حكايا من القرايا ” ومن البخل ما قتل “

عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين

كانوا يسمونه (الجلدة) لبخله الشرس، كان بخيلاً على نفسه، يكاد يحصي لقماته ليقللها، لأن الأكل على حسابه، ويسأل الناس المتزوجين: كم هي كلفة عائلة مكونة من أربعة أنفار شهرياً؟ وذلك على أمل أن يتزوج، ويخلّف ولدين… وكانوا يعطونه إجابة غالية الثمن، فيردد الآية التي يقولها عشرات المرات يومياً، ” ولا تسرفوا ” ويترجمها حتى يفهمها العامة ” ولا تبعزقوا “… يعمل ليل نهار، في أرضه، وإن لم يجد عملاً فيها يعمل بالأجرة، ويحبس قروشه سجناً مؤبداً…

عندما تزوج، اشترط على الذين ابتلاهم الله به، ” أنا مش تبع زعيق ونهيق”… وطبل وزمر، أنا بجّوزش إلا جيزة أرامل… بلا غناني بلا بطيخ اصفر… وفعلاً هكذا كان… دخلت عليا بيتها وكأنها تدخل ميتماً… على بيت شعاره (بلا بعزقة)… وهي صابرة محتسبة، علّها تنجب منه، واللي منّو أحسن منّو… لما ارتفع سعر كرتونة البيض، قال لها” غلي البيض يا عليا… وخفّفي الفقس”… وخففت عليا الفقس… إذعاناً للفرمان…

كان يوماً أسود يوم تزوجتك قالت الحزينة، وهي تحمل ابنها سميراً، وأبو سمير يحمله الرجال على سلم وضعت عليه فرشة، وآهات الألم تخرج من فمه، اللي شافه يومها قال أبو سمير خلص ودّع… في المستشفى تكشّفت الأسباب، أبو سمير أصيب بحالة تسمم، والسبب أنه اشترى كمية من البطاطا (طبلة) بثمن بخس، وسَلَقَها كلها، وكان يتناول كل وجبة زرّاً مسلوقاً منها، وكأنها وصفة طبية، وفي الزرّ السابع والعشرين، شعر بإمعائه تتقطّع وأصبح يتلوّى… أخذه الرجال إلى المشفى، وهناك بدأ الأطباء بغسيل معدته من البطاطا التي تعفّنت وأضحت سموماً …

ولا حفلة… ولا وليمة… لم يشارك بها أبو سمير، وكيف لا يشارك بها وهي تطعمه وزوجه وولديه سمير، وعلى راسه أمير أيضاً… في الأعراس كان قراره… لا طبيخ في هذا الفرح المبارك… يأخذ الأسرة إلى الحفلة، وكأنهم في نزهة، ثم تنفصل الحزينة عنهم إلى مكان النساء، وهو يمسك بولديه إلى قسم الرجال، ياه… إنه في الجنة عندما يضعون جاط (طاج) الرز و(اليخني) المرق أمامهم، فيخرج من جيبه قرن فلفل طويل وحرّاق، ليفتح نفسه (شهيته)، ويخرج من جيبه الأخرى (خاشوقة) ملعقة كبيرة أم سنابل كأنها (كريك)… ويبدأ بالسحب، والمضغ السريع، وحثّ أولاده على الأكل… حتى يأتي على ما تيسر له، وينتفخ بطنه… ويصبح وجيهاً صاحب كرش ببلاش…

ولم تكن لتفرق معه نوع الحفلة إن كانت في فرح أو ترح… ففي حالة الوفاة، كان الناس يخرجون سدور الأكل لأهل الميت، ومن حضر الجنازة، كل بيت في البلدة يخرج ما قسم الله (الخروجية) (الفوالة)… ياه ناس بحنانيها وناس بغنانيها، وأبو سمير… والشابان… وقد كبر سمير وأمير… في أحلى غنانيها… ينتقل بهم الوالد من سدر إلى آخر… من بسطة إلى أخرى ألذ وأشهى… والمسكينة في البيت على الزيت والملح والخبز الجافر، وتحتسب…

في يوم ماطر… وقع الرجل… صاحت أم سمير، التمّ الناس عليه، لكن الرجل مات بلا وداع… انتهى بيت الأجر، واستخرج الشابان كنزهما… وأنذرا أن يصنعا الطعام للناس ثلاثاً… وتصدقا على فقراء البلدة… ودفعا لطلاب أقساطهما، واشترى سمير سيارة (كابينة) للعمل عليها، وفتح أمير متجراً كبيراً في المدينة… ولبست الحزينة المخمل والمقصّب، ومزاريب الذهب، وزنّاراً شامياً عريضاً، وعصبةً خضراء… الله يرحمك يا أبو سمير… اليوم ظهر سخاؤك وكرمك… وأنت تحت التراب… دفنوك وحيداً، ولم تدفن معك خاشوقة الأعراس، ولا قرن الفلفل فاتح الشهية…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى