الصحابة وكارهو الصحابة

د. خضر محجز | فلسطين

“الصحابي هو من رأى رسول الله مسلماً ومات على ذلك”. ذلكم هو تعريف الصحابي في منظور أهل الحديث.

ولا أرى إمكان الحصول على تعريف للصحابي أفضل من ذلك. لأن كل تعريف غيره سيوقعنا في استثناءات أكثر مما نرغب فيها داخل هذا التعريف.

والحق أنه قد أُريد دوماً لكل تعريف أن يكون جامعاً مانعاً. لكن ذلك لم يحدث دائماً، لأنك في وصفك للبشر، لا تستطيع أن تضعهم جميعهم في حزمة واحدة، لا يشذ منها شخص أو أكثر بقليل.

ورغم ذلك يبقى التعريف صالحاً، لدى العقلاء فقط.

وانطلاقاً من هذا التأسيس أقول:

نعم، كل من رأى رسول الله مسلماً ومات على ذلك، هو صحابي. لكن هناك شذوذا يستدعي التنويه، ولا يزلزل التعريف: فقد وُجد من الناس من رأى رسول الله مسلماً ومات مسلماً ثم كان طريداً لرسول الله، منفياً لسوء عمله، مثل الحكم بن أبي العاص.

ولقد وُجد من الناس من رأى رسول الله مسلماً ومات مسلماً ثم وصفه القرآن بالفسق، وصلى بالناس مخموراً بعد ذلك، ولم أر أحداً من السابقين سماه صحابياً، مثل الوليد بن عقبة.

وقد وُجد من الناس من رأى رسول الله مسلماً ومات مسلماً ثم قتل حمزة عم رسول الله في أحد، ولم يجرؤ أحد على تسميته صحابياً مثل وحشي بن حرب.

وهكذا نرى للتعريف شذوذا لا يمنع من صحته.

وقد اختار أهل الحديث هذا التعريف، لا كحكم أخلاقي، بل كحكم ضابط لمن يستقبلون عنه رواية ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لقد عرّفوا الصحابي بذلك، مع علمهم بأن آحاداً منهم قد وقعوا في بعض الورطات الأخلاقية. لكنهم علموا أن أياً من هذه الندرة من الآحاد المتورطة، لم يكن من الممكن له أن يتورط في الكذب على رسول الله فيما ينقل عنه مما سمع: ذلك أنهم ـ في المجموع العام ـ الجيل الأفضل، وخير أمة أُخرجت للناس، بنص القرآن. فمن شك أنهم خير الأجيال، خالف صريح القرآن، وحُق عليه حكم من يفعل ذلك، والعياذ بالله من سوء المصير.

ورغم ذلك، فلا يمكن تقديسهم أبداً، ولا تنزيههم جميعهم عن المعاصي. ذلك انهم بشر، لكنهم بشر قديسون لا غير، وليسوا ملائكة.

وعوداً على نقلنا تعريف أهل الحديث للصحابي، بأنه: “الصحابي هو من رأى رسول الله مسلماً ومات على ذلك”؛ نقول بأن هذا التعريف هو إنشاء لغوي لساني محض، وليس ضابطاً يجمع المتشابهين في كل شيء. فهو تعريف محصور في مفهوم أهل الحديث، لضبط من يمكن قبول روايته عن رسول الله:

فنحن نقبل رواية أبي بكر وعمر وعلي وعثمان وأبي هريرة وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، كلهم عن رسول الله، ثم قد لا نقبل ببعض ما قالوا من أكياسهم الخاصة، ولا نجعلهم في ميزان أخلاقي واحد.

وعلى سبيل المثال نحن نؤيد عمر في عزله خالداً، ولا نؤيد معاوية في خروجه على علي، ونقف على النقيض من موقف المغيرة وعمرو بن العاص من علي بن أبي طالب، ونقبل عزل عمر لأبي هريرة من إمارة البحرين وجلده إياه… إلخ إلخ إلخ.

فالضابط في هذا أن نقبل روايتهم عن رسول الله، لأنهم مهما أخطاوا أو عصوا، فلن يكفروا بالكذب على رسول الله.

كل هذه المقدمات كانت ضرورية، لتوضيح ما وقع فيه فيديو يسمى بـ”كباريه الصحابة” أرسله لي بعض الأخوة الأعزاء، يقتص فيه صانعه من كلام بعض الدعاة الطيبين، اقتصاصاً يخرج به عن سياقه، على طريقة “ولا تقربوا الصلاة” وفيه يتعرض أحدهم للوليد بن عقبة، حين صلى بالناس الصبح مخموراً، فيفرح صانع الفيديو بجعله صحابياً، لأن التعريف السابق اشتمله فيمن اشتمل.

والحق أن الوليد بن عقبة هذا فاسق نزل فيه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات/6). وصلى بالناس الصبح أربعاً، حين كان أميراً على بعض مناطق العراق، في زمن عثمان، وأقام عليه عثمان الحدّ، فجلده ثم عزله.

وللأسف فقد قال أحد المتحدثين في الفيديو بأن الوليد هذا، كان “يصلي بالناس مخموراً، وأن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ كان يصلي وراء هذا المخمور”!

والحق أن صانع الفيديو اختار أن يقتص هذا الجزء من حديث الواعظ السلفي، ليدلل على استمرار الوليد في الصلاة مخموراً، واستمرار الصحابة في الصلاة وراءه وهو مخمور. وذلك تلاعب باللغة من واعظ سلفي لا يفقه ما يقول، ومن ناقل شيعي يحقد عل من دمروا إيوان كسراه.

وإلا فإن قوله: “صلى أحدهم مخموراً” لا يبيح للغة أن تصفه بأنه كان “يصلي بالناس مخموراً” بصيغة المضارع المفيدة للاستمرار والمواصلة.

لكن الحقد يفعل أكثر من ذلك.

“الصحابي هو من رأى رسول الله مسلماً ومات على ذلك”

قلنا ذلك نعم. وهو صحيح غالباً. ولكننا لم نقل إن الصحابي معصوم عن الكذب، بل قلنا إنه قد يكذب، لكن ليس على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فحتى معاوية حين لم يعجبه حديث يقول بأن عمار بن ياسر تقتله الفئة الباغية، لم يرو حديثاً يخالفه، ولم يكذب على رسول الله، بل قبل بالحديث، لكنه أوّله: أي فسره تفسيراً لصالحه. وهذا أكبر دليل ـ إن شاء الله ـ على أنه لم يكن له ـ وقد فعل ما فعل من معصية الخروج على إمام الحق ـ أن يكذب على رسول الله، ليحتفظ بـ”حق الخروج”.

من هنا فقد قبلنا بما نقل لنا معاوية مما سمع من رسول الله، ولم نقبل كثيراً مما فعل في أمور الدنيا.

فلقد يروي الصحابي عن رسول الله فلا ينقل إلا حقاً، إن شاء الله تعالى. ولقد يفعل الصحابي أمراً، فيقع في مصيبة أخلاقية، فلا نقول إنه كان معصوماً ثم ثبتت عدم عصمته. فلا معصوم إلا رسول فيما يبلغ عن رب العالمين. ولكن هناك ـ كصانع الفيديو المذكور ـ من يقتص لنا من كلام واعظ طيب، كلاماً يجعله في صورة غير طيبة، كأن يقول بأن عمر بن الخطاب كان مدمن خمر، دون أن يتم كلامه، بأن ذلك كان من الفاروق قبل تحريم الخمر.

ولقد كان عمر رضي الله عنه ـ كما كان حمزة عليه السلام، وصحابة آخرون ـ يعشق الخمر، ويراقب تدرج التنزيل العزيز في كراهيتها، فيقول: “اللهم أنزل لنا في الخمر بياناً شافياً”. فلما نزل قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (المائدة/91)

قال: “انتهينا انتهينا”. ولم يعاقر الخمر من بعد حتى مات ـ وكذا فعل الباقون ـ لكن صانع الفيديو الكريه المسمى بـ”كباريه الصحابة” لا يذكر ذلك، بل ينقل لنا حديثا يقول بأن معاوية “كان يشرب”. ثم لا يذكر بأن هذا الحديث غير صحيح، فلم يتعهد أحمد في مسنده ـ ولم يستطع ـ أن يقتصر على رواية الصحيح.

لكن حتى لو شرب معاوية الخمر، فهل يعني ذلك أن أبا بكر وعمر وعلي وعثمان وكبار الصحابة كانوا يشربون الخمر، ليتمكن هذا الشيعي المأجور من تسميه الفيديو المشين الذي يبثه بهذا الاسم الكذوب “كباريه الصحابة”؟

“الصحابي هو من رأى رسول الله مسلماً ومات على ذلك”. قلنا بأن هذا تعريف مقصود به ضبط الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قبلناه في المجمل، كما نقبل كل تعريف إجمالي لمفردات غير متشابهة.

لكن هذا التعريف أضل سلفيين كثيرين، أحبوا أن يعمموا هذا الوصف على كل شؤون التاريخ، إذ جعلوا كل ما فعله كل صحابي حقاً، فأفرطوا وفرطوا وتعصبوا لغير الحق. ومن ذلك قول واحد منهم في الفيديو الكريه، بأن من الصحابة من زنا وسكر ولكنهم ساداتنا!

ولعمري لا يقول هذا إلا غبي: فاللغة الخداعة لا تبيح هذا يا هذا. فنحن لا نصف شخصاً بأنه سيد ـ حتى لو كان سيداً حقاً ـ بأنه سيد لنا، حين يمارس المعصية. فسيدنا الصحابي هو سيد لنا، هكذا على وجه العموم، ولكنه ليس سيداً لنا حين يقتل أو يزني أو يخرج على إمام الحق بغير الحق. إنه سيدنا باعتباره صاحب رسول الله الذي نصره بقلبه وسيفه ولسانه، لا بأي اعتبار آخر.

وتلك سوءة سلفية شهيرة تضر بالصحابي وبالدين.

ولقد يعترض متثاقفون من متثاقفي الفيس بوك ـ مثل حمير ترد موارد الأحصنة الأصيلة ـ فيقولون بأنه إذا كان الصحابي غير معصوم، فلم ننقل عنه ما روى عن رسول الله؟

يريدون بذلك هدم السنة النبوية.

وهذا النوع من الحمير لا نسمعه، ولا نرد عليه، فهو يرى نفسه حصاناً أصيلاً. ونحن لا نرد على حمار يرى نفسه حصاناً.

ولو رددنا على حمار يقترح على نفسه انه حصان، لاضطررنا أن نطعمه السكر.

والحمار لا يأكل السكر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى