبة النص المتمثل في العنوان،فيصبح كمكمل رئيسي في العمل القصصي. كما نراه واضح في هذا القصص. يشمل ويحتوي الوعاء القصصي ككل،ويكون جزء من المدار القصصي لا نستطيع أن نغفله أثناء قراءة القصص ،فيحتويهم في عنوان مختلف من قصة لأخرى داخل المجموعة كاملًا. لكنه في نفس الوقت يُجسد تعبير تام يكشف عن كل المخرجات الإبداعية الآتية تحت مضمون واحد، وعنوان واحد هو (مخرج).(9) ، ويكون بنفس الاسم عنوان القصة الأولى التي تفتح شهية القص والامتداد الإبداعي، وكأنها العربة القائدة التي تسير على شريط القطار في رحلة إبداعية؛ كي تُحررنا من الضيق والسأم، وتجعلنا نفكر ونتأمل الأمور جيدًا.

 قصة مخرج تحكي عن الغرفة المسحورة والمهجورة في بيت جدتها ، وقد تسللت بطلة الحكاية إليها خلسة في الليل ، ووجدت دولاب بداخله مرايا كبيرة مليئة بالغبار، وتميل إلى الصفرة ، والجدران خلفها مغطاه بصور قديمة عن نسوة من عائلتها، وشعرت برغبة قوية تشدها للإقتراب من المرآة كي تلمسها ،إنه أشبه بنداء النداهةالذي نخطو إليه بتوق لمعرفة الحقيقة الكاملة رغم مرارتها. وتم ذلك عندما تجرأت ولمست أناملها سطح الزجاج حتى غاصت كل يديها، ورأت وجه أمها ،وهي في ريعان شبابها جميلة وفاتنة: ( تمسك بمرود كحل حجري تغمض عليه أهدابها ، تغرسه في عينيها بوجع مرير).(10) ، وهي تتمتم أثناء حضورها زواج زوجها بأخرى، وتهذي الأم من وجع الخيانة : ( بأنها ستقف على يمينه وستبدو أجمل من الزوجة الثانية ، الضرة القادمة ، بل وسترقص رغم أنها الذبيحةالمسفوح دمها ).ويدفع الابنة الفضول الصادم حتى تعرف المزيد من هذه الحقائق المريرة،وتكرر الفعل مرة أخرى بأن لمست أناملها سطح المرآة ، فرأت هذه المرة عمتها العانس التي تلعن والدها ، لأنه حرمها من الزواج حتى يرثها ، ويستأثر بميراثها بمفرده، وقد دعت عليه أن يحرمه الله من الجنة ، كما حرمها من الحياة الزوجية والأولاد.وتنهارأمامها كل المرايا بالحقائق البشعة، وتتحطم مشاعرها المخدوعة من معرفة الحقيقة؛ التي كانت تختبئ داخل الغرفة المغلقة من سنوات عديدة على ميراث من القهر، والذل ، والخضوع ،في حياة  تلك السيدات اللاتي هن أقرب البشر إليها أمها وعمتها. وربما يوجد الأكثر، ولكنها لم تحتمل أن تلعب لعبة كشف الحقائق أكثر من ذلك، فقررت الخروج ، وفي طريقها للخروج رأت جدتها تنظر إليها بحنو وعطف؛ لأنها عرفت وجه الماضي القبيح بعد النبش وراء الهجران والتلاشي والوسخ ، وشباك العناكب ، ومرتع الحشرات القذرة. هذا ما كان مصيرأحبابها. وسيدات عائلتها المبجلة. وبعد أن كبرت وكبرت عادت مرة أخرى لبيت جدتها ، وتسللت أيضاً للغرفة الموبوءة، ووقفت عند الدولاب الذيبداخلهمرايا الحقيقة والصدق ، لكن هذه المرة رأت نفسها، ولكن للغرابة لم تعرفها فتتعجب ..ماذا حدث ؟ لقد تغيرت تمامًا ؟ وتستطرد في الأسئلة الموجعة : ( كيف وصلت هذه الكدمات لوجهي ؟ كيف بهتت ابتسامتي ؟ ) كيف؟ وكيف؟ ولما ؟ تحسرت على الحال الذي وصلت إليه ، وتبكي وتتألم. تريد أن تفجر غضبها وحنقها على كل العالم. هذا العالم الوحشي الذي أباد حياة أمها وعمتها ونفسها، وأخريات مهمشات ومقهورات بسبب ظلم الرجال ، وقهرهم الفاحش لهن. لكن حتى البكاء لم تعد تستطيعه .. وقد فات الأوان وراح العمر، واندثرت الأحلام ، وتكررت أفعال مرآة الحقيقة بقسوة تغرز في قلبها كالخنجر المسموم. يسري سمه على امتداد العمر،وينتقل من جيل إلى جيل وتُحجر دموعهن ، وتُفتت قدرتهن على فعل أي مقاومة أو نزاع روحي، ولو بالبكاء وتفريغ شحنات الضيق والوجع والتباكي على أطلال من رحلن. من خلال التنفيس عن طاقة الزمتة والألم بأبسط أسلحة الدفاع النفسي، وهو البكاء فقط البكاء… البكاء من أجل الصراخ الضمني ، والمتواطئ على جروحهن العميقة. ما دمن غير قادرات على الصراخ العلني. من أجل انفراجة تهدئ نفوسهن المروعة من تلقي كل هذا الظلم الفادح. أخيرًاتستسلم البطلة وسط حالة الاحباط واليأس من إصلاح الأمور، وقد مر وقت العتاب والصفح ، وبقي وقت الاستسلام ، وتقبل الأمرالواقع. وعاودت النظر إلى المرآة ، فرأتهن كلهن مثل المرات السابقة، ولكن الفرق الجديد هذه المرة أنها كانت هي الأخرى من كلهن … إلى كلهن .

 قصة (نشاز).(11)، تحكي عن انتهاء شخص مجهول لعزف مقطوعة موسيقية ينتهي بتصفيق الجمهور الحار له، ويسعد ويستمتع الجميع بالإنصات إلى عزف هذا الفنان الرائع. الذي يفخر ويبتهج بنجاحه الباهر، وفي نهاية هذا النجاح الذي بُني على حساب أخرين مثل هذا الناي الحزين.ولم يظل غيره وحيدًا حزينًا ينظر لثقوبه ، وهو يترجى الجمهور أن يرحموا عذابه وشجنه ويعيدوه لقبيلة القصب ملاذه وآمانه الأخير، والملاحظة المميزة في كل قصص المجموعة تقريبًا ؛ أنه لا توجد أسماء تُعرف الأشخاص غير العام مثل : الأم ، الابن، الابنة ، الأخ ، الأخت. شخص ما رجل كان أو امرأة . أو لا يُحدد نوع الجنس، ويصبح التأويل يقبل كلا النوعين. كل على حسب،ماعدا قصة ( لا ظل لي ). كان اسم البطل الطفل سعيد. وقصة ( إطار) عندما ذكر الأب أسماء أطفاله الثلاثة.

قصة (هيكل).(12)،عن البشر الذين يتظاهرون بكل زخارفالحياة البراقة ، وألوانها المزيفة من أجل أن يحصلون على الجمال الحقيقي، وانتحال الصفات الحميدة بغطرسة وزيف،ولأن الجمال الحقيقي يكون من الداخل دون المظاهر الخداعة. نموذج هذه المرأة التي تتقصع في مشيتها ، وتزين خصرها بحزام تمساح ، وتغطي جسدها بحزمة من جوتشي ، لكن عندما تحدثت سقطت كل الأقنعة من ثغرها ، كالخردة القديمة الصدئة ، التي لا قيمة لها ، ولا معنى فيها لأنها مجرد هيكل بشري. روح فارغة من الداخل ليس بها أي حياة أو مصداقية. وذلك لأنها روح ميتة في الأساس ، وهكذا حال البشر حين يموتون تتحلل أجسادهم ، وتصبح مجرد هياكل وعظام متناثرة .هذه أيضا حقيقة البشرالمتلونينالمصطنعين ، والزائفين حتى وهم على قيد الحياة، ومهما منهن تزين وتقصعن في المشي والحركات ، وارتداء الملابس المثيرة الملفتة للنظرمثال هذه المرأة ، لكن من داخلهن عبارة عن هيكل أخرق، وسينتهي أمرهن عاجلًا أوآجلًا.

قصة (رشاش).(13). تُجسد تعبيرًا قويًا عن ملكة الإبداع مع طقوس الكتابة عند الكاتبة، وما يليه من استعدادات ، ولم الشمل العقلي والروحي من : قلم رصاص، ودفتر ممزق، وأفكار مشوشة، ومشاريع متعثرة. ثم أخيرًا الشروع في تسويد الأوراق ،والجميع يتنافس لإحكام الجمل حول رقبة المبدعة، وهم جميعا يصرخون أن هذا الغبي أي الوحي والالهام بين تنافس حاد للعقل والروح ؛ من أجل توحيد الهدف والقبضة حتى يهبط الوحي الكتابي المستعصي، ونثره على الأوراق بالقلم الرصاص ،وهم جميعاً في حالة ارتباك شديد، ويخشون التناحر والتنازع الذي يسبق العملية الإبداعية؛ التي تشبه المخاض قبل الولادة. وتُشّبه هنا بالرشاش أي المدفع الرشاش الذي هو كلمة البداية والنهايةكي ينطلق وينهمرعلى الصفحات البيضاء بكل عنفوان.

قصة ( مقص).(14). المقص هنا معادل الدودة التي التهمت كتب كافكا، ودستوفيسكي، وزوربا وغيره من الكتب، وهي تسير بنشاط زائد عن البحث والتهام أكبر قدر من الكتب ، كالمقص عندما يشق جدار القماش، والأنسجة بكل جراءة وقوة. ويصنع أي تشكيل لأي لباس ما. هكذا كانت هذه الدودة البشرية التي تعشق القراءة، قتقول على لسان حالها التخييلي: ( عندما قرأت كافكا، دارت في رأسها أسئلة عن العبودية ، وعندما قضمت زوربا بدأت تتحدث بفوضى عن الوجود ، واكتشفت أنها مجرد ظل ، أما دستوفيسكي فعلمها أن الفقر هو المحرك الأول للتمرد ). وظلت تلك الدودة النهمة للقراءة جائعة ، وكلما التهمت زادت شهية القراءة بلا حدود ، وهي تلتهم أكثر وأكثر، وتبحث عن الأفكار حتى تكاثرت الديدان من حولها، ولا تجد إجابات حاسمة ، أو خبر يقين ، أو ما هو الصحيح والمفروض والواجب فعله أمام هذه الحالات المروعة من الشك أثناء البحث والتحري وراء الأسئلة، والحيرة والأفكار الكثيرة والكبيرة في آن واحد.حتى صاح أحدهم الماكر: ( الحل هو في حرق هذه المكتبات ).

كما نلاحظ إن مضامين تلك القصص السابقة تحمل إلينا إشارة هامة عن مدى ( المسؤولية في التفكيك ) ، بالإضافة إلى ( مسؤولية المفكك ). داخل العمل الإبداعي . مما تعنيه هذه المسؤولية من عبء كبير على المبدع أن يُبرزه بطاقة تخييلية عالية أيضًا ؛ حتى يتحول من عبء إلى لعبة الانشغال كليًا بدوام التفكير، مع قدرة زائدة وفائقة من الاختزال والتكثيف والمكاشفة.بأدوات من التفرد والاتقان في خلق إبداع قصصي قصير جداً من خلال عدة جمل. وكل مفردة تزن مقدار محدد ومنسجم ومناسب. إنه أشبة بفن التقطير الذي يزن ذهبا في قيمته وجودته، ومغزاه الفني وطرحه الإبداعي. وهذا يتطلب التركيز والتفكير طويلًا في دور كل لفظة بدقة وحرص. حتى لا يخرج عن الحساب القصصي الفني للقصة كاملاً.ويحقق أهدافه الإبداعية. ومن ثم : ( في هذا السياق البلاغي الضخم ، يمكن إثارة قضية المسؤولية في التفكيك . يسعى التفكيكى إلى البحث عن لا موقع يسائل منه كل المواقع، لا انطلاقا من التعالي عليها وإنما انطلاقا من ضرورة المداومة على إعادة التفكير. مسؤولية المفكك هي مسؤولية دوام الفكر).(15). تلك الحالة الدائمة من التفكيرالتي تنشغل بكل كلمة في النص القصصي بداية من العنوان حتى أخر كلمة تتمم معنى الحكاية ، ولو كان مستتر ومختزل في تكثيف بلاغي بسيط. لكن تلك الكلمات المحددة بزغت من فكر دائم التفكير عن ماذا يكتب ؟ أولا يكتب؟ وما هو الصحيح والأصح لكي يناسب واقع القصة؟، وهذا كله مصدره كما أشرنا في سابق القول إلى تركيز عالِ في كيفية إبداع جمل تعبرعن عوالم شتى وكاملة البنيان والوضوح، والذي لا يأتي إلا بنقاء الرؤية واستشعارواستبيان المسكوت عنه والضمني باستخدام تفكير يقظ ونشط عن امكانية استخدام كل الأدوات الفنية المتاحة سواء :الإنسانية أو المعنوية أو المادية داخل الكشف التخييلي والحضور القصصي حتى يتجلى في فن قصصي ، وليس أي فن إنه فن قصصي قصير جدًا. أو مرادفه من القصص القصير.

كما يتضح في قصة (إطار).(16)، التي تحكي عن مجرد إطار أصبح مهملاً، وربما مع الأيام ينتهي أمره بالإزالة والتلاشي. هذا الإطار الذي نغلف به الصور الفوتوغرافية لكل الكائناتمن بشر، وحيوان ، ونبات. كان الإطار في هذه القصة هو البطل المركزي الذي قام بكل الشرح والتفصيل داخله ، وهذا الإطار بقيمته الذاتية استطاع أن يفسر مأساة صاحبته حتى رحلت واحتضنها مجرد إطار، ومدته الزمنية حوالي أربعين عامًا. مُعلق على الحائط وكل دوره أنه ينتقل من حجرة إلى حجرة ؛ حيث أن الشكل الظاهري مجرد إطار مثبت بالمسمار على جدار الحائط في مجلس الضيوف به صورة الزوجة المعذبة الشقية داخل مملكة زوجها الأناني المتسلط. وهو يتعامل معها في الواقع بحيثيات المعنى النظري لأي إطار الذي كان في الأول أي (الإطار). انعكاس لشبابه وفتوته ، ومع الوقت انتقل لحجرة أخرى أي لدرجة أقل من الاهتمام والحظوة قائلة على لسان حالها: ( كان ينظر إليَّ مبتسما باعتزاز الرجولة ، وكان يتباهى أمام رفاقه بصورته المتصدرة في داخلي،). وتمر السنون وينتقل الإطار إلى الجانب الأيسر من غرفة نومه ، ولم يعد يهتم بالإطارولا بصاحبته حيث تغيرت الملامح ، وزاد الاغتراب بينهما، ولم يعد يفهم أو يقرأ ما بداخلها ، وباتت العلاقة سطحية ، وقد نضب بريق روحه ، ولا يغادر الغرفة إلا مع تكبيرات صلاة الجمعة ، والأعياد يصلي جالسا بعد أن كان يقوم بالصلاة ، وهو يتلو القرآن في الثلث الأخير من الليل، وينادي على أولاده الثلاث ، وقليلا ما ردوا على ندائه ،وجاءت النهاية الحتمية لكل حي مهما طال أمره وعمره وهو الموت ، فقام بوضع شريط أسود على أحد أركان الإطار المدببة ، وتُرك في زاوية مقيتة قائلة على لسان حالها : ( وكلما حضر أحد المعارف أشار إليَّ كتحفة أثرية يعلوها غبار النسيان). هنا يكشف بول دى مان في ( يبانه عن التفكيك في الأدب ). في ( ” السميولوجيا والبلاغة ” ).( عن المسافة بين ادعاء النص الصريح المعلن وفعله الضمني المستتر، وهي المسافة التي يرى دى مان أنها التفكيك نفسَه ، بمعنى أن التفكيك ليس فعلا ولا نهجا دخيلا على النص الأدبي ، إنما هو فعل النص بنفسه ونهج النص نفسه على استخفاء، هكذا يقترن الكشف عن تلك المسافة بين القول والفعل بحساسية القراءة ومدى الرهافة في التعامل مع النص أوالعمل الأدبي).(17)، وهذا أيضا يتعلق : ( بالبعد الأعمق في اطروحة دى مان بفكرة ” الضلال المرجعي ” والمقصود به اللحظة التي يعلن فيها العمل الأدبي ـ بطريقته الخاصة في الظهوروالتجلي ـ انتسابه إلى صنف بلاغي محدد تتكون بمقتضاه عباراته الأدبية بينما يكشف النظر المدقق في كيفية اشتغال عباراته عن انتسابها إلى صنف بلاغي آخرغير ذلك المعلن. ولعل هذا ما أراده دى مان من عبارته ” الضلال المرجعي ” : referential aberration ضلال الرجوع والانتساب ، ضلال السند والإشارة ، ضلال الاسناد والإحالة).(18) ـ ( وثمة فكرة أبسط من السابقة يتناولها دى مان ، ألا وهى التنازع بين قراءتين للعمل ، إحداهما حرفية والأخرى مجازية ، وما قد يترتب على ذلك التنازع من معضلات وجودية ومعرفية تتسبب في استكشالات اجتماعية وسياسية وأخلاقية على السواء. ويقول دى مان إن النقد الأدبي في حقيقة أمره ليس سوى ما يقدمه لنا الأدب من تفكيك ). (19)، وهذا ما تكشفه لنا تلك النماذج القصصية سواء القصيرة أو القصيرة جدًا، كما يتوالى طرحنا التأويلي على النصوص التالية،وكما تم في النماذج السابقة. حيث نجد انجاز تلك الفكرة المتعلقة ب ” الضلال المرجعي ” أي اللحظة التي ظهر بها العمل القصصي وتجلى بانكشاف حضوره الإبداعي ، وهو ينتمي إلى صنف بلاغي آخرغير ذلك المعلن.تتألف من عبارات أدبية محددة ، ولكن بالنظر المدقق والتمعن ، وتفحص المفرادت ،والجمل جيدًا ينتسب إلى صنف بلاغي مغاير. وأنا أقصد هنا البلاغة بمعنى المضمون الداخلي والفعلي الذي أعلن عن ظهوره الحكائي بداية من العنوان إلى أخر كلمة في النص القصصي. خاصة القصير جدًا برجوعنا إلى السند والإشارة ، ونحن طوال الوقت نعيش حالة من الضلال. لأن السند والإشارة يُشيران إلى معان أوسع وأعمق من مدلولها الشائع والمتعارف لدينا ظاهريا، وأيضا نعيش حالة من التنازع بين قراءتين للعمل إحداهما حرفية والأخرى مجازية، كما أشار دى مان في تحليل بيانه عن التفكيك في الأدب الذي خلق هذه المعضلات الوجودية والمعرفية ، وتسبب في استشكالات اجتماعية وسياسية وأخلاقية على السواء. وهنا اسشكالات مقصودة المعنى لاحتوائها على عدة إشكاليات. وليس فقط إشكالية واحدة محورية . فالمجموعة القصصية ( مخرج ). في ظاهرها قصص عن تفاصيل الحياة التي تخص أغلبها الأنثى ، كشخص مستهان به وسط المجتمع الذكوري ، ويقع تحت طائل القيد والحبسة والعنف والتزمت. كما توضّح ذلك في العديد من القصص ، ومن بداية القصة الأولى : مخرج ، هيكل ، رشاش،إطار، ناصية، جناح رقم ـ 19 ، رائحة الجنة ، طُعم ، جناح ، مارس ، عيد ، دهاليز ، ذكور، بؤبؤ. رتوش ، مقطوعة ، نقص، نقطة ، وغيرها من القصص. وهذا لا ينفي بالتأكيد وجود الآخر داخل دائرة الانسحاق والطحن والهرس البشري لبعضهم بعضًا. نماذج قصص: شقوق الذاكرة ، نشاز، مكرر، لا ظل لي ، غبش ، عودة، نفاق، بوار، هجرة ، قطيع ، لون ، ماريونيت ، قضبان ، وغيرها من القصص. لكن في الأخير المجموعة القصصية  (مخرج). هي دعوة حاسمة وقاطعة للخروج من كل أشكال القهر، والظلم ، والتهميش ، والخذلان والخيبات المتكررة ؛ التي تلاحق الجميع سواء امرأة أو رجل أوطفل. نموذج قصة ( لا ظل لي ). عن الطفل سعيد المسكين الذين استغلوا براءته ، وشقائه من أجل جني الشهرة والأموال. جراء هذا العنف البشري الذي يطال الجميع حتى الكائنات الأخرى من : النبات ، والجماد ، والحيوان. مثل قصة  ( نشاز ).الذي يشكو فيها الناي أن يرحموا عذابه وشجنه ويعيدوه لقبيلة القصب مع أحبائه وعشيرته.

قصة ( غبش).(20). الغبشهنا عنوان الاحباط واليأس في حالات انكسار مؤلمة تصيب البشر ، فتصيبهم بالتشوش عن الرؤية الصحيحة ، ومواصلة الطريق. ومن ثم لا بد من حرق سفن الخيبة والانتباه بعينين جاحظتين للوصول إلى المستحيل ، الذي هو مستحيل من وجهة نظر المحبط واليائس . إنما هو في حقيقة أمره يحتاج إلى الجهد والعمل والمثابرة من أجل الوصول إلى تحقيق أهدافه ، والتجديف ولو بيدين ضامرتين نحو النجاح.

قصة ( ناصية ).(21). لقد حدث على ناصية ما. أن ارتطمت سيارة شخص ما مجهول لا نعرف بالضبط ما اسمه ولا هويته ،وهذاالمعتاد ظهوره تقريبًا في جميع قصص المجموعة؛ من خلال  استمرار هذه الحالة العامة من التجهيل. باستخدام اسم نكرة دون تعريف أو تحديد أي بطل من أبطال القصص ، وتتمة القصة أن هذا الشخص المجهول الذي أوقع الحادث على الناصية الغير معروفة أيضا. اصطدم بإمرأة ما.وذلك الحادث العابر من الممكن أن يحدث لأي شخص ، وعلى أي ناصية ويصطدم : ( بكتلة اللحم السوداء). إلا أنه تجاهل الأمر، ويدير المذياع ليستمع لأغنية أخرى ، وكأن شيئا لم يكن . لكن المثير والمدهش أن هذا الشخص الذي قام بذلك الفعل السابق ذكره تبدلت روحه ، ولم يعد يسعد أو يهنأ بأي مرح بعد تأنيب ضميره ، وشعوره بالذنب الفادح ، لأنه تركها وتجاهل حادث ما أصابها. وقد أصبح : ( من تلك الساعة ثقل روحها البيضاء يعتلي كتفيه كلما هم بالمرح).

أُذكر هنا لأهمية استخدام هذه التقنية الفنية عن عدم تحديد وتعريف سواء : للأشخاص ، والأماكن، والأزمنةالمستخدمة بالضبط في القص والحكي. هو نهج استمر ممنهجًا في أغلب القصص ، وحتى عندما يتم استعمال الأزمنة الماضية ، والحاضرة تكون المسافة : ( بين النص الصريح ، وفعله الضمني المستتر ). لا توجد مسافة واضحة غير ( فعل النص نفسَه ونهج النص نفسه على استخفاء ). وهذه المسافة كما ذكرنا من قبل يراها (دى مان ). ( أنها التفكيك نفسه ). ويكون دور التأويل ( الكشف عن تلك المسافة بين القول والفعل بحساسية القراءة ومدى الرهافة في التعامل مع النص أو العمل الأدبي ). كما أُشير في سابق القول. ويكون دور التأويل هنا الكشف عن تلك المسافة ، ومدى الإضاءة الإبداعية كما تلتقطها اللحظة القصصية في زمنها ومكانها القصصي لا غير، وأن هذه العناوين المطروحة في هذا القصص ماهي إلا أيقونات رمزية تبتدع الظاهر والمستتر الضمني في نفس الوقت.

قصة ( بوار).(22)،البوارهنا رمز بوار وموت الضمير الإنساني عند الإنسان الجشع والطماع ؛ الذي يبتاع من السوق السوداء كل شئ حتى تمتلأ جيوبه بدون أي أمانة، أو رأفة بأحوال الناس المعيشية. بالعكس لا يشعر بأي ذنب أو تأنيب داخلي ، ولا يهمة غير زيادة الأرباح بأي وسيلة. ولو كان على حساب الأخرين بعدم الأمانة ، وموت الضمير الحي مطلقًا. بل يستطرد في الغباء والحمق والعجرفة،عندما سجد لله شكرًا؛ لأن السوق كانت خالية من هذه الأمانة.فرغبته في استغلال منصبه أشد وأقوى ؛ لتعززغريزة التملك وشهوة الجشع والطمع عنده لا غير ولو باستغلال البشرية جميعًا. فهو لا يرحم ولا يبالي لشئ ، أو يهتم بأحوال المعوزين والمحتاجين. غير الكرسي الذي لا بد أن يستفيد منه بكلالطرق الغير مشروعة من أجل أنانيته المفرطة وحبه للمال.

قصة ( جناح ).(23). الذي هو رمز إلى جناح الأم أو الأخت أو الزوجة أو أي قدوة أمومية؛ تعتصر بالحنان والعطف،والحب الأمومي المفعم بالعطاء ، والتضحية بنفسها. حتى لو باعت شعرها ، وأطعمت فراخها ، وعندما شبعواوفاض حنانها ، وقضوا على صحتها ، وكل شئ ، وابيضت عيناها : ( لم ترهم وهم يصعرون خدودهم ؛ كلما تباهوا بزيارتهم لها في العيد ). وكما نلاحظ أن هذه العناوين تغوص بوجوه الرمزية ذات الوجهين بين الظاهر والمسكوت عنه. وكما يشير دى مان : ( عندما نفحص في الأدب الرمزي ـ وأقصد المصطلح التراث ما بعد الرومانسي الذي بدأ في فرنسا مع بودلير ومارس نفوذه على كل الأدب الأوربي في نهاية القرن التاسع عشرـ سنكتشف أنه ينشغل باهتمامين متناقضين على نحو ظاهر : الأول شديد السلبية ويتضمنه السؤال الذي ظل مثارا بأشكال مختلفة : كيف يواصل الأدب وجوده ؟ وهو سؤال أثاره مالارمه : على أيّ نحو يتبدى إمكان الأدب ؟ … إن المعرفة هي إمكان أن تكون هناك كتابة (7). غير أن هذا الموقف الذي يميل إلى التشكك يصاحبه موقف إيجابي مؤداه الادعاء الغريب بأن الشعر هو السبيل الوحيد لخلاص الإنسان من الانقسام الداخلي الذي يهدد وجوده. في الموقف الأول يتساءل الشاعر بقلق كبيرعن ضرورة الاستمرار في مهمة تزداد صعوبتها. وفي الموقف الثاني لا يتردد الشاعر في تحمل التزامات وواجبات من المفترض أنها هَمّ من الهموم المقصورة على الحياة الدينية. ويُعَدَّ الإيمان بهذا النوع من الشك الشيطاني مع الوعد بالخلاصوما يفرضه من عبء حالة نمطية لما نسميه شاعرا ” رمزيا ” ، رغم أن هذه الحالة النمطية شائعة فيما بين الرومانسيين العظام السابقين بشكل مضمر وأحيانا بشكل واضح (8) ).(24) وهذه الرمزية من الممكن جدًا أن مبعثها اغتراب الذات الحاد كما كان عند مالارمه. (ويعبر عن تلك الوطأة بشكل صارخ تمرد رمبو المدمر ، أو يعبر عنها اغتراب الذات الحاد لدى مالارمه حين يتحدث عن ضرورة خلق كل شئ من جديد بواسطة الذكريات ، من أجل إثبات أننا نوجد حقا حيث ينبغي أن نوجد ( الأمر الذي لسنا متأكدين منه تماماـ 481 ) ).(25)، وإذا كان هذا ينطبق على منطق ولغة الشعر، فماذا عن فن القصة القصيرة جدًا ؛ التي أحيانا نشبها بقصيدة النثر، أو تقترب من اللغة الشعرية. وأنا هنا أركز اهتمامي على قراءة فن القصة القصيرة جدًا ، لأن في واقع الأمر المجموعة تحتوي على ( 52) قصة قصيرة جدًا وفقط ( 11 ) قصة قصيرة. لنعود بتطبيق ما أُشير إليه  في سابق القول على فنيات تلك المجموعة التي تتميزوتتجه نحو الرمزية بشكل كبير. ربما لا يختلف الأمر كثيرًا خاصة إذا افترضنا أن المكنون الذي ينهل من تلك الروافد واحد ، وهو أن ذاك الذي يبدع بلغة شعرية ، أوهذا الذي يبدع بفن القصة القصيرة جدًا ، هما في النهاية تنبعان من ذات مبدعة مهمومة بالخلاص  ، ووطأة حالات قاسية من الشجن والحنين ، ومشاعر متخمة ، وزائدة عن احتوائها احتواء حياتي واقعي . كما يعيشه باقي البشر العاديين بكل نمطية وألفة مهما اتسعت الفجوة بين ما أصبحوا عليه وما كانوا يطمحون إليه ، واختلت الموازين والأهداف؛ التي كانوا يأملون الوصول  إليها ، فتصبح الكتابة هناكرموز متعددة ومتنوعة الوجوه  للتعبير عن احساس اغتراب الذات الحاد ، أو الشكوك والحيرة من كل الأمور العارضة والطارئة التي نعيشها في الواقع ككل سواء كانت : في عالم واقعي موحش ، أو في عالمنا الخاص ، أو استعادة حياتنا من خلال الذكريات. كما أفصحت تلك المجموعة في عنوان من إحدى عناوينها الرمزية القوية المغزى ، والواسعة التأويلوالطرح.نموذج قصة ( شقوق الذكريات ). ( ولا عجب عندئذ أن تعرَّف الرمزية في الغالب بهذا التعريف الواسع : استخدام اللغة بوصفها وسيلة لإعادة اكتشاف وحدة الوجود بأسره في عالم الخيال وعالم الروح. إحدى مزايا هذا التعريف أنه يعيد للرمزية مكانها بين المظاهر الثابتة والمألوفة في التراث الغربي).(26)، واستيفاء هذا الطرح الرمزي ينكشف بوضوح وحضور إبداعي باعتبار أنها ( لغة هي رمز فحسب).(27).

كما في قصة (جذور).(28). الجذور: هي المعنى الواسع والأصيل لميلاد كل الكائنات الحية من بشر وحيوان ونبات. الجذورليست مجرد رمز عادي إنه رمز قوي فعال يوحي بالأصالة والقوة والحصانة. الجذور تعبر عن مسقط رأس أي شخص من بيئة اجتماعية وثقافية واقتصادية ، التي بها كانت نشأته الأولى وصباه وشبابه إلى مماته . فدائما ما تكون الجذور هي المرفأ الأخير لأي حياة ثابتة وراسخة ، ولها جذور مهما تاهت الدروب بالشخص. وتعرض في لحظة فارقة من حياته بالصدمة الحضارية باللقاء مع آخر مختلف عنه جذريا من جميع النواحي الحضارية ، وتوابع هذا الاختلاف والتلاقي في نفس اللحظة الآنية. بداية من أبسط التفاصيل من لون البشرة. مثل الصديقة الشقراء التي تعرف عليها  بطل القصة  أثناء غربته في بلد ما ، كما قلنا من قبل لاشئ معرف أو محدد. وبينما ذلك الشخص يحاول التماهي والامتزاج مع هذا الآخر الغريب عنه بتاتا في أهم العناصرالتي تربط البشر بجذور واحدة وهي : الدماء ، واللغة ، واللون ، لكن بطلنا يصارع ويكافح من أجل أن يمتزج ويتغلغل في مسام تلك الصديقة الشقراء المختلفة عنه تمامًا. خاصة أن لديه شعور قوي بالإنجذاب والإفتتان بها. تلك الصديقة الشقراء ذات البشرة البيضاء ، والشعر الأشقر، والعيون الخضراء أو الزرقاء. لم يتم تحديد الملامح بالضبط في القصة. لكننا نستقي من الطابع العام بوصف الصديقة الشقراء حتى نقترب من ملامحها. وهي تشده وتجذبه لحياتها المختلفة عن كل ما عاشه ،وشاهده من حياته الماضية في وطنه الأصلي. وبكل همة وحماس يتفاعل ، ويحاول القفز على الواقع الأصلي الذي أتى منه : ( ورغم أنه تحدث الإنجليزية ، جدل شعره كما يفعل ذو البشرة الداكنة ، حشر جسده في البنطلون الأزرق واضعا أساور على كلتا يديه، إلا أن عينيه الكحيلتين كانت كشعره الأسود تشيان بشرقيته ). لأنه ببساطة : ( لم يكن ينتمي إلى طين تلك الأرض التي وقف عليها ).والمكان الذي تدور داخله كل تلك التفاصيل هو صالون الحلاقة رمز التزين والتنميق ، وتصفيف الشعر، وعمل التسريحات ، والتقليعات الجديدة حسب الموضة ، والشكل المناسب مع رياح هذا البلد الغريبةوالجديدة عليه مع تلك الصديقة الشقراء. لكنه من داخله يشعر بالاغتراب الشديد. وتلك الصدمة الحضارية بثت فيه روح التشوش وهو يحاولأن يفهم الحقائق بشكل صحيح ؛ لأن الجذور تناديه من حين لآخر أن يعود إلى أصله ودماءه ، وهويته الأولى ، والجديرة بالعرفان ، والاحتفاظ ؛ حتى لو ذهب إلى مائة صالون حلاقة ، واستعار شكلا وهيئة غريبة عنه، لا تعبرعن جوانية هذه الروح المغتربة اغتراب حاد عن جذورها وسط مجتمع حديث وجديد عليه. وهو فيه ثمة شخص عابرغريب مشتت منهار من الداخل بسبب الافتعال والادعاء بغير ما تربى عليه ، ويعتقده ويفكر فيه.مهما تنمر وتذمر وارتدى ثوب لا يشبه روحه الأصيلة. وقد خذله الطريق بعد الخروج من الصالونأثناء سيره بمفرده ،( والحياة أكثر ضوضاء ، يلمح أمثال من يلمحهم في حياته الأولى ، وإن كانت على أجساد أخرين ). حاول بالسكر والشراب كما نصحته الصديقة الشقراء ، حتى يهدأ وينام وينسى حبه الدفين الذي هجره مع جذوره المنسية ، لكنه يتلاهى عنه بتلك الشقراء التي تخللت مسام جلده بالنقش من دماءه ودمائها في امتزاج غريب ومغترب في نفس الوقت ،ولا يستطيع أن يحقق الهدوء النفسي ، وامتنان الحب المرجو. وكل محاولات الهروب ،والركض وراء الأقنعة المزيفة. حتى جاء أخيه وأمسك بذراعه ينهره قائلا: ( هل جننت ؟ كيف ستعود لوطنك ويراك أهلك ؟ سيلعنك الجميع ، وستطاردك لعناتهم إلى الأبد! ).وبالفعل عاد إلى الوطن ، وقرر الفراق والهجر عن تلك الصديقة الشقراء ، وهو( يمسح الذكرياتبحلوها ومرها ). قائلة على لسان حاله: ( انسل لوني منه ؟ طمست ألواني الحمراء والزرقاء والصفراء من على سطح جلده). عاد وهو يظن أنه اقتلعها وأزال كل أثارها من جلده وحياته ، لكنها كانت قد ( تخللت نخاعه ، بل وتجذرت فيه من أقصاه إلى أقصاه ). هل من الممكن هنا أن نستحضر تاويل سميولوجي على قصة ( جذور) باعتبارها علامة ذو دلالة رمزية قوية تحت شعار أن ( اللغة هنا أصبحت رمز فحسب ).تعتمد على ( العلامة والمرجع ). فإذا كانت ( السميولوجيا ـ بوصفها علم الدلالة (semantics) ـ هي علم العلامات أو هي العلم الذي يدرس العلامات بما هي دوال signifiers))، فهي لا تتساءل عما تعنيه الكلمات بل عن الكيفية التي تؤدي بها المعنى) ـ ( وإدراك الأدب بوصفه تعبيرًا يتخذمن نفسه غاية ” ويسلط الضوء على الطريقة التي يعبر بها ” ( ياكوبسون). وبذلك تحررالخطاب النقدي من مهمة إعادة الصياغة التي كان هَمُّها الحفاظ على المعنى ).(29) ، نموذج قصة ( جذور ) التي تُجسد العلامة البارزة من بداية الحكاية عن شخص ما يحاول التآلف والامتزاج الكلي مع صديقته الشقراء. وهو يعيش حالة من التنازع والصراع النفسي بين عالمه الجديد والغريب عنه ، وجذوره تشكل حالة مؤسفة من التناقض العقلي والروحي ،ويمثل عنوان جذور علامة بارزة تكتفي بنفسها للتعبير عن كل شئ مع الملاحظة الجديرة بالذكر والاهتمام على مستوى المجموعة بأكملها ،أن لا يوجد معرف داخل القصة أيضا كباقي القصص سواء اسم أو مكان أو هوية أو زمان محدد ، فكلها تدور عن عوالم بلا أي أسماء أو تعريف ، ولا نصل لأي معلومة محددة عن أي شئ لأي شئ من الأدوات البنائية للقصة : سواء البطل المغترب ، الصديقة الشقراء، الأخ، الحبيبة ، الجذور، الوطن الأصلي  ، أو حتى الجديد كل شئ في حالة من الابهام والغموض إلى حد كبير.أنت فقط أمام شفرات برمز كبير أي ( رمز لغوي) هائل المعنى والقيمة المادية والمعنوية ، ولا تُخبرنا القصة غير بالمتاح عن تفاصيل لحظات تتفاعل فيها العناصر القصصية الأساسية من خلال تصورات داخلية نابعة من تفكير دائم في كيفية التعبيرلا غير، تحت مسمى القصة القصيرة والقصيرة جدًا ، وفي كلاالحالتين يلفهما الاختزال والتكثيف بعيدًا عن أي مكونات أخرى ؛ من مكان وزمان وأسماء. إنها أشبه ( ببلاغة العمى ). كما أشار دى مان. وهذا أيضًا لا يغفل العلامة والمرجع ، ودورهما الأساسي في تأويل تفكيكي سميولوجي. وهكذا دواليك في أغلب قصص المجموعة.فالبطل الحقيقي في تلك القصص هو النظرة الكونية للأمور، وتفاصيل الحياة لأي شخص في أي مكان أو زمان. هي ربما تحدث للعديد بدون تمييز الهوية أو الثقافة أو المعرفة ، إنه أشبهبعالم كولونيالي يشمل الجميع في تفكيك تفاصيله البسيطة من وجهة نظرنا، لكنها الهامة والمثيرة للتساؤل من وجهة نظرالفن. الذي هو تخيلات واستكشافات بنظرة ثاقبة ورؤية تخيلية ، فنص جذور مثل باقي القصص.نص قصصي معني بالرمز يجاورالنصوص الأخرى في وحدة تمثل وحدة الوجود دون اختلاف غيرميزة التنوع الحكائي، وانا اقصد هنا التمييز الشكلي ، وليس الداخلي الجواني من مضامين متنوعة ومختلفة من قصة لأخرى بالتأكيد.أن على العموم يظهر أي نص قصصي في تلك المجموعة، وهو يرمز ويرتبط بالعالم كليًا وأجمع لا تقيده أي مسميات داخل النصوص غير التوجه السميولوجي إذا جازلنا هذا الطرح الثقافي ، كرؤية عن أهمية مكاشفة وتقنين هذا الفن المعاصر داخل السردية القصصية. على الرغم أن هذا البطل أي كان مسماه ؛الذي يحيطه الابهام والغموض يصبح عنصر هام في تنوير اللقطة القصصية من مفردات حسية أولا حسية سواء المادية أوذات القيمة التأثيرية الروحية والنفسية على المتن السردي بوجه عام .تلك الثوابت والتي تتشكل حركتها مع محك إنساني مجهول الهوية والزمانية والمكانية ، تدور في فضاء واسع ،فتبدو أشبه بالكائنات الفضائية التي تهيم في سماء الإبداع والسرد الفضائي الواسع التأويل والرؤىلأشخاص وأشياء نكرة من وجهة نظرنا ؛ لأنهم بلا تعريف أو معرف موجه بأي خارطة طريق. لكنه في حقيقة الأمر غموض هادف يطرح رؤية إنسانية مطلقة ، فالكل في واحد هو الأكثر تعبيرًا وشموليًا وبقاءًا ونقاءًا. مستوحى من مأخذ سميولوجي مؤطر على حل هذا اللغز الرمزي المبهم . ولكن السؤال الأهم الآن ماهو مدى : ( قدرة السميولوجيا على فك هذا الغموض؟).(30)، ولو بقدر ما تطبيقا على تلك البتلات الإبداعية القصصية : ( فقد أوضحت السميولوجيا أن إدراك أبعاد اللغة الأدبية أمر تكتنفه صعوبة كبيرة حين ينقاد المرء بشكل غير نقدي إلى سلطة الإشارة. كما أماطت اللثام عن الكيفية التي تواصل بها هذه السلطة توكيد نفسها ، بدأب عبر عدد من حيل التنكر تبدأ من أشد أنواع الإيديولوجيا ابتذالا إلى أرقى أشكال الحكم الأخلاقي والجمالي. وتقلل السميولوجيا ، بصفة خاصة ، من شان أسطورة التجاوب الدلالي بين العلامة والمرجع ؛ ذلك الأمل التواق إلى امتلاك هذين السبيلين، أمل في الوجود ، بغرض إعادة صياغة ماركس  Marxفي الإيديولوجيا الألمانية ـGermanideology ـ ماركس الناقد الشكلاني في الصباح الأخلاقي الشيوعي في المساء. أمل تواق إلى الوفاء بكل من تقنية الشكل وجوهر المعنى).(31)، وكل هذا يؤدي بنا إلى محاولة لفك هذا اللغز السميولوجي أمام الطرح الدلالي بين العلامة والمرجع ، الذي يصبح هو ( الأمل التواق ).(لمحاولة الوفاء بقدر الإمكان بكل من تقنية الشكل وجوهر المعنى ). كما أشار المصدر السابق ذكره. مثال قصة جذور  التي تمثل علامة على جوهر المعنى بمدى أهمية الجذور في حياة أي شخص في أي بقعة من العالم، كمرجع للإفاقة من أي تلون أو ادعاء بما ليس أصيل ، والحفاظ على الهوية أي هوية لأي شخص في أي مكانوفي أي زمان ؛ تكمن جوهرالأصالة هي شغل الشاغل للفن ، والحب ، والحياة ، لتعزيزالقيمة الجوهرية، والإحتفاظبالجذر، والأصل لكي يتمم في تبادل بين الرابط الظاهري والداخلي  : ( وسيفترق النقد والأدب عند المحور الإبستيومولوجي الذي يمايز بين النحو والبلاغة ).(32)، وذلك لأن ( تمييز إبستيمولوجيا النحو من إبستيمولوجيا البلاغة مهمة جليلة).(33).داخل الدائرة الرئيسة ( العلامة sign والمرجع the referent) ـ ( ولا علامة دون مرجع ).(34)، وبذلك تعمل على ترسيخ المعنى واثبات الوجود الإنساني في كل بقاع العالم.ولذلك : ( حين أصف هذا اللغز السميولوجي بأنه ” بلاغي ” فإني بذلك أساير العُرْف العام ).(35)، وهو في نفس الوقت يتعدد ويتنوع في الدلالة  : (فتفتح إمكانات مدوخة من الضلال المرجعي referential aberration ).(36)، وتأتي هنا في قصة جذور بشكل تقني إبداعي ؛ لتفي بالجوهرداخل الحكي عن أهمية قيمته الذي يأتي من ( تجربة الذات ، والبنية البلاغية في الآن نفسه ).(37)، فلا علامة أيضا بدون بنية بلاغية ، ولا مرجع بدون تجربة ذاتية ، وإن حاولت السميولوجيا التقليل بصفة خاصة من شأن ( أسطورة التجاوب الدلالي بين العلامة والمرجع ). كما أشرنا في المقولة السابقة ، لكنه يظل ( الأمل التواق إلى امتلاك هذين السبيلين ). الذي يساوي المعنى الأكبر في امتلاكهما ، وهو الأمل في الوجود كاملاً ، والثبات على أرض صلبة.

إذاالحديث يتجه بنا إلى هذا التأويل السميولوجي الذي يدرس العلامات باعتبارها دوال تهتم فيما تستطيعة تلك الدلالات من كيفية تؤدي إلى المعنى المطلوب داخل السياق القصصي ، ومن ثم لن يشغلنا على الجانب الآخر عما تعنيه هذه الكلمات بالضبط. وإنما الحالات الإبداعية الاستعارية حيث : (استعراض استعارة الذات هذه ـ في تواليها ـ لنوع من التفكيك ؛ أقصد به تفكيك اللغويات النفسية تفكيكا بلاغيا ، وهو التفكيك الذي انشغلتْ به بحوث الأدب الأكثر تقدما ، استعداد لمقاومة جديرة بالاعتبار ).(38) ، كما يتضح في النماذج التالية : قصة ( مكرر).(39)، تحكي عن تكرار يوم عيد الميلاد ، والشمعة تنطفئ من نسيج عمره الذي يمر هباءًا وعبثًا ، وهو يستجدي روح صرخته مع لحظة انطفاء الشمعة التي أنارت الحياة منذ ميلاده. فالشمعة هي المعادل لجوهر معنى مكرر، ويتكرر حيث أن الشمعة في كل عيد ميلاد سوف تنطفئ ، وتحرق سنة جديدة تمر من العمر الذي يمر سريعًا ، إنها في ظاهرها فرحة عيد الميلاد بإنارة الشمعة عند منتصف الليل ، وإطفائها  في نهاية الدقيقة الأخيرة من يوم جديد بعد الميلاد ، الذي كان وراح في لحظته الماضية والحاضرة الآن. لكن هذه الفرحة الظاهرية. في داخلها صرخة اعتراض وتمرد على مرور العمر دون معنى ، دون هدف ، دون أمنيات. أو أمنيات لم تتحقق. في كلا الحالتين الشمعة إنطفأت وأحرقت العمر بكل قسوة ولا مبالاة وعبث.

 أيضًا قصة ( قمع).(40)، تعبر عن شدة قمع المشاعر ، وقمع الصوت وإسكاته. هذا التعنيف والقهر الجائر الذي يحدث للمرأة، قمعًا في مكنون أي وجود واضح لها ، ويرتبط بكينونتها إنها امرأة ، ولا بد أن تُقمع في المشاعر، والحديث حتى تخرس تماماً ، وليس من حقوق لها  ، ولو كان الحديث أبسط الحقوق لأي إنسان؛ التحدث أي إخراج أصوات، ولو حديث عابر، وسوف تقف عند أخر السطر وهي تهاب السقوط ، وتختبئ من لعنة العيب ، والحرام ، ولا يصح ، ولا يجوز. فصوت المرأة عورة بل كل شئ بها ينتج العورة ، والاختباء من أي محاولة تفعيله وجرأته عن الوضع القائم والثابت. ومن يحاولن منهن الخروج الأتية من العنوان الأم ( مخرج ). سيقابل بالقمع والتسلط والقطع.

قصة (عرج ).(41). تتمم سيفونية القهر والاستبداد البشري لأخيه الإنسان سواء كان رجل أو امرأة . كل سواء داخل الغابة البشرية. داخل عرج الحياة ، والادعاء بالظلم ، والافتراء الذي يواجهه هذا الإنسان المعذب الشقي في القصة ، وهو يقف في طابور التشرد ، ويُعتقل خلف القضبان الصدئة ، لأنه يثور من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. بينما يقابل كل هذا الكفاح والنضال بالضحك ، والاستهزاء من القاضي المتكبر المغرور، ويأمر بكل اجحاف ، ودم بارد أن يحبسه.

قصة ( نقص ).(42).عن الشعور بالنقص والحرمان والألم الذي يجعلنا نفتعل الابتسامة ، ونتحمل حتى نخفي الامتعاض ، والحزن ، والتعاسة ، والشقاء الذي يملأ جوارحنا ، والبطلة تجلس في زاوية المقهى ، وتطلب من النادل قهوة بسكر، والآخرين كالعادة يتلصصون عليها كنوع من الفضول ، ويظنون أنها فرحة وسعيدة بتلك الابتسامة الصفراء. بينما هي في الحقيقة تعيسة للغاية ، وتبكي بين ثنايا انفراج شفتيها.

 قصة ( لقطة ).(43).عن لقطة تشبه الكادر السينمائي تصور لقطات الخشوع والخضوع لرب الكعبة المباركة المشرفة ؛ ذلك المكان المقدس الذي يتمنى الجميع أن يذهبون إليه ، للحج وزيارة بيت الله ، ورغم أنه المكان الطاهر للإغتسال من الذنوب والتطهير. لكن طبيعة البشرلا تتغير حتى وهم يقفون بين يدي الله في بيته المبارك. عند الباب المعظم من الكعبة يظل الكِبر، والتفاخر يملأ البعض حتى في هذا المكان المقدس ، فمنهم من يبتسم بزهو ويتفاخر بعباءته ذات خيوط القصب المذهب، وعلى الجانب الآخر يوجد الأمين والمخلص الذي يخفض رأسه ابتهالًا ، وخشوعًا ،وخشية من وجه الله الواحد الأحد ، وهو يفكر ويتألم ويتأمل في عظم ذنوبه راجيًا التوبة ، والرحمة ، والغفران.

قصة ( جناح رقم ـ 19).(44).عن تلك الجائحة (كوفيد ـ 19). التي أصابت العالم ، ولا زال الجميع يعاني من آثارها المرضية ، والاقتصادية  ، والاجتماعية ، والمخاوف تتزايد مع تحور الفيروس بحيل جديدة إلى وقتنا الراهن. تعاني البطلة من أثار المرض الذي لا زال مجهولاً إلى الحد للتعافي منه ، والكل حول البطلة المريضة يرتدي ملابس بيضاء كالأشباح ، ومنذ أسابيع نقلتها الممرضة بتعال بغيض إلى جناح رقمـ 19 نسبة إلى كوفيد ـ 19 ، وكانت جميع الغرف ممتلئة بحالات مماثلة لحالتها الصحية سواء بالسئ أو الأسوأ. من حيث التداعيات الصحية ، بينما هي حرارتها مرتفعة ، وتغرق في هلع من غيبوبة الحمى والصداع يفتت رأسها نصفين ، ويهد جسدها فتعود بها إلى ذكريات الطفولة البائسة ، وهي واقفة في طابورالمدرسة تشعربالبؤس في إحدى الصباحات والأجواء الحارة ، تقف وحيدة تتناول شطيرة من الخبز، والفتيات يهمسن ، ويتضاحكن ، ويسخرن من ضفيرتها الهزيلة. ترفع رأسها إليهن ، وترتبك من وجوههن الناظرة لها بسخف واستهزاء، فتسقط الشطيرة تحت أرجلهن ويزداد الضحك ،فتهمس لها رفيقتها في أذنها : قاومي .. قاومي . وهذا التعالق بين كوفيد ـ 19وجناح رقم ـ19 ، ثم بين المدرسة والمستشفى عن تلك الذكريات السوداء بين الرقدة على سرير المرض في جناح رقم ـ 19 ، وبين شقائها في المدرسة مع تنمرواستخفاف زميلاتها في المدرسة من شخصها الهزيل وضفيرتها ، حتى أن إفطارها يسقط منها من شدة التلعثم والارتباك. ولا تشبع معدتها ، وتتعرض للحرمان من الراحة والشبع ، فتركض إلى الصف جائعة ، ويتكرر المشهد الأليم ، وهي في جناح (19). تعاني المرض ، ومظاهره الوخيمة من السعال اللئيم الذي يدك ضلوعها كمسامير تنخر صدرها ، وتختنق ، وتختنق من السعال . والممرضة تلقي لها بالدواء بحذر مريب خوفا من العدوى. والبطلة تتوسل إليها أن تتصل بزوجها ، وولدها اللذين أخبروا الممرضة أنهما لن  يحضرا، ومعهما عذرهما حتى لا تنتقل إليهما عدوى هذا الفيروس القاتل ، وجبروت المرض المقيت يركل بطنها بكل ما أوتي من قوة حتى تنزف وتنزف ، وتفقد جنينها للمرة الثانية على التوالي ، ويعود صوت الأمل يهمس مرة أخرى : قلت لك: قاومي .. قاومي . وهي تنهار أمام المرضبهزيمة نكراء ، وفقدان جنينها ، والطبيب يُصرح بأن مناعتها ضعيفة وآخر يجيبه : حالتها حرجة وهم ( يضعون المزيد من الأمصال وكمامة الأكسجين ، حتى تغيب في الحمى ). من الملاحظ أن جناح رقم ـ 19 هو المقابل المادي لوباء جائحة كورونا . يصور المشهد القصصي تلك اللحظات القاسية أثناء المعاناة من آلام المرض ، والبطلة تتعذب من فداحة الألم ، وهزيمة النفس ، والشعورالعالي بالانكسار أمام عصف المرض ، فتجزم البطلة قائلة على لسان حالها : (مر بي الموت مسرعًا ؛ لديه أرواح أخرى عليه أن يجتزها، وافتني نظرته العابسة .. عرفته وعرفني ، وغشاني شبحه الأسود ، واغتالني غموضه المفضي إلى حتمية الموت ، وبقسوته المتوحشة بسط على روحي المتهالكة سطوته ، هل بقي في ساعتي قليل من الدقائق لمكابدة النزاع ؟ ). ومرة ثالثة ورابعة … يأتيها طيف الرفيقة بوجهها الملائكي : قاومي .. قاومي . ولكن تحشرجت بقايا حروف في حنجرتها قائلة بيأس تام : ( كيف نقاوم ؟ كيف نقاوم ؟! ). وطبقا لهذه (المقاربة الدمانية ).(45) ، أو بمعنى أدق ( وفي هذه المغايرة يكمن اجمالا وجه الرمزية المزدوج ). كما أشار بول دى مان عن( نظام الشكل الأدبي والإبداع الرمزي ). حيث : ( تتركنا الرمزية إذن مع هذين الخيارين : عكوف مالارمه التنسكى العقيم على الوعي الذي ينبغي عليه أن يتعلم من مظهر انقسام الوجود غير القابل للتغيير إطلاقا ، وأن يجد في هذه المعرفة المقدرة على النمو والتطور ) ـ ( أو عند بودلير الخَطِر بأن الوحدة يمكن استعادتها رغم تيقنه من أنها مجرد صورة من صور الموت الفوري ).(46)، فالوحدة التي عاشتها البطلة وهي صغيرة في المدرسة ، هي نفسها الوحدة التي عاشتها ، وهي سيدة ناضجة في المستشفى ، ومرورها بتجربة المرض لحد الموت والشعور به ولو للحظات . كلها صور من صور الموت الفوري سواء كان وحدة، فقر، بؤس، مرض . ما هي إلا تمثلات لأشكال الموت الفوري كما أشار بودلير.

قصة ( ماريونيت ).(47).عن تلك العروسة المكبلة بالخيوط في اليدين والأرجل والعنق، وصاحبها يحركها كما يشاء بالتحكم في زمام الخيوط من جميع الأطراف ، ليلهو ويستمتع الأخرين بالفرجة على رقص الدمية الشقية؛ التي تتقن الدور، وتحب أداءه على الدوام ، فهو عملها وحياتها. لذلك بعد انتهاء العرض انسلت خيوط الدمية ، وتوقف دروها الحركي المثير للمشاهدة والمتعة بحركاتها المستوحاه من صاحب الدمية لذا : ( التفتت الدمية ببؤس ترجو صاحبها أن يعيد لف الخيوط على رقبتها ويبعث فيها الحياة ). فهي لا تستطيع الحياة بدون تحريك هذه الخيوط .

 قصة ( مارس ).(48).عندما تتحول الأحكام الفقهية إلى حالة من التطرف الديني والتعصب الشديد ،والأم برؤيتها الأحادية عن الحب والأمومة والعطاء الذي لا حدود له ، لا تعي أخطاء أبنائها الفادح الثمن ، وله آثار وخيمة عليها وعلى الأخرين ، ويرتّدون إلى طبيعة قاسية وفكر متعصب يرفض الحياة ، ويؤذي من حولهم حتى أقرب الناس إليهم بمشاعر مؤدلجة ؛ تحكمها الأحكام والشرائع المتطرفة ؛ التي تتعدى على حقوق البشر في العيش والمواطنة ، وتجرح مشاعر الأم المكلومة في أغلى ما لديها وقد: ( أفتى كبيرهم بتحريم الاحتفال بعيدها ). أي عيد الأم الذي يكون في شهر مارس ، فعنوان النص القصصي كان بمثابة عتبة الدخول ، واتمام المعنى المراد توصيله للمعرفة ، واستيفاء عناصرالحكاية التي اختزلت في عدة جمل. ولفظة مارس أصبحت جوهر سميولوجي أي علامة على مرجع الشخص المحكى عنه ( الأم ) ، كعلامة دالة على توضيح واتمام البناء القصصي داخل الحكي. فلفظة ( مارس ). هي اللغز السميولوجي الذي قام بافشاء السر وراءه. فتكشف الأمور عن معضلة ليست بالسهلة ، فالأمر كبير وسئ للغاية ، وقد أدت دور هام عندما يرفض فيه الأبناء الاحتفال بعيد الأم بعد انتشار التطرف ، والتعصب الفكري ، والديني بين الشباب ، وقد نال من فلذات أكبادها الذين حرموها من أجمل كلمة ، وأهم مناسبة تسعد بها أي أم في العالم بالاحتفال به. تلك الأم العظيمة التي ضحت بكل شئ من أجلهم ، وفي النهاية يتم الاقصاء والتهميش بنازع من الأنانية ، والانتهازية الفكرية ، وحرمانها من الاحتفال بعيد الأم ؛ الذي يكون التعبير الأمثل عن عظمة وجلال جميع هؤلاء الأمهات العظماء الأوفياء لعهد الأمومة والعطاء والحب المتفاني. ويتوالى دور الرمز الذي به يصبح( فعل اللغة الرمزي وحده). هو القادر على تحليل البنية الحكائية للقصص.هنا تنفرج المخرجات القصصية من خلال (لغة هي رمز فحسب). لغة بسيطة ، مركبة المعنى، واسعة التأويل. تمزج العالم المادي والروحي في (غابات من الرموز).(49)، مع توافر شروط هامة : من ملكة الخيال ، وتفعيل قدرة التخييل على سرد تفاصيل الواقع الموجع سواء : اقتصادي، اجتماعي ، ثقافي. برؤى معرفية ، ونشاط فني إبداعي يقظ حاضر في اللقطة القصصية. من كل قصة لأخرى سواء القصيرة ، أو القصيرة جدًا. وهذا بالتالي: (يُعّلِي من شأن الوعي الذهني المجرد من خلال فعل اللغة الرمزي وحده، والنغمة الحقيقية التي يستشعرها المرء جوهرا لهذا الموقف : الوطأة والعتامة، والثبات الأبدي، وكل ما يتناقض تقريبا مع ما تحققه معرفة ذاتية مثل ” الذكريات ” من شفافية متدفقة).(50). قصة (هجرة).(51). حيث هجرة العصافير كهجرة البشر التي تظل هائمة ، وحيدة ، ومغتربة حين تنفض الأشجار أوراقها وتمطر بشدة، فتعود العصافير لأوكارها منتوفة الريش ، مطرقة البال ، جياع وعطشى ). عدا عصفور انتصر على ريشه المنتوف ، وكسرة خاطره ، وهو يغرد فاتحًا صدره سعيدًا فرحًا لأنه عاد إلى الوطن .

قصة (شقوق الذاكرة).(52). الذاكرة دائما لها شقوق ، كالثغرات التي تنفتح على مسارات من الأسماء، والأحداث حينما تصطك الكلمات في الشفاة ، وتتساقط الأسماء من المخيلة ، والأفكار بيضاء خاوية تائهة في كل الأيام بدون معنى أو طعم للحياة. لكنها ليست مجرد شقوق عادية أو عابرة تمر مرور الكرام ، وينتهي أمرها سريعًا ، كتلك الشقوق التي يعاني منها الجميع دون اهتمام أو تركيز.الإجابة في هذه القصة بالذات بالنفي ـ لاـ إنها شقوق مختلفة ؛ لأنها في هذه القصة شقوق الذاكرة ذات المذاق الخاص مع حالة الزهايمرالمرضية المستعصية ، وبطل القصة يلاحقه الجميع ويراقبه ، وهو لا يتذكر من هُم ، وما الذي أتى بهم إليه حين يحرجه طفل بذلك السؤال المباغت : ( أتعرفني …! جدي … جدي … أنا خالد ، هل تتذكرني؟). لا شك أن الذاكرة المعتلة تنسى الأسماء ، والأحداث، والبشر الذين أحببانهم أو كرهناهم في أيام رحلتنا مع الحياة، لكن مشاعر، وأحاسيس من يحبونا لا تُنسى، ولا تفتك بها شقوق الذاكرة ، لأنها مشاعر حية نابضة تستمر مع من يُحب ويحب إلى نهاية العمر، وحين تنكفئ زوجته لتعقد له رباط الحذاء لتحميه من لسع الرخام لقدمه ، ورغم أنه لا يعرفها لكنه يعلم حقيقة ثابتة أنه يحبها كما تعرفه وتحبه كثيرًا. لأنه زوجها وحبها الأول والأخير، ورغم فيض هذه المشاعر الساكنة ، والدفينة بين الزوج المريض ، والزوجة المخلصة؛ تظل شقوق الذاكرة تعصف بكل الأوراق وتمزقها : ( لدقائق أزيح ستار غشاوة الكرب عن ناظري، تمضي دقائق في الفراغ الأبيض وأضيع مني، مرة تلو مرة ، ثم أعاود التساؤل والعبرة تتصاعد في صوتي .. أتساءل: ” ما اسمي … ؟!).

قصة (قطيع).(53). ذلك العالم الافتراضي الذي بات يشبه مرآة للعالم الواقعي الواسع بكل أطيافه المختلفة والمتشعبة ، بين الصحيح والخطأ كل على حسب. فبدا في القصة كالقطيع وهو ذاته العنوانالمكمل لمعنى القصة القصيرة جدًا؛ الذي يميز أغلب القصص كما أشرنا من قبل. فعتبة النص أصبحت تعبير مختزل وافرالمعنى ، ويمثل التعبيرالأمثل داخل الكيان القصصي، كشكل من أشكال البلاغة التركيبية للمعنى العام. وبطل عالمنا الافتراضي يتابع القراءة من مقال إلى مقال حتى استرعى انتباهه أحد المقالات ، فقرأه لآخر كلمة وأعجب بطرح كاتبه ، فأوشك أن يثبته في مفضلته: (حتى رأى تعليق أساتذته تحت المنشورفتراجع).

قصة ( لون ).(54).ألوان الكذب من الأبيض والأسود ، وكذلك الأحمر لون الحب كما تدعي زمرة كيوبيد . ولأن البطلة كانت تحبه تؤمن بكل كذبة  يتفوه بها ، وتظل تنظر إليه بمنتهى الدهشة والفرح دون تعليق. لكن في النهاية الكذب هو الكذب مهما طال أمره لا بد أن ينكشف ، ونفقد الثقة فيمن حولنا ، وفعلا عندما أغلق فمه دخلت في دوامة من البكاء . لأنها واجهت نفسها بالحقيقة والأوهام التي عاشت فيها ، والحسرة على الحب الذي أعطته إياه. إنها تبكي ليس من أجله بل من أجل نفسها ، من أجل الفرح الذي غادرته ، والدهشةعلى كل شئ جلب لها الونس ، والألفة ، والود ، وملأ قلبها بالبهجة والبسمة والفرحة المؤقتة ، ولو كانت كذب وخداع . حتى كانت النهاية الحتمية أن انفطر قلبها بالحزن والألم والبكاء.

قصة (عيد).(55). إن ظاهرة الحسد التي تخص النفوس المريضة ، لا تتوانى عن فعل أي شئ غير سد فجوة الغل والحقد والغباء ؛ الذي يملأ العقول والنفوس التي تشعر بالنقص. ومع تلك اليتيمة في قصتنا تمر بمأساة الحسد والغيرة من امرأة أخرى ، وقد رهنت مسبحة رمضانها الفائت.لكي ترتدي فستان تتجمل به أمام جارتها التي تحسدها على اليتم. مع أن الموقف مختلف مع الشخص السوي. أن يشعر نحو هذه اليتيمة بالحنو والشفقة ، لكن مع شخص حقود غبي لا يرى إلا سواد قلبه الدافع والنازع لكل تصوراته عن الآخرين. يراه حقد وحسد حتى في نهار العيد. هذه المناسبة التي يحاول الجميع أن يسعد ويهنأ بها حتى لو كان مريض ، يتيم ، فقير. أي من الأشكال الحياتيه المؤلمة لهم ولهن.التي قدر لهم  جميعا ان يعيشوها ويتكيفوا معها بالصبر والإيمان.فبهجة العيد تستدعي النشوة والتفاؤل ولو بقدر ما. وقد قام العنوان كالمعتاد بالتكفل بتتمة معنى القصة الذي وصل بنا للمضمون الفعلي من هذا الحقد والحسد من جارتها الحمقاء.

قصة (لا ظل لي).(56).تحكي عن الطفل سعيد الذي امتهن تلميع الأحذية في السادسة من عمره، والمارة كانوا ينادونه بماسح الأحذية. وجدته تضربه بالحذاء حتى تدمي رأسه كانتتطلق عليه “ياجزمة”. حينما يعود بنقود قليلة في المساء ،  لذلك فقد سعيد اسمه من تكرار نداءه سواء من العابرين المارة ، أو من نداء جدته يا” جزمة “. و صدفة سألته تلك السيدة الأنيقة أثناء مرورها من أمامه في الشارع: ما اسمك؟ لم يجب وهو جالس خلف صندوق الأحذية على الأرض مطاطئ الرأس، يراقب الأحذية التي تمر أمام  عينيه ، وهو يصيح بين الفينة والأخرى ” امسح حذاءك بريال “. سكن الخوف روحه البريئة مرتين، مرة من جدته عندما يحضر لها نقود قليلة ، ومرة عندما تعرض لتحرش بعض المراهقين المحتسين الخمر، واعتدوا عليه وسرقوا ماله. ومنذ تلك الحادثة وهو يتلعثم ويسقط مرارًا وتكرارًا عند عودته للبيت، والوحيدة التي انتبهت إليه تلك السيدة المترفة، وإلى ملامحه الطفولية ،والتقطت معه “سيلفي”، والجماهير التي تتابعها ظنوا أنها من حماة الإنسانية، وغردت على وسائل التواصل الاجتماعي: (أفق أيها العالم طفل لم يتجاوز التاسعة لا يلعب ، بل يمسح الأحذية ). حازت التغريدة مئات الآلاف من المعجبين ، ومع إعادة التغريدة على الصفحات الافتراضية الأخرى نالت الشهرة والتعاطف. وفتحت السيدة الغنية لسعيد باب الحظ ، وظهرت أمه التي تخلت عنه منذ أن كان عمره عامين، وأعادت تغريدة السيدة الشهيرة ، وأضافت صورتها مع سعيد، وعلقت: (حرموني منك ياولدي). وصار سعيد حديث المقاهي ، والجميع يهتم بأمره ، ووسائل الإعلام والأخبار وقنوات التلفزة تنافست من أجل من يستطيع أن يجلبه للشاشة ، فيراه الجمهور، ويحظى بشهرة وفوز كبير ، حتى ظهر في تلك القناة التلفازية بجانب السيدة ، وفورًا أطلق أحد المعجبين عليها شعار: ( حملة الطفولة المعذبة ). وتفاعل المغردون وهم ينادون بلافتات افتراضية ( أنقذوا الطفولة ، استغلال البراءة ، عمل الأطفال ). وظهر ماسح الأحذية ، وهو يرتدي قميص ناصع البياض وبنطلون أزرق ، وفي الخلفية صورته بحجم الشاشة مع تلك السيدة الغنية ، وهو يلبس قميصه القديم المتسخ. وقد سأله المذيع مباغتًا: (هل تلعب كما يلعب بقية الأطفال ؟ فرد سعيد بكل جراءة : ( أحب أن ألعب معهم ولكنهم يخافون أن تتسخ ملابسهم.), وبدأ المذيع يستقبل الهبات والاتصالات من فاعل خير، بعد انتشار المقطع على مجموعات التطبيقات لأصحابهم وعوائلهم. ويحاولوا أن يتعلموا الدرس من كفاح سعيد. وتفاعل معه أصحاب القلوب الرحيمة ، وحصد المذيع والسيدة الأنيقة على الكنوز الهابطة من مغارة علي بابا الافتراضية ، وخيوط الشبكة العنكبوتية الذهبية. وانتهى دور الطفل سعيد البرئ المسكين بعد استغلاله من محتالي العوالم الافتراضية : ( انتهى البث ، انقطع العرض ، أغلقت شاشات الأجهزة الذكية ، أخرج سعيد من الشاشة وعاد إلى حيث لا يرى أحدهم ظله ).

قصة (حراك).(57).الحراك يأتي من الفعل(يتحرك) أو ( تحرك ). أي الحركة والنشاطمن أجل فعل عمل بجد والتزام  يقوم به جمع من البشر فينشئ (حراك ). لإنجاز مطلب ما هام. لذلك هؤلاء النسوة تجمعن وتحركن رافعين لافتات بما يطلبن ويريدن تحقيقه على الفور دون عنف وبشكل سلمي. للتحرر من القيود والتمرد على القديم المكبل لذواتهن ، والذي بدأ في زمن القصة في  التسعينات عندما رفعن لافتة من أجل القيادة بمفردهن دون وصي ، وفي الحادي والعشرين حين صرخن الفتيات من اطلاق الأبواق ، وتحديات أكبر يريدن الحصول عليها. ورغم المظهر الخارجي بالتظاهر بالقوة والشجاعة ، إلا أن التجاعيد ارتعدت تحت الغطاء. فكل تمرد وكل جديد يحمل في جوفه الخوف من الفشل ، حتى لو كان ظاهره شجاعًا وجريئًا.

هكذا نجد أن النقد التفكيكي كما أشار ( ريتشارد رورتي ). في مقال ( التفكيك ـ النقد التفكيكي ).(58) (يبقى المقتطف الأتى من مقدمة ترجمة جايتري سبيفاك لكتاب دَريدا ـ وهي الترجمة المعنونة ب في علم انساق الكتابة on Grammatology  ـ أحد أفضل الطرق التي تصف الكيفية التي يقرأ بها التفكيكيون النصوص : في أثناء قيامنا بفك شفرة نص ما على نحو تقليدي، لو صادفنا كلمة يبدو أنها تضمر تناقضا لا يقبل الحل ، وبفضل وجود كلمة واحدة يبدو أنها تشتغل أحيانا في النص بكيفية معينة وأحيانا بكيفية أخرى ، ومن ثَّم تتجه بعيدا عن غياب معنى موحَّد . فإننا نمسك بتلكالكلمة. ولو بدا أن مجازا يطمس ما ينطوي عليه من تضمينات فسنمسك بهذا المجاز، وسنقتفي أثر مغامراته في النص ، فنرى النص في طريقه إلى أن ينحل من حيث هو بنية إخفاء كاشفا انتهاكه لنفسِه بنفسِه وكاشفا عدم قدرته على الحسم).(58).

قصة ( وفي).(59). الوفاء بمعناه المطلق للأفكار سواء للخير أو الشر مثال أصحاب الفكر المتعصب ، والأوفياء لأفكارهم ، وبها يحاربون العالم جميعا لكي يحققوا فكرتهم عن شكل العالم من خلال تصورهم الديني المتعصب والمتطرف. حتى لو كان خطأ ومعضلة كبيرة تعوق المسيرة الإنسانية عن التطور والتطلع ، لكنها في النهاية تنبثق من بذرة الوفاء والإخلاص. كما  استحضرفي تلك القصة التي تحكي عن فكرة الوفاء للعبودية ، وعنونت القصة باسم وصفي (وفي). تحمل الاسم والصفة في نفس الوقت للشخص الأمين ، لكنه للأسف وفي للعبودية والاستعباد في شخصه ، وقد ظل ملتصقا بظل صاحبه ، يلعق طرف حذائه حين حاول أول الأحرار كسر طوقه  قام هذا الوفي الخاضع للعبودية بعض يده. هكذا نلاحظ أن العنوان أصبح علامة فارقة لمرجع الشخص حسب التأويل السميولوجي ، فرجوع الشخص للعبودية والاستعباد ينبع من فكرتة الحصينة عن تصور الوفاء من وجهة نظره ، ويكون بعض يد الأحرار؛ الذين هم في حقيقة الأمر ينوون الخير في تحريره من عبوديته هذه ، لكنه وفي، ومخلص، ومؤمن بأفكاره الخاصة حتى لو كانت تقع تحت وطأة العبودية، والتحقير، والإذلال.

قصة (نقطة).(60). تتساقط الوعود والأقنعة والشعارات ويتضح السؤال الأتي: هلا مددت يدك للإمساك بهم؟! لكنه لا يستطيع ، وربما أيضا لا يصلح لأنه لسبب جوهري لم يعد يؤمن بالتشبث بالقش ، والهش حتى في الغرق، ففي كلا الحالتين لن ينجو، لأن الأساس مزيف ومدعي وكاذب. إنها أشبه بنقطة العودة إلى النفس الملامة ،واكتشاف الوجه الحقيقي من هؤلاء الكاذبين والمنافقين والانتهازيين.لقد كانت مسألة وقت حتى يعرف الحقيقة الكاملة ، ولن يعود أو يحاول التفكير بالإمساك بهم. لم يعد هناك وجاهة أو فائدة من كل ذلك لأن الأمور اتضحت ؛ أنهم مثل الرمال التي نغوص فيها بلا عودة ، أو رجاء ، أو أمل.

قصة ( عودة ).(61). بعد الحرب والخراب والدمار والتهجير. هل من الممكن العودة ..؟!  العودة إلى الوطن إلى منبع حقيقة وجودنا وميلادنا وذكرياتنا. لا بد أن يحدث هذا بعد الانتهاء من الحرب، وخرس القصف ، ولكن ماذا بعد ؟! بعد كل سنوات الحرب البشعة سيظل دوما السؤال المحوري الذي لن يمحيه أي عودة ، والأخت الصغيرة تتساءل : ( وهل سندفن توابيت أمي وأبي تحت حطام بيتنا ؟! ).

قصة (مقطوعة).(62). (على الكمان ضرب لها الأغنيات، غاب، أصيبت بالصمم ). سطر بكلمات معدودة يحكي حكاية البشرية مع الحب والفراق والرحيل المفجع للحبيبة؛ التي أحبت بكل كيانها صوته، وعزفه، وروحه، وتمنته حب حياتها، وزوجها ، ورفيقها في الحياة إلى الأبد. ولا يشاء القدر جمع الشمل، ويفترقا وتنهارالحبية من شعور الفقد، وهلاك الحب الضائع ، فتواجه يأسها ، وعدم تحملها غيابه أن أصيبت بالصمم ، لأنه لم يعد يعزف لها على كمانه. أغنيات الحب والهيام ، والهوى الرقيق ،والشجن .

قصة ( دهاليز).(63). دهاليز الأحزان التي تتراكم من الطفولة في مشوارالحياة ، ويشوبها العذاب، والقسوة التي يعيشها البنت والولد مع أب قاسي ومتهور، يستيقظان وينامان على الصراخ والزعيق أثناء ضربه، وتعنيف أمهما وسط مسمع ومرأى كل من يجاورهم في الدهليز. الذي يفرق بين الشقق بحواجز قليلة. الذي تقطن به هذه الأسرة المنكوبة بوجود هذا الأب الظالم العنيف القاسي الطائش، ورغم أنها طفلة لا تتجاوز السبعة أعوام إلا أنها تتقن دور الأمومة، وهي تتشبث بأخيها ، وتحوطه، وتحتضنه حتى تحميه من قسوة أبيهاالمفتري. بينما الأم في الطرف الآخرمن الدهليز تجثو على الأرض، وهي تتلقى الصفعات، والأب المجرم يسحبها من شعرها ليلقي بها خارج باب الدار في نهايتة ، ومن ذاك الدهليز يتحول المكان إلى عقدة تلازم الطفلة حين تكبر، ويكبر معها أصوات الصراخ المختزن في الذاكرة إلى الحد الذي يصم أذنيها. وصراخ نسوة في الدهاليز، بل كل الدهاليز يصبح بالنسبة لها مكان مشؤوم. يُذكرها بالآلام والعذابات التي عاشتها داخل تلك الدهاليز المشؤومة ، من دهاليز الجيران وجيران الجيران. ( فتختبئ مذعورة من أصواتهن التي تحاصرها في ركن الدهليز ).

 قصة (ذكور).(64) فرض الذكورية والتسلط والجبروت على المرأة ، لمجرد أنهم لمحوا تلك الفتاة الرقيقة الجميلة تترنم بالغناء بصوت عذب ، لكنهم غلاظ القلب لا رحمة ،ولا إنسانية في قلوبهم المتحجرة، وعقولهم المتخلفة، وبكل خسة ، ونذالة ، ووحشية قصوا حنجرتها، وكتموا صوتها، وسحقوها ، ودمروا حياتها، ثم عادوا ليبكون حسرةً وندمًا. ولكن ما فائدة اللبن المسكوب بعد انفلاته، وانتهاء الفائدة منه. هل يعود ما كان في الوعاء، حتى نستطيع أن نستفيد منه ؟! إنه العبث ذات نفسه، فهناك أمور لا تعود مطلقًا ، كالزجاج المكسور والروح المقتولة  ، كتلك الفتاة الجميلة التي ذبحوا صوتها الجميل. ولا ينفع ندم العالم كله أو تحسر هؤلاء الحثالة الذكورالأغبياء ، والسفهاء والمعدومي الإنسانية والرحمة.

من الخصائص الافتة هنا للانتباه في السميولوجيا الأدبية ـ كما تمارس حاليا في فرنسا وبلدان أخرى ـ استخدام البنيات النحوية structure grammatical ( وبصفة خاصة التركيبية  syntactical منها ، بكيفية تجمعها بالبنيات البلاغية  rhetorical structures  دون وعي واضح بالتناقض الممكن بينهما. ففي التحليلات الأدبية عند بارت وجينيت وتودوروف وجريماس وأتباعهم، نجدهم يبسطون مبادئ ياكوبسون ثم يتراجعون عنها، حين يجعلون النحو grammar والبلاغة   rhetoricيقومان بدور يرتبط فيه أحدهما بالآخر ارتباطا وثيقا ، بما يمكنهم من الانتقال من البنيات النحوية إلى البنيات البلاغية دون أدنى صعوبة أو عائق. والحق أن دراسة البنيات النحوية قد تطورت في النظريات المعاصرة المتعلقة بالنحو التوليدي  generative  والتحويلي  transformative  والتداولي distributive ، بكيفية جعلت من دراسة المجازات tropes  والصور البلاغية figures ( وهو ما أقصده من مصطلح البلاغة  rhetoricفي استخدامي له هنا؛ إذ لاأعنى به المعنى المستمد من فن التعليق comment  أو فن الفصاحة eloquence  أو فن الاقناع persuasion) توسعا في حدود النماذج النحوية  grammatical models  والعلاقات التركيبية المتسلسلة تسلسلا داخليا subset  مستقلا.في موسوعة علوم اللغة). أيضا لا بد أن نستشهد بما ذكره دكرووتودوروف (أن البلاغة كانت وفية على الدوام بالرؤية الاستبداليةparadigmatic view للكلمات (إحلال الكلمات بعضها محل بعض)، دون اختبار علاقاتها التركيبية syntagmatic  (ترابط أو تماسّ، الكلمات واتصالها بعضها ببعض  contiguity ). ولابد من وجود منظور آخر ، يتمم الأول، لا يتم بمقتضاه تعريف الاستعارة مثلا بأنها استبدال بل تعَّرفُ بأنها نمط خاص من التضامُّ  combination وقد بدأ البحث الذي يستلهم اللغويات ، أو على نحو أدق ، يستلهم دراسات التركيب   syntactical  studies في الكشف عن هذا الإمكان ، بل ويظل هذا الإمكان قابلا لسبر أغواره).(65).

 إذا على هذا الأساس: ( توضح إحدى الدراسات الحديثة ـ المنشورة في ااا figures عنوانها الاستعارة والكناية عند بروست  metaphor and metonymy in proust ـ الحضورالتزامني الذي يضم الصور البلاغية الاستعارية الاستبدالية إلى البنيات الكنانية التركيبية، من خلال شواهد متنوعة منتقاه بعناية ومهارة. وتعالج هذه الدراسة التضامَّ  combinationبينهما بشكل وصفي غير جدلي لا يأخذ في حسبانه إمكان التوترات المنطقية).(66). ويتوالى التطبيق على النماذج التالية: قصة ( رتوش ).(67). المرأة التي هي محور الكون تتشكل في العديد من قصص المجموعة بتأول سميولوجي تفكيكي. نموذج قصة رتوش ، وغيرها عندما تشتكي أمام طبيب التجميل عن عوج إغرائها ، وعرج مؤهلاتها ، فتجملت لكي تُغير من هيئتها حتى صدقت الكذبة الكبيرة أن هذا جمالها الفعلي ، بينما هو تجميل ووجه كاذب، وملفق عندما  قام طبيب التجميل بنفخ شفتها بطن رغبة، وخرم سرتها بفص مجون، وعلق في أذنها قرط شهوة ، فأخذها الغرور والعجرفة داخل محيط من الكذب أدى في النهاية إلى انتحارها، وذلك لأنها واجهت شكلها المعسول والمجمل بطريقة مبالغ فيها، فتصورت أنها جميلة حقا ، وصدقت المرايا المخادعة.

قصة ( قضبان ).(68). عن العنوسة التي تداهم الفتيات بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية ، والاجتماعية ، والأيام تمضي ، وهي تكحل عينيها بالأسود في انتظار فارس الأحلام . ويمر العمر بين عينيها المكحولة بالأسود. فلا تنتبه للقطار الذي فات ، ودهس عمرها ، وسنوات العزة والشباب ، والأنوثة تأفل ، وتغادرها إلى الأبد.

قصة ( مقامرة ).(69).تلك المقامرة من أجل العوز، والاحتياج ، وفك الكرب ، بأن تنازلت عن أخر ورقة من العفة والشرف حين انكسر كعب حيائها ،ودُهسأحمر شفتيها ، وهي تعبر زقاق العوز والحرمان،وتقابل شيطان الشهوة المحرمة من أجل أن تعيش وتسد الرمق ،ولو بفقدان عفتها ، وكرامتها المصون.

قصة ( نفاق ).(70).النفاق هو الابتسام أمام الشخص ، ومن خلفه تكون الصفعات المخذلة ، والمخيبة ، والبطل هنا يعطيها وردة وابتسامة ، ويتحرش بأخرى ، وأخرى ، وعندما يتولى إلى أخته يحجب وجهها بصفعة موغلة عن العفاف المدعى ، وهو شخص منافق ما يفعله مع الأخريات ، لا يفعله مع أخته ، بوجهه المتجهم والقاسي في معاملته معها ، بحجة الاحترام والشرف الذي لا يعرف عنه شئ مع الأخريات منهن.

 قصة (هدير).(71).عن السيدة ميم والسيد ميم الذي ظل يكيل لها اللعنات ، وتوالي الصفعات على وجهها ، والشتائم منذ أول شهر من زواجه بها ، وقد ورث جينات الضرب عن أبيه الذي اعتاد أن يفعل ذلك مع أمه على مرمى من ناظريه. والزوجة المسكينة لم تتحمل حتى أصيبت بالصمم ، وقد أجادت الصمت مع مضي السنوات ، وأصبحت كل الأحاديث بالنسبة لها صامتة وميتة ؛ حتى وهو يهمس لضرتها عن سخريته منها ، وهي تقوم على خدمتهما ، والشخص الوحيد الذي يبقيها على الحياة هو طفلها الوحيد الذي عاد من المدرسة . ثم فتح المصحف وقرأ ، وقرأ وبين كل آية ، وآية كان ينظر إليها ، كما حلمت به قبل أن يأتي إلى الحياة ، وهو يقرأ القرآن ، وسعيدة وفخورة به ، رغم أنها لا تسمع تلاوته. لكن حلمها تحقق بعد أن أصابها الصمم من هذا الزوج الفاجر الظالم من كثرة الضرب ، وصفيق كلتا يديه على أذنيها.وقد أصبح عالم الصم أوسع رحمة لها ، وانهمر الدمع يغسل وجهها تبكي بحرقة ، ويديها تتلمس أذنيها بحسرة تحاول بها أن تسمع تلاوة فلذة كبدها : (تستجدي سماع ترتيل القارئ الصغير ولكن دون جدوى ).

قصة ( طُعم ).(72). في الليل يبحث عن طُعم جديد يصطاط به الفراشات العمياء ، وهو يتهادى في البحث عن شريعة الهائمين. ليملأ فراغ روحه قبل وقته. وفي الفجر يتهادى مرة أخرى في صفوف المصلين . وهو في الحالتين شخص غبي تافه.منافق لأنه يعتقد أن هذا هو الإيمان الصح.

قصة ( بؤبؤ).(73).العيون التي هي أفضل تعبير في وجه المرأة بشكل خاص ، وتوضح ما بداخلها من لمعة وبريق في هذا البؤبؤ الواضح والامع : ( كان كل ما في المرايا يتشظى ، عدا عينيها ).

 قصة ( رائحة الجنة ).(74).التي هي جنة الأمومة ، وتنهال الذكريات مع أمها. عندما كانت البطلة في عامها الثامن ، وله ذكرى خاصة لديها أنه رمضانها الثامن ؛ الذي كانت تتدرب فيه على الصوم والصبر، بينما الأم بعد صلاة العصر تصنع من خيوط الدقيق رقائق البهجة. أي الطبق المفضل لأولادها في شهر رمضان المبارك، وبطلة الحكاية تجلس بالقرب منها تنسج مع الأم من الخليط فطائر محلاه بالسكر، والهيل ، والسمن البلدي. أمام الموقد دون استخدام ( البوتجاز). تصنع  اللحوح، وتعلل الأم هذا الإصرارعلى استخدام الموقد؛ أن لازم يتحمر بهذه الطريقة لأن أطفالها يحبونه هكذا. فطيرة تلو فطيرة حتى تحترق أصابعها مع كل فطيرة، يلسعها طرف الموقد في يديها ومرفقها، لا تشكو، تساعدها الابنة ، تضع السمن على رقائق اللحوح. والآن بعد أن أصبحت امرأة ناضجة تتذكر كل تفاصيل وجع أمها في الماضي ، ويغيب عنها وجهها الصبوح في شبابها قائلة على لسان حالها بسرد مطعم بفتنة الحنين ، والمرارة الحلوة رغم وجعها، لأنها تتذكر ماضيها مع أمها العظيمة ، وأيضا تبكي لأنها رحلت ، وأخذت معها كل الأيام الحلوة التي عاشتها داخل جنتها ، ولم يبقى منها غير تلك الرائحة الذكية العطرة ؛التي تجعلها تبكي وتتوجع من ألم الفراق والشوق ، والنوستالجيا الموجعة ، وهي لا زالت تتذكر و تشم تلك الرائحة ؛ التي تغوص في كامل روحها ، وتفضفض بالذكريات الحلوة الباقية إلى أن تموت هي الأخرى ، وتجاور هذه العظيمة كما ذكرت في بدء المجموعة فيالإهداء : ( أمي لم تمت ، هي تعد لي في الجنة متكأ ، تنتظرني لتكمل أحاديث لم تنته بعد. رحمك الله أمي ..  صبحة ). وتنتهي المجموعة بقصة ( رائحة الجنة ). لتؤكد على بقاء روحها النقية الطاهرة في وجدانها مهما مرت الأيام ، وأنها لم تغب، ولم ترحل ، وإنما هي مسألة وقت تنتظرها ، من أجل أنتعود إليها في الجنة ، وتكمل الأحاديث بينهما قائلة: (فطيرة تلو فطيرة ، تحترق أصابعها مع كل فطيرة ، يلسعها طرف الموقد في يديها ومرفقها ، لا تشكو، أساعدها ، أضع السمن والهيل على رقائق اللحوح. أذكر كل تفاصيل وجع أمي ،يغيب وجهها في شبابها عني، يتوه مني في متاهات الذاكرة ، ضاع وجهها ، بقيت رائحة الجنة ، رائحة أمي ).

 في النهاية هل من الممكن أن نأتي بهذا الادعاء الأخير ؟! أن هذا لا يعني أنه لم يكن هناك بعض الشفرات التي كانت مستعصية على الفك ، وهذا طبقا للتفكيكية لا يعيب النصوص أو ينقص من مقدرة الاستدعاءات الإبداعية بوجه عام نماذج : طالح ، 180 درجة ، مقبرة ، جاثوم ، تراب ، كليم ، ثقب ، جراثيم ، قيامة ، فضيحة، صراع ، حدث ، كِبر ، ندوب ، صيت ، متأوِل ). وإنما الإشكالية تحتاج ربماقدر من التركيز العال لاستخراج تأويل تفكيكي يلائم البنية البلاغية والتركيبية لأنه كما أشار ( بول دى مان ) : ( من ناحية،لا يمكننا التسليم بأن الأدب وحدة متناهية تنطوي على معنى إشاري وكفى ؛ وحدة يمكن لنا فك شفرتها دون أن يتبقى منها شئ يستعصي على الفك. إن الشفرة بارزة ومركبة وغامضة على نحو غير عادي ؛ فهي تلفت انتباها عاليا إلى نفسها ، ويتطلب هذه الانتباه منهجا صارما . إذ لا يمكننا، بحال من الأحوال ، تجنب لحظة التركيز البنيوي على شفرة لا تنى تشير إلى نفسها ؛ فالأدب ينتج بالضرورة شكليته . ولا تنشاَّ الابتكارات التقنية في دروس الأدب منهجيا إلا حين يهيمن هذا النوع من الانتباه ).(75) ، فعندما تتوحد ملكة الخيال مع الفعل تحت وقع الاختزال والتكثيف. لا بد أن يحتاج الأمر برمته إلى قراءة واعية، وتمعن دقيق بكل مفردة بلاغية أوتركيبية ما دام الإيمان موجود بهذه الكيانات الفضائية التي تسقط علينا من سماء إبداعي في وحدة متجانسة. فرضت حضورها سواء كانت استعارية أو كنانية . بمعنى أن تصبح : ( لغة يسّمى بها الإنسانُ نفسِه ويحوّلها ).(76) ، إلى إبداع ينطلق من بلاغة نهج سميولوجي ذات علامة ومرجع للشخص داخل ( غابات من الرموز ). كما ذكرنا في بدء القراءة.ولأنها غابات من الرموز كلماالتفتنا رأينا الغريب والمستعصي على الفهم ، ولو بقدر ما مثل تلك النماذج: جاثوم ، طالح ، جراثيم ، وغيرها مما ذكر في سابق القول مباشرة.إذا لا بد أن نتساءل إلى ماذا تشير هذا القصص بالضبط ؟ ولكن هل هذا أيضًا معناه أنها لا تؤدي وظيفة إبداعية خالصة داخل السياق القصصي. بالطبع لا ، وإنما المسألة ربما تحتاج إلى تفهم وتركيز وانتباه ، وهذا الانتباه يحتاج إلى منهج صارم كما أشار ( دى مان ). لأنها تلفت انتباهًا عاليًا إلى نفسها ، وذاتيتها بشكل كبير. ويتحدث بودلير عن : الوحدة المظلمة العميقة التي يمضي فيها الإنسان عبر ” غابات من الرموز “. وفي مواضع أخرى من نثره يصوغ الإيمان نفسه بأن ” الله قد جعل العالم كلا مركبا ، إلا أنه كل منقسم على نفسه ” . وفي مقاله عن هوجو Hugo يقول : إن كل شئ ، الشكل والحركة والعدد واللون والرائحة ، سواء في العالم المادي أو في العالم الروحي ـ دوال يتبادل بعضُها مكانَ بعض وتتحدث مع بعضها للبعض وتتجاوب فيما بينها … نحن نعرف أن الرموز مبهمة نسبيا فحسب ، وإذا جاز التعبير تنسجم الرموز مع نقاء الرؤية أو وضوحها الفطري. أو قابلية التجاوب لدى كل روح فردية .فما الشاعر… بل ما المترجم ، ومن الذي يفك الشفرة ؟ عند كل الشعراء البارزين تكون الاستعارات أو التشبيهات أو النعوت دقيقة بشكل رياضى ، وتتناسب مع ظرف محدد، لأن هذه الاستعارات والتشبيهات والنعوت تنبع من المعيار الكوني الذي لا ينضب معينه ، ولا تنبع من شئ سواه ). (ص133: 2 ).(77).

لا يسعنا في نهاية القول غير أن نؤكد على ما سبق الإشارة إليه بتلك الفقرة لريتشارد رورتى : ( ليس التفكيك مجرد سياق اختياري وإنما هو طريقة للوصول إلى ما يحدث فعليا . يأخذك التفكيك إلى داخل النص ، على نحو لا يفعله النقد الماركسى أو الفرويدى ).(78) ، وأيضا : ( ومن المهم أيضا تمييز قراءات النص من النص نفسه ).On Deconstruction..( وللحفاظ على هذا التمييز يضطر ( جوناثان كلر ) إلى الزعم بأن النص يستطيع ” هدم ” القراءات السابقة ” من خلال قوة عناصره الهامشية ).(79) ، وطبقا لما أتيح لنا من التأويل التفكيكي. قد قامت تلك المجموعة القصصية سواء القصيرة والقصيرة جدًا بتمجيد الهامش ، واستكشاف التفاصيل الصغيرة بتحول هذه الألغاز السميولوجية إلى أشكال بلاغية ، وتركيبات استعارية في ( إمكانات مدوخة من الضلال المرجعي ).referential aberration . بين : (العلامة  the sign والمرجع the referent ). ولا علامة دون مرجع داخل أيقونات رمزية تحتفي ب ( الضلال المرجعي أو بلاغة العمى ). كما أطلق عليه ( بول دى مان ). ف ( مهما بدا عقيما ، هو بالنسبة لنا طريق الحقيقة ).(80).

هوامش القراءة :

  • ـ انظر المصدر : جاك دَريدا ، بول دى مان ، وآخرون / مداخل إلى التفكيك. ( البلاغة المعاصرة ) ـ تحرير وترجمة/ د. حسام نايل / تصدير/د. محمد بدوي. القاهرة ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب 2012م. ص 10.
  • انظر المرجع السابق : ص 140ـ 160.
  • نفسه : ص27.
  • نفسه : ص 23.
  • نفسه : ص162ـ 187.
  • نفسه : ص 188ـ 238.
  • نفسه : ص 391.
  • نفسه : ص 22.
  • مخرج : ص 9ـ 12.
  • مخرج : ص10.
  • مخرج : ص 13.
  • مخرج : ص 14.
  • مخرج : ص 15.
  • مخرج : ص16.
  • المرجع السابق : ص22.
  • مخرج : ص 17ـ 18.
  • المرجع السابق : ص 27.
  • نفسه : ص 27ـ 28.
  • نفسه : ص 28.
  • مخرج : ص 16.
  • مخرج : ص 20.
  • مخرج : ص 21.
  • مخرج : ص 22.
  • المرجع السابق : ص 144ـ 145. هامش داخلي (7) : ستيفن مالارمه ،” الموسيقى والحروف ” ، ضمن  الأعمال الكاملة ، تحرير هنرى موندر وج. جان أوبرى ، ( باريس : بالياد ، 1943) ، 645 ، الترجمة ل دى مان ، وستظهر الإشارات إلى الاعمال الكاملة فى متن المقال. هامش داخلي (8) : (هامش نايل ) : ويمكن أن نمثل لهذا الإيمان المزدوج الذى يرقى إلى درجة العقيدة الأدبية بأعمال إدوار الخراط ،ففي عمله نلحظ ازدواجا يصمم البنية السردية بكاملها ، يتيحه قِرانُ دائمُ ” بين شك شيطاني ووَعْد لاهوتى بالخلاص. ولعل هذا الازدواج الذي يتحكم في عمليات إنتاج المعنى والحضور والحقيقة في نصه هو ما يمنح كينونة الواحد الأحد ( من حيث هي غاية أدبه ) بنية مقسومة على نفسها باستمرار بحكم ضلال ذاتى تشتغل بمقتضاه عمليات الإنتاج السالفة ، الامر الذى يجعل من نصه نموذجا على الأدب حين يفكك نفسَه بنفسِه. وقد توفرتُ على

على دراسة عمله من هذه الزاوية في كتابي ” أرشيف النص: درس في البصيرة الضالة ” ( سوريا ، دار الحوار ، الطبعة الأولى 2006).  

  • نفسه : ص 145.
  • نفسه : ص 147ـ 148.
  • نفسه : 145.
  • مخرج : ص 23ـ 26.
  • المرجع السابق : ص 167.
  • نفسه : ص 167.
  • نفسه : ص 167.
  • نفسه : ص 182.
  • نفسه : ص 170.
  • نفسه : 174ـ 176.
  • نفسه : ص 173.
  • نفسه : ص 174.
  • نفسه : ص 177.
  • نفسه : 184.
  • مخرج : ص 27.
  • مخرج : ص 28.
  • مخرج : ص 29.
  • مخرج : ص 30.
  • مخرج : ص 31.
  • مخرج : ص 32ـ 35.
  • المرجع السابق : ص 391.
  • نفسه : ص 155 ـ 156.
  • مخرج : ص 37.
  • مخرج : ص 38.
  • المرجع السابق : ص 145 ـ 146.
  • نفسه : 146.
  • مخرج : ص 39.
  • مخرج : ص 41ـ 42.
  • مخرج : ص 43.
  • مخرج : ص 46.
  • مخرج : ص 47.
  • مخرج : ص 48 ـ 54.
  • مخرج : ص 55.
  • المرجع السابق : ص 388.( Derrda on) ( Grammatology p ixxv)
  • مخرج : ص 57.
  • مخرج : ص 61.
  • مخرج : ص 62.
  • مخرج : ص 72.
  • مخرج : ص 75ـ 76.
  • مخرج : ص 80.
  • المرجع السابق : ص 168.(Dictionnaire encyclopedique des science  du Langage)
  • نفسه : ص 169.
  • مخرج : ص 84.
  • مخرج : ص 85.
  • مخرج : 86.
  • مخرج : ص 87.
  • مخرج : ص 88 ـ 90.
  • مخرج : ص 93.
  • مخرج : ص 97.
  • مخرج : ص 99 ـ 100.
  • المرجع السابق : ص 165.
  • نفسه : ص 184.
  • نفسه : ص 146ـ 147.
  • نفسه : ص 395 ـ 396.
  • نفسه : ص 396. (( pp 214_ 5
  • نفسه : ص 157.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى