من تكون: روح أنت أم جسد؟!
أميرة عبد العزيز | فنانة تشكيلية مصرية
لقد سُئِلتُ كثيراً عن الروح والجسد والنفس.. ولعل الكثير منكم قد تساءل مع نفسه، أو قد يكون تحاور مع الآخرين وربما سأل أهل العلم والدين في بعضها إن لم يكن كل ما يتعلق بهذا الأمر.
الجسد أصله من تراب وحينما يذهب فهو إلى التراب، والروح تذهبُ إلى بارئها، إذن من يكون الإنسان، وما الذي يوجد بهذا الجسد الذي سواه الله من تراب وأبدعَ صورته، وهل الموجود فيه الروح أو النفس أم العقل، أم ماذا..؟.
يقولُ الله سبحانه وتعالى: (قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) لننظر إلى الجزء الثاني من الآيه الكريمة جزئية (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً).. لِمَ لا نُكْثر هذا القليل بجزء آخر من التأمل والتفكر والتدبر ليصبح القليل كثيراً بمفهوم إدراك الإنسان، فإذا كان مثلُنا الأعلى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام يستغفر الله في اليوم سبعين مرة وهو الذي قد غَفَرَ الله له، فلماذا إذن يستغفر.. ولماذا يُصلي ويُقيمُ الليل..!؟ والإجابة كانت في السطور القليلة السابقة ليعطينا مثلاً يُحتذى به ونمشي على دربه وسنته، وليزداد نوراً أعلى وأوضح وأجمل من الذي عنده، إنه دائماً يطرق الباب ويستغفر ليفتح الله عليه بركات من النور الإلهي ويكشف عنه الحُجب.
لقد كان هدف الإنسان على الأرض منذ بدء الخليقة هو إكتشاف ماهية وجوده وحقيقته، إنه دائماً في حيرة يفكر ويحاول الربط بين حقيقته والحقيقة الكبرى المجردة، فلماذا نسعى إلى محو هذه الحقيقة وعدم الخوض فيها والكلام عنها، ولماذا يسعى البعض لإطفاء نور المعرفة التي وضعها الله في الإنسان وميزه بها عن سائر مخلوقاته- إنه العقل- إنه ذلك السر الذي يتعمق به الإنسان في ماهية الأكوان ليفهم بعمق حقيقة الأشياء وباطنها وليس ظاهرها.
إن العارفون بالعلوم الربانية والروحية قد عَرِفوا كيف يتعاملون معها، عرفوا كيفية الإندماج فيها توحيداً وفناءاً.. إنهم يَرَونها روح الوجود الذي يمثلها ربُ الكون، والإنسان قد خلقه الله سبحانه وتعالى ونَفخَ فيه من روحه، هذه الروح من أمر الله قد أوجدَ في باطنها معارف ومواهب لا تُمنح أو تُعطى إلا لمن طلبها بصدق لتكتمل بها إنسانيته، إنها جزء لا يتجزأ من الحقيقة الكبرى..” العلوم الربانية الروحية ” التي هي في حقيقتها الكون وما وراء الكون، كل هذه المعارف بيدِ مُسير الكون وخالقه سبحانه وتعالى، إنها المعرفة التي ما إن وصلَ إليها الإنسان بصدق ستحيي قلبه وتنيرُ عقله وتعينه على أن ينطلِق من سجن ذاته بروحه بشرط أن يُطهِرُها قبل أن تنطَلِق لتتوحد مع الأرواح الطليقة الأخرى وتصل إلى الدرجات العُلى ألا وهي التوحد مع أصلها.
إن الإنسان في كل عالم له صورة تختلف عن غيره من البشر، تناسب هذا العالم الذي يوجد فيه ليكتمل تكوينه كإنسان.
والآن تعالوا معي نتأمل ونتفكر في هذه الآيه الكريمة (في أي صورة ما شاء ركبك).. إن الروح حية لا فناءَ لها لأن الروح من أمر الله الباقي الذي لا يفنى، إنه الأول قبل كل شئ.. قبل الوجود كله والآخِرُ بعد الخلود هو الله الذي يُلقي الروح بداخل الإنسان فَيصيرُ حياً روحياً في كونِ الله، هذه الروح تأخُذُ صِوَراً كثيرة من التكوينات الإلهية البشرية التي تناسب العالم الذي يتواجدُ فيه الإنسان.
أيها الإنسان..- (في أي صورة ما شاء الله ركبك)- في كون الله الفسيح لتعرف من هو الحي القيوم، من هو القائم على وجودك.
تلك هي الروح التي هي أصل الإنسان، هي الساكنة المستوطنه داخل هيكل هذا الجسد البشري، وعند إنتقال هذا الإنسان إلى العالم الآخر الأبدي لا يمكنه أن يأخذ معه جسده المكون في الأصل من تراب فيبقى هذا الجسد ملك لتراب الأرض التي أعارته إياه فتسترد هي الجسد وتنطلق روحه إلى مجال آخر.. جُرمُّ آخر..عالم آخر من عوالم الله التي لا حصر ولا نهاية لها يتواجدُ فيه بذاته إلى حياة أرقى وأسمى وأعظم.
حقاً إن ” الروح من أمر ربي “، ولكن الله سبحانه وتعالى قال أيضاً: ” ونفخنا فيه من روحنا “.. يا لها من طاقة إلهية مقدسة روحية من عند الله أكرم الأكرمين أُلقيت على الإنسان من الأعلى.. لكن إن إكتفيت بالجزء الأول من الآيه الكريمة ” قل الروح من أمر ربي ” ووقفت عنده ستشعر بإستحالة معرفة الإنسان بالمجال الروحي.. إذن علينا أن نُكمِل الآيه الكريمة.. ” قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلمِ إلا قليلاً “- العلم موجود بالفعل وهبك الله إياه وعليك أنت تنميته وزيادته بالتفكر والتأمل الذي هو في حد ذاته عبادة.
لقد قال رسول الله سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام الصادق الأمين: ” أحبوني يحببكم الله لكم من الله ما لي “.
تأكد أيها الإنسان بأن الصادق الأمين عندما يقول شيئاً فإن هذا الكلام صدق.. وهل يكون الحب بدون معرفة يشملها الإحتواء والتصديق في كل ما يقوله المحبوب..!؟ أحبوني يحببكم الله الذي ألقى بداخِلكم من روحه عز وجل ليفتح عليكم من نوره، وهذا لا يأتي إلا لمن يستحق.. لا يأتي إلا للمُحِبُ الصادق في حبهِ الباحِث عن الله.
ولعل القضية واضحة أركانها أمامنا.. إنها تشتمل على تأمل الإنسان لنصوص القرآن الكريم وربطها ببعضها البعض ويتفكرُ فيها بإعمال عقله ومن ثَمَّ تدبر معانيها ليفهم ماهية وجوده فيزداد يقيناً ويصبح إيمانه قوياً راسِخاً.
عندما خَلقَ الله آدم عليه السلام ونفخ فيه من روحه قال للملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفة)، إن الخلافة هنا خلافة معنوية روحية هدفها الإرتقاء بفكر الإنسان والتأمل والتدبر بتعب وصدق وحب وشغف ليرتقي بذاته، وقال عز وجل: (فإذا سويته ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين)، ما أعظم هذا التكريم الإلهي..! ماذا ستفعل أيها الإنسان المكرم من الله عز وجل الذي سواك ونفخ فيك من روحه..!؟، إنه لأمر إلهي بالسجود لأدم لأنه نفخ فيه الله تعالى من روحه واضعاً بداخله النور الإلهي الذي إن بحث عنه ورآه سينير الكون كله، هذا النور الإلهي لا يُعطى إلا لمن يشاء من عباده، لمن اصطفاه وإختاره من عباده المخلَصين الصادقين الباحثين عن حقيقة الوجود وقيمة الوجود وماهية وجود الإنسان ليصبح مدركاً أكثر لوجوده الروحي فيسمو بروحه لا بنفسه.. إنه مزيد من النور الإلهي يلقيه الله على من يشاء من عباده، على من هو جدير بأن تسري طاقة النور الإلهي بداخله.