تضاريس التطبيع في ليالي باريس
المحامي جواد بولس | فلسطين
أصدرت “الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافيّة لاسرائيل” في التاسع والعشرين من الشهر المنصرم بيانًا، تراجعت فيه عمليًا عن موقفها السابق ودعت إلى ضرورة مقاطعة فعاليات مهرجان “عيد اللغة العربية”، الذي أطلقه “معهد العالم العربي” في باريس؛ وذلك، كما جاء في البيان، بعد “ورود معلومات جديدة للحملة حول معرض “يهود الشرق”، المعلن عن إقامته ضمن نشاطات المهرجان منذ البداية”.
لقد أشرت في مقالتي السابقة إلى التناقض الصارخ الذي وقعت فيه الحملة في بيانها الأول الصادر في الثالث والعشرين من نوفمبر، حين أجازت فيه مشاركة المدعوّين في “مهرجان اللغة العربية”، بينما حظرت، في نفس الوقت، المشاركة في المنصة الفنية ودعت جميع الفنّانين إلى مقاطعتها وذلك بسبب دعوة فنانة اسرائيلية من أصول مغربية تدعى “نيطع إلكيّام”.
تراجعت الحملة عمّا جاء في بيانها الأول متذرّعة بأنها اكتشفت تفاصيل كانت قد غابت عنها من قبل؛ وهذا بحد ذاته اعتراف يدينها، ويعيدنا إلى ما نوّهنا منه في مقالات سابقة، حول نهج عمل الحملة ومسوّغات قراراتها التي تعتمد على نوع من المزاجية الثورية وعلى معايير تشكو من فضفاضية واضحة، وتتيح للمكلّفين داخلها بتشخيص الحالات الملاحقة، الاعتماد على فنون التأويل السياسي، واللجوء إلى نعم علوم الاجتهادات العقائدية المقولبة والجاهزة أحيانًا.
لن يضمن أحد من بين الناشطين في الحملة أو غيرهم، عدم تكرار هذا “الخطأ” ؛ خاصة وأن الحملة تنشط، أو من واجباتها أن تنشط، لا داخل الدول الغربية وحسب، بل في الدول العربية والاسلامية كذلك وفي إسرائيل وبين المواطنين العرب تحديدًا. وهي تقوم بحملاتها للمقاطعة وفق معايير منمّطة وثابتة، ولكن في معطيات سياسية متغيرة، وتحت تأثير علاقات دولية معقدة، وتحالفات جديدة تولّد مصالح مادية متشابكة، مكشوفة أحيانًا ومخفية على الأغلب، وعابرة للدول وللأعراق؛ وكل ذلك يجري في فضاءات صارت فيها بعض العملات هلامية، ووسائل التواصل افتراضية، والذكاء المهيمن اصطناعياّ.
تقوم حركة المقاطعة بنشاطات عديدة في جميع أرجاء العالم، كنت تناولتُ في الماضي قضية أحد نداءاتها الذي تطرّقَتْ فيه، قبل سنتين، إلى بعض الأنشطة الثقافية التي أقيمت داخل بلداتنا العربية في إسرائيل، خاصة في مناسبة الاحتفالات بعيد الميلاد، وهاجمت القيمين على احتفال ضخم اقيم في قرية كفرياسيف الجليلية بسبب دعوة منظّميه بعض الفنانين من أشقائنا في الأردن للمشاركة، ووصمت مشاركتهم بالتطبيع. غضب بيننا الكثيرون وأستفزوا وكنت واحدًا منهم، فناديت حينها أن اتركونا يا عربُ؛ فأولى أن تقوّموا ما حولكم، وأن توقفوا أنزفة العهر السائل في شوارع دول “العُرب أوطانكم”.. أمّا نحن فنحبّ الحياة، وقد وجدنا، بدونكم ، إليها السبيلا؛ وعشقنا الغناء، وقد علّقنا على همزاته التراتيلا؛ وعُفنا برد صحاريكم فأضأنا على ناصيات كراملنا قلوبنا قناديلا ..
لن أعود إلى تفاصيل تلك الأيام التي انتهت مؤخرًا فقط، كما قرأت، بعد أن استسلم ذلك الفنان وتأسف وخضع صاغرًا أمام هرطقات أسلحة المقاطعة وملاحقات مطوّعيها؛ ولكنني ساستذكر، بسبب علاقة ذلك بموضوع مقالتي اليوم، بعض محاور مناقشتي مع أولئك الناشطين في هذه الحملات، الذين لم نعرف هويّاتهم السياسية حينها، ونجهل اليوم، باسم أي “حق حدّثوا ويحدّثون”؛ فنداءات مقاطعة إسرائيل لوحدها لا تكفي لإسباغ الشرعية عليها، خاصة في بعض الحالات التي أثارت فيها تلك النداءات نقاشات واسعة، وتركت وراءها ندوبًا وخلّفت أضرارًا، كانت فلسطين وشعبها في غنى عنها وما زالت.
نحن قوم علّمته تجاربه النضالية، ودروس بقائه في الوطن، أن نتحقق من مصادر شرعية المنادين، خاصة اذا ارتفعت نيران بيارقهم في زمن البؤس، وذلك قبل التوافق معهم، أو حتى إذا كنا مختلفين أيديولوجيًا أو سياسيًا معهم. وكي أوضح ما أعنيه سأقول، بشكل قاطع، أنني لست ضد من ينادي بالمقاطعة من حيث المبدأ، وأرى بنجاحات هذه الحركة في مواقع عديدة انجازات استراتيجية لافتة؛ لكنني، وكثيرين مثلي، نطالب بترشيد العمل في هذه الجبهة، وبممارسته وفق معايير واضحة وقادرة على استقطاب أوسع حالات الدعم والمساندة داخل المجتمع الفلسطيني بداية. ففي الواقع لم يراع القائمون على اطلاق هذه الحملات، بالرغم من كونهم قلة صغيرة داخل مجتمعاتهم، بعض الأسس الجوهرية في أصول التعامل مع شرائح شعوبهم النخبوية المستهدفة، وأول هذه القواعد، هو الاحترام وسماع الرأي الآخر، وعدم استسهال عملية الضغط الذي يصل أحيانًا حد الترهيب ضد مجتمعات مقموعة تعيش في دول فاشلة وعاجزة، كما حصل ويحصل في الكثير من الحالات.
واذا ما عدنا لبيان حملة مقاطعة مهرجان “معهد العالم العربي” الجديد سنقرأ أن ما دفع الحركة لاطلاق ندائها كان رجوعها “إلى معايير المقاطعة الثقافية لاسرائيل ومناهضة التطبيع ، فان المشاركة في أنشطة تهدف، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى الجمع بين عرب وإسرائيليين (لا يعترفون بالحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني بموجب القانون الدولي) ، بما فيها تلك الأنشطة التي تدّعي “الحياد السياسي” أو الفن من أجل الفن، دون أن تدين الاحتلال والإضطهاد، ولا تعمل من أجل إنهائهما ، تعدّ مخالفة لتلك المعايير” . هكذا ببساطة وبسهولة غيّبت الحملة هذه المعايير في بيانها الأول، ثم سحبتها، بعد أسبوع واحد فقط، من أغمادها سيوفًا قاطعة، ولوّحت فيها فوق رقاب جميع المدّعوين للمشاركة في المهرجان. ألف سؤال وتساؤل يستدعيه هذا النص، ومع ذلك فمن المؤسف أن عددًا من المشاركين العرب في المهرجان اختاروا اعلان انسحاباتهم، إمّا عن جبن، أو عن انتهازية أو عن عجز ؛ فهم يعرفون أن مجتمعاتهم قد جوّفت وتحولت إلى مجرد هياكل هشة غير قادرة على حماية أبنائها، وفي بعض الحالات قد تأكلهم.
إن القضية غير محصورة في تداعيات وتفاصيل مهرجان “معهد العالم العربي”، ولا في تبعات ما جرى حوله؛ فهو سيمرّ كسائر الأحداث الشبيهة وسينسى كتنهيدة جائع، لأننا ببساطة نعيش في زمن صمت العاجزين؛ فمثل هذه الحملات تتكرر من دون مناقشة وبلا تقييم؛ ومن شأنها، بسبب ما يحيطها من ملابسات وغموض، أن تلقي بظلالها السوداء على شرعية ما تقوم به حركة المقاطعة في جبهات أخرى وغير خلافية، وقد يكون البعض معنيًا بهذه النتيجة.
سأنقل للقراء مضمون ما قالته الفنانة الاسرائيلية في تعقيبها على البيان الداعي لمقاطعة المهرجان بسبب مشاركتها، وأعرف أن البعض لن يوليه اي اهتمام ، فهو، في النهاية، بالنسبة لهم، ليس أكثر من كلام أطلقته عدوة يهودية أولى بها أن تعود من حيث جاء أسلافها؛ ولكن، بالمقابل، قد يجد فيه البعض فرصة للتوقف هنيهة، والتأمل بوجهة نظر، عدوة، مختلفة، قد تكون جديرة أن نتعرف عليها، قبل مقاطعتها؛ فقالت: ” أتذكر مع بداية وعيي كيف انجذبت الى لغة أمّي، فصوت جدّاتي كان مقموعًا، وبقين حتى آخر أيامهن نساءً بسيطات، مغاربيات يهوديات، يتحدثن بالعربية وبعبرية مكسّرة. قصتهن، التي عبّرت عنها بصوتي، روت عطش جمهور جاء من كل العالم العربي والاسلامي، فكل واحدة وواحد كان يسمع في هذه الأغاني صوت أمّهِ. يسمع هذا الجمهور الأغاني من خلال شبكات التواصل الاجتماعي ويتأثر ويشارك ويطلب المزيد، وذلك من دون وساطة الدول وأعلامها. هذه هي قوة الموسيقى والفن العظيم، المتمرد على الحدود الجيوسياسية التي تملي علينا هويات منمّطة. في الوقت الذي تعمل فيه الحكومات والأنظمة على مسطرة المعرفة ونشر رواية واحدة، اهتممت أنا بأولئك الذين بقوا خارج كتب التاريخ. والآن بالذات من داخل هذا المكان القوي الذي يُنزل علينا المآسي بشكل يومي، رأيت أن الوقت مناسب لاطلاق صوت جداتنا كعلامة لحياة أخرى أكثر براءة. هذه طريقي، أنا الصغيرة، لأقيم عالمًا أفضل، لأولادي ولأولاد هذا المكان”.
من منكم لا يريد عدوًا يفكر بهذه المفاهيم؟ ومن سيقول لي كيف كانت مشاركة الروائي الياس خوري في هذا الفضاء الأزرق، وما كان سيقوله عن مدائن شمسه، سيعتبره الناس “كمشاركة في نشاط يهدف إلى الجمع بين عرب واسرائيليين، وسيعد مخالفة” وفق ما استعرضه بيان حركة المقاطعة ؟ ومن سيشرح لي كيف كانت مشاركة رامي خليفة، بليلة عزف مجنون، تحرّك فيها أنامله أوجاع فلسطين وتنبش عذابات لبنانه المغتصب، ستعد تطبيعًا مع إسرائيل ؟ وكيف ؟ وكيف ؟