عاجل: رسالة مؤجلة إلى الأسير وليد دقة بعد مشاهدة فيلم “أميرة”
د. إيهاب بسيسو | فلسطين
عزيزي أبو ميلاد،
في هذا الوقت الذي يواصل سحق ملامحنا بهراوات التعب، نواصل جمع ذاكرتنا من صدور الأمهات والآباء وحكايات بعيدة كمياه الآبار الجوفية التي لم تصل إليها يد الريح المسمومة …
أدرك أنك ورفاقك في سجون الاحتلال تتابعون بحرص شديد قضية الفيلم “أميرة” الذي عُرض مؤخراً في بعض المهرجانات السينمائية قبل أن يتم التفاعل مع محتواه ومضمونة السياسي شعبياً وثقافياً ما دفع إلى اتخاذ قرار رسمي بعدم الاستمرار في عرضه وسحب مشاركته في جوائز الأوسكار لهذا العام.
عزيزي أبو ميلاد،
قبل عدة سنوات قرأت لك “سر الزيت” وهي من أهم قصص اليافعين من وجهة نظري ليس لأن من كتبها أسير حرية يواصل معركته الشخصية من أجل استمرار تدفق الحياة في مفردات الوقت، بل لأن من كتبها صاغ كثافة الوجع في المعنى وقدم درساً عن الحرية وكانت القصة مقدمة عفوية لمتابعة إبداعك من وراء القضبان.
لا أخفيك فقد شكل حرصكم كأسرى وأسيرات على مواصلة الحياة بالكتابة والبحث درساً محفزاً وملهِماً لنا في صون مفهوم الحرية من العبث وفي الانحياز لفطرة الانسان في التحرر ولعدم الحياد أمام العدم …
تابعتُ كغيري الكثير من هذه الانتاجات الإبداعية في الرواية والشعر واليوميات والسيرة حتى أن مفهوم أدب الحركة الأسيرة اتسع كثيراً ليشمل مختلف مناحي الكتابة التي تتعلق بحياة الأسرى والأسيرات خلف القضبان.
هذا الزمن الموازي كما في مسرحية “الزمن الموازي” لبشارة مرقص، المستوحاة من تجربتك في الأسر والتي تناولت من خلال قصتك حياة الأسرى والأسيرات قبل عدة سنوات على خشبة المسرح …
هو نفسه العالم الموازي والواقع الموازي، الواقع المشبع بالانسانية والتحدي وفلسفة الحياة النابعة من أبسط الأدوات وأكثرها عمقاً ودلالة وتأثيراُ في ملامح الهوية الوطنية والانسانية …
هو الزمن والواقع إذاً والحياة التي تتشكل منها مفردات حياتنا اليومية بشكل مباشر وغير مباشر …
فنحن جميعنا على هذه الأرض أسرى وأسيرات بطريقة أو أخرى، الفرق بيننا حجم وشكل وموقع الزنزانة حول أنفاسنا اليومية …
عزيزي أبو ميلاد،
حين يتم تناول قضية الأسيرات والأسرى في أعمال إبداعية مختلفة نسرع للبحث عن ملامحنا في العمل “الإبداعي” فإن كان يشبهنا شعرنا بالامتنان وازددنا ثباتاً على ثبات، وإن كان لا يشبهنا بحثنا مطولاً عن أسباب الاختلاف وربما بحثنا أيضاً عن ذلك الشعور الخفي بالهزيمة الذي قد يدفع البعض لانتاج أعمال لا تحمل من ملامحنا الانسانية سوى عناوين باهتة تصلح للفرجة الاستشراقية المعدة سلفاً لصناعة ملامحنا من توليفة متخيلة، تبدأ من شعور خفي بالهزيمة ولا تنتهي عند رغبة ملتبسة في تقمص دور إنسانوي، لا يشبه حتى في أبسط معانيه دور الصليب الأحمر في الأزمات بقدر ما يشبه صورة مستفزة لجنود في مركبة عسكرية يحاولون الابتسام لمصور عابر فيما يقبضون على رأس فتى معصوب العينين كما في الانتفاضة الشعبية الفلسطينية قبل أكثر من ثلاثين عاماً.
الاستشراق أو الشرق المتخيل بالاستناد إلى إدوارد سعيد يواصل ابتكار طرق جديدة لسرد الحكايات عن عالمنا المتخم بلا شك بقضايا البؤس والفقر والاضطهاد ولقد اتسع مفهوم الاستشراق ليشمل السرد المتشكل في الذهنية العربية – وهنا مكمن الخطورة – لشرق متخيل هو امتداد لتلك النظرة الفوقية الاستعمارية ولكن بتنفيذ محلي عابر للهويات الوطنية والانسانية يواصل فيه الاستشراق المحلي مهمة الاستشراق الاستعماري ولكن بشكل يبدو واقعياً أكثر أو من خلال قوالب فنية تتسم بالنقدية و”العمق الفلسفي” .
فيلم “أميرة” قبل أن يكون أحد نتاجات هذه الرؤية المشوشة والمشوهة والسطحية والفاقدة للأسف للعمق المنشود في توظيف المخيلة في بناء درامي قادر على صيانة نفسه من الانزلاق في العبث، يمثل حالة صراع داخلي في ذهنية القائمين على تنفيذه بين الرؤية الاستشراقية والحكاية المحلية الفلسطينية بأبعادها الانسانية وخصوصيتها وحساسيتها النفسية والوطنية ما جعل الفيلم في نهاية الأمر خلطة ركيكة المحتوى مُصنَّعة بشكل مفتعل رغم الفنية التي ظهرت في أبعاد الصورة السينمائية.
لا علاقة للأمر هنا بالخيال وإنما في كيفية توظيف المخيلة في سياق درامي وقع للأسف في فخ الرواية الاستعمارية بشكل قد لا يكون مقصوداً – بافتراض حسن النوايا – ولكنه غير مقبول فنياً ووطنياً وعاطفياً،
وهذا أمر لا علاقة له بحرية التعبير وحرية الخيال، بقدر ما يشكل مفصلاً جوهرياً في العلاقة بين مفهوم التحرر والهزيمة في ذهنية تسعى للاستفادة من مفهوم الحرية لتقوم بتمقص دور المستشرق الكلاسيكي ولكن بأدوات فنية عصرية تجعله أكثر “تأثيراً وإقناعاً” في الحيز العام.
عزيزي أبو ميلاد،
ربما قد لا يتسنى لك أنت ورفاقك مشاهدة هذا “الفيلم” الذي لم يكف عن صياغة الابتذال الفكري في قالب فني
لذا قد يكون من المهم التنويه إلى هشاشة الفكرة وانحشارها في رؤية مشوشة ومفككة مزدحمة بشكل أقرب إلى الفوضى بالعديد من القضايا التي تحتاج إلى عناية درامية ورؤية فنية قادرة على صياغة محتوى أكثر عمقاً من حالة التسطيح الاستهلاكي المباشر.
أما ذلك الخليط الفوضوي من المسائل المجتمعية كالحب والخيانة والوفاء والمثلية الجنسية والعصبية القبلية والنزعة الهجمية والانتقامية في السياق السياسي والاجتماعي فهو خليط اتسم بالفقر الإبداعي كونها قضايا من الصعب وضعها في سياق سينمائي دون حاجة إلى بحث معمق وتكثيف بصري يشكل مدخلاً إلى عالم الدلالات السيميائية البصرية.
استشهاد أميرة على سبيل المثال ودون الدخول في التفاصيل الفنية شكل مأزقاً حقيقياً للفكرة والسيناريو وشكل مهرباً مفتعلاً بل ومبتذلاً لإنهاء الحالة السينمائية في الفيلم دون أن يكون هناك رؤية واضحة للغاية الدرامية للفيلم رغم استدعاء صورة الجندي الاسرائيلي – الأب المزعوم – للتعرف على جثة أميرة في المستشفى، كنوع من النهايات المستمرة وغير المحسومة المشرعة على فضاءات التأويل، غير أنها مغرقة في النمطية المكررة والمستهلكة سينمائياً.
في أحد المشاهد في الفيلم تقول الأم وردة للفتاة أميرة بأن عليها مغادرة البلاد كي لا يتم الانتقام منها بعد اكتشاف أنها ابنة نطفة اسرائيلية لأن “الناس هنا لديهم ثأر” مع الاسرائيليين.
يبدو هذا السطر على سبيل التكثيف والمثال أيضاً طاعناً في الاستشراق التخيلي، فمن قال إن القضية الوطنية الفلسطينية هي حالة ثأرية؟ وليست قضية استعمار أرض وسلب حقوق، وإن النضال الوطني الفلسطيني – رغم كل عثراته – يسعى إلى التحرر بمفهومه الانساني الواسع وليس من خلال الرؤية الثأرية الضيقة.
كل هذه التناقضات والمفاهيم المشوهة ساهمت بشكل أو آخر في أن تفسد المحتوى السردي والمضمون الانساني في الفيلم رغم الأداء الفني الذي حرص من خلاله الممثلين والممثلات على إبراز قدراتهم الفنية وخبرتهم السينمائية.
عزيزي أبو ميلاد،
قد نتفق في أنه ليس من المطلوب عربياً – في الوقت الراهن على الأقل – تطوير صناعة سينما داعمة للقضية الفلسطينينة كإحدى أنبل القضايا الانسانية في العصر الحديث فهذه مسألة تتوقف على الدوافع والخيارات السياسية العربية وإن كان في صميم القلب رغبة حقيقة في أن يكون هناك دعم انتاج سينمائي يواصل مسيرة الدراما العربية الوطنية لمواجهة روايات الاستعمار المتواصلة، ولكن على الأقل المطلوب عدم المساهمة في تشويه السردية الفلسطينية بافتعال قد لا يبتعد كثيراً عن انتهازية نفعية لا تصنع مستقبلاً أو أفقاً لصناعة سينمائية جادة.
فالاستناد إلى الركاكة والتصنع والاستغباء والفوقية والاستسهال أحياناً في تناول القضايا النبيلة لا يمثل جرأة متقدمة في صناعة أي دراما بل يساهم في تفتيت ما تبقى من إرث جاد ورصين يمكن البناء عليه وتطويره
وفق الأدوات الفنية المعاصرة.
في المقابل لا يعني هذا التوقف عن التجريب وتفعيل آليات الصناعات الإبداعية لمناقشة عموم القضايا التي تشكل هاجساً فكرياً وسياسياً واجتماعياً وذلك من خلال مواصلة خلق فضاءات لصناعة سينمائية عربية ذات حضور مؤثر اقليمياً وعالمياً.
عزيزي أبو ميلاد،
على مدار الأيام الماضية لم يتوقف التفاعل الشعبي في المنطقة العربية لاسيما في الأردن وفلسطين مع قصة الفيلم بالشجب والاستنكار لمحتواه السردي فيما يخص تناول قضية “النطف المحررة”.
الدعوات الشعبية لمنع الفيلم في الحيز العام وقرار الهيئة الملكية للسينما في الأردن بسحبه من المشاركة في الأوسكار هذا العام شكَّل مدخلاً ملائماً لنزع فتيل الغضب والتوتر المتصاعد حيال المحتوى الركيك للفيلم.
وقد لا يعني هذا محاربة حرية التعبير بقدر ما يعني الاستجابة لنبض الرأي العام الذي يشبه أي رأي عام حول العالم حين يتم المساس أو الاستهتار بالقيم الانسانية التي تنمو من خلالها مفردات الهوية الوطنية والثقافة والتاريخ والذاكرة …
أهم ما في الموضوع ومع النظر إلى نصف الكوب الممتلئ بعد مرور هذه الغيمة الداكنة العابرة أن النقاش حول الفيلم شكل فرصة مناسبة للحديث مجدداُ عن حياة ومعاناة الأسيرات والأسرى.
أما أجمل ما في الموضوع أن يتم تداول صورة ميلاد وليد دقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتعرف على قصتها وقصة مجد عبد الكريم الريماوي وغيرهم من أطفال فلسطين الذين ولدوا من نطف محررة لآباء تحدوا وما زالوا يتحدون الموت البطيء في سجون الاحتلال.
أطفال حملت بهم/ بهن أمهات هن أصدق الأمهات وأكثرهن نبلاً وهن يواصلن مسيرة الحياة وقداسة المعنى في الانتصار للأمل رغم كل مسببات القهر والتعب والاضطهاد الاستعماري المتواصل في كافة أشكال الوقت …
عزيزي أبو ميلاد،
شكراً لكم لأنكم خلاصة النبض الذي يسري في عروق الأجيال، جيلاُ بعد جيل ويتشكل حياة تواصل النضال من أجل أسمى معاني الانسانية المتمثلة في الحرية ورفض القمع والتمييز وكافة أشكال الاضطهاد من أجل مستقبل تنتصر فيه صفاء القيم الانسانية على بشاعة الخوذة المستعمِرة وتسود العدالة كوكب الأرض.
لا شك أن هذه الأرض – أرضنا – أرض المعجزات المستمرة، وفي أجواء الميلاد المقدس، لا يمكن الابتعاد عن معجزة سيدة الأمهات، مريم المقدسة التي أنجبت سيدنا المسيح عليه السلام …
فلسطينياً حفيدات مريم على الأرض يواصلن الاستناد إلى معجزة الميلاد المقدس في حياتهن التي وهبنها للحرية ولجعل صدى المعجزة حياً في الحياة المعاصرة كي لا تفقد فلسطين الأمل …
هن حفيدات سيدة الأمهات مريم التي ذكرها الله في كتابه العزيز في سورة آل عمران:
“وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ” (آية ٤٢).
دمت ورفاقك ورفيقاتك الأسرى والأسيرات أحراراً في كلماتنا وحياتنا ومفرداتنا اليومية …
ومستقبل قريب يجمعنا دون سجون وقيود واضطهاد وتمييز واعتقال واحتلال …