حكايا من القرايا.. ” فشّة غُل “
عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين
كانت أم الصادق تبكي بكاءً مرّاً كمن فقد عزيزاً عليه، وتمزج البكاء بقصيد حزين، يدمي القلب، ويقشعر شعر البدن… وأحيانا تصرخ من قحف رأسها. مشهد جذب الجيران وأتى بهم، جاؤوا (فارعين دارعين) بأحذية وحفاة دون أحذية… جاؤوا للغوث والمساعدة.
اعتداء سافر على نمليّة أم الصادق، زجاج شبابيك النملية العلوية مكسور تماماً، وتناثرت قطع الزجاج مطحونة كأنها التراب، والباب الخشبي السفلي للنمليّة مكسور أيضاً. وليت الخسائر بقيت عند هذا الحد… بل امتدت إلى المحتويات الزجاجية أيضاً، فهناك قطع من صحون المرق المجوّرة الحمراء الجوانب (القشاني)، مرمية على الأرض هنا وهناك… وقطع من جاطات (طاجات الأرز) مرمية هنا وهناك أيضاً، وطقم مكوّن من إبريق الحليب وكاساته الصينية (كان هذا للزينة فقط)، لم ينجُ منه إلا الإبريق وثلاث كاسات… ومعالق مرسوم عليها سنابل مرمية أيضاً… وأم الصادق تجوح وتنوح… بين زجاج محتويات نمليّتها المكسرة… وتقول قصائدها، تنظمها في بحار الحزن، وعلى مراكب غرقانة ستودي بحياة أصحابها… أم الصادق بائسة كمن خرج مهزوماً من معركة خاسرة… الله ستر مرطبانات اللبنة وميّة البندورة والجبنة على ظهر الخزانة… لم يصلها الدمار…
احتار الناس، ما الذي حدث؟ ومن سبّب هذا الخراب الأعمى؟ وأم صالح مشغولة بغنائها، وأبو صالح متكىء على عصاه، يدخن، وينفخ… والأولاد في مدارسهم، قالت أم أحمد: ممكن بِس (هِرّ) شرس، كان يبحث عن بقايا وجبة في النملية، قفز متسلقاً فسقط معه الزجاج وتكسر، والبس فرّ ناجياً بجلده… وتكهن الحج محمود: يمكن أم الصادق أرادت بعض الصحون، فتحركت أرضية النملية الخشبية، وسقط ما عليها، وقرأ الشيخ فارس متمتماً ما تيسر له من دعاء… وأصحاب الدار لا يدلون بأي تصريح… وسادت فترة من الصمت، كأنها استراحة بين شوطين من اللعب. الكل يفكر، وأحياناً يشير بيديه، ومنهم واجم يضع كفّه على خده…
وفجأة، صاح الشيخ فارس، ما الذي حدث؟ أجابت أم الصادق، والدمع ما زال يتسلل من مقلتيها: كان أبو الصادق يحضر الأخبار، وعندما سمع خبر السقوط، وعلم بالهزيمة، سبّ أمريكا ومن حول أمريكا، وما وراء أمريكا، وهاج وماج، وصاح: ( أمريكا حيّة، ولا بد من تكسير راسها) وضرب بعصاه، ضربة على شبابيك النملية، وضربتين على بابها، (فهال) انهار الكزاز، كأنه سنسلة وهالت… وعينكم بالناظر، قديش قلتله لا تحمل اشي وانت تسمع اخبار، بلاش اصير اشي مش مليح… بس ما بِرُدّ، قبلها ظرب سدر المقلوبة، قلبه ستين قلبه، وقبل هيك، صرخ ونزلت زهرة السيجارة من ثمه، وما عرفنا وينها، حتى دخنت الفرشة… وهاي اليوم كزاز النمليّة… ويصل مكان الحدث أبو سالم الأقرع، يندهش عد رؤية المنظر، ويخبرونه بسبب الحادث، فيضحك، ثم يوالي ضحكه ويقهقه، ويكاد يسقط على قفاه من الضحك، ويقطع الكلمات التائهة، وهو يقول: اشتروا ل (أبو الصادق) نمالي، وقشاني، وطاجات، بلاش يغيص على نمالي الجيران، هزايمنا كثيرة، يا (أبو الصادق) ويشتد به الضحك، ويتابع: والله، شغلتك طويلة عمي أبو الصادق…
أبو الصادق حزين ويفكر، ويفكر… ثم تناول من جيبه ورقة نقدية، وشوية فراطة… وتحرك نحو حذاء زوجته، ووضع المصاري على ظهر الحذاء… كي تشتري ما شاء لها من كزاز… وتصلح النمليّة… وفي قرارة نفسه يقول: المصاري ع الكندرة ( أجلّكم الله)… ينعل أبو أمريكا… ينعل أبو أمريكا… والله لو قدامه خزانة فراش، لكسرها وحرق فرشاتها ولحافاتها… وهو يلعن ويسب ويرغي… علّه يفشّ غلّه…