من أسرار المبدعين
أ.د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري
ولد في كولومبيا في خواتيم الربع الأولمن القرن العشرين، بدأت بوادر إبداعاته الأدبية في الثامنة عشرة من عمره؛ فقد نشر قصة وصفت وقتها بالعبقرية، ثم بدأت إبداعاته تنهال متمثلة في عشرات القصص خلال سنوات، ثم صار يكتب مقالاً يومياً في بعض الصحف. التحق بعدها بالجامعة لدراسة القانون؛ إلا أنه تركها للتفرغ الكامل للكتابة، حيث كانت عشقه المطلق.
ولأسباب خارجة عن إرادته؛ ترك وطنه هائماً على وجهه، ليقضي سنوات من الجوع والتشرد، يجمع الزجاجات الفارغة ليعيد بيعها، عاد بعدها إلى فنزويلا ليعملبالصحافة، ويبدأ صداقة طويلة مع الرئيس الكوبي “فيدل كاسترو”. وتمر السنوات ويكتب أشهر رواياته وهي “مائة عام من العزلة” والتي بيع منها ملايين النسخ وترجمت عشرات الترجمات وبمعظم لغات العالم؛ فصار أشهر كُتّاب أمريكا اللاتينية، وواحداً من أشهر كُتّاب العالم؛ إنه جابريال غارسيا ماركيز .
ظل “ماركيز” يجوب عالم الكتابة حتى حصل على جائزة نوبل للآدابعام 1982 تقديراً لمسيرته الأدبية.واستمرت إبداعاته رغم اكتشافه أنه مصاب بالسرطان، ولكن ذلك لم يمنعه من الكتابة، بل اعتبرها فرصته لتدوين مذكراته والتي جاءت بعنوان “أن أعيش لأحكي”.
ولقد برع “ماركيز” في الجمع بين الخيال والواقع، حيث استطاع أن يخلق عالماً قريب الشبه من عالمنا الحالي ممزوجاً بخيال سحري، وينسج الضدان ببراعة فذة، وقد اعتبر “ماركيز” الخيال أداة الكاتب للتعبير عن الواقع، على اعتبار أن العمل الروائي تمثيل مُشفّر للواقع، وقد كانت كل أعماله منسجمة مع تلك المعادلة.
ولأن الموهبة وحدها لا تكفي ليقدم الموهوب موهبته حيث التفاصيل التي لا يراها ولا يحياها إلا المبدع نفسه؛ جاءت العزلة على رأس أسرار “ماركيز” ومحور اهتمامه، حيث وحدة الإنسان في تكوينه الخاص وتعبيره عن ذاته، وقد عبّر عن ذلك يوم احتفالهبجائزة نوبل مشيراً إلى أن للعزلة ارتباطاً واقعياً بأمريكا اللاتينية.
ويأتي مكان النشأة سراً آخر من أسرار إبداعه حيث التأثير الوجداني الأعمقفي “ماركيز”؛ فالمكان له عبقريته كما أشار جمال حمدان في كتابه عبقرية المكان. والذي يمكن اعتباره مثيراً ذهنياً وحافزاً إبداعياً مؤثراً.
ثم تأتي القراءة عاملاً فعالاً في فكر “ماركيز” حيث لعبت الدور الذي يرافق كل مبدع وكاتب؛ فقد تأثر بالكُتّاب المعاصرين مثل “أرنست همنجواي”، كما جاء تأثير “سوفوكليس”واضحاً عليه في مسرحيته “أوديب ملكاً”.
يبقى عامل حاسم في إبداع “ماركيز” إنه حب الحياة وتمسكه العنيف بها؛ فقد كشف هذا الحب عن كراهية مقيتة للموت، ينبض هذا العامل في سطور أعماله والتي جاءت مشرقة نابضة بالحياة.