أدب

الومضة كفضاء للفكر

من الإيجاز اللغوي إلى الكثافة الوجودية في نص "قراءة حرة" للدكتورة منال رضوان

بقلم: عبد الغفور مغوار – المغرب

أولا – نص: قراءة حرة – د. منال رضوان

القصة الومضة تستدعي مفارقة

هاك مثالًا:

(كنتُ إنسانًا…)

أتُراه يصلح مثالًا؟

لم تتضح الفكرة، أليس كذلك؟

هاك فكرة أوضح

(كنتُ إنسانًا مع وغد)

هنا تكتشف حقيقة:

الإنسان لا يَهزمه الموت،

الخطر لا يكمن في … كنت

بل في سقوط الكينونة عند مسّ الوضاعة.

تأمّل…

إن النبل لا يُعرَف إلا بظلّه

جوهر الإنسان لا يُفصح عن ذاته…….

……..

………

حسنًا،

فلنختصر الدرس

إليكَ مفارقة أكثر حبكة:

كنتُ إنسانًا أتى من خواء؛

فأجاد الوغد معزوفته من طنين.تمت!

ثانيا – القراءة النقدية

تمثل الومضة الأدبية أحد أبرز التحولات التي عرفها الأدب العربي المعاصر، بوصفها شكلا تعبيريا جديدا يقوم على التكثيف والاختزال، ويعيد تعريف العلاقة بين اللغة والفكرة، وبين القارئ والنص. فهي أكثر من مجرد قصة قصيرة جدا أو بيت شعري نثري، إنها تجربة لغوية متوترة تشعل المعنى دفعة واحدة، وتدع القارئ أمام أثر رمزي يفوق حجمها النصي. من هذا المنطلق، تندرج تجربة الدكتورة منال رضوان في نصها “قراءة حرة” ضمن هذا المسار التجريبي الواعي، إذ تنحت بالاقتصاد اللغوي عالما دلاليا مكثفا، وتستثمر المفارقة والسكوت لتصوغ نصا يقرأ على أكثر من مستوى: تعليمي، فلسفي، ووجودي في آن واحد.

يهدف هذا المقال إلى مقاربة نص “قراءة حرة” باعتباره نموذجا فريدا للكتابة الومضية التي تتجاوز حدود التجنيس الأدبي نحو أفق فلسفي وأخلاقي عميق. وسنعالج ذلك من خلال محاور متعددة تتناول الأسس النظرية للومضة كمفهوم وجنس أدبي، وتفكك بنيتها الداخلية في نص رضوان من حيث المفارقة والاختزال، كما نتوقف عند جدلية الإنسان والوضاعة بكونها لب المعنى الأخلاقي الذي تحمله، لنكشف في النهاية عن الرسالة المضمرة التي تكتبها الكاتبة ضد السقوط الإنساني ومن أجل استعادة الكينونة النبيلة عبر اللغة.

المحور الأول: الومضة كجنس أدبي

نظرية المصطلح وموقع نص “قراءة حرة” فيها

إن مفهوم الومضة الأدبية من أبرز التحولات التي شهدها الأدب العربي المعاصر، إذ مثل ميلادا جديدا للغة تجيد الإيجاز دون أن تفقد عمقها، وتنتصر للكثافة الدلالية على الامتداد السردي. والكاتبة الدكتورة منال رضوان في نصها «قراءة حرة» تدخل هذا الحقل بكثير من الوعي كصانعة رؤية تتوسل شكل الومضة لتقول أكثر مما تسمح به القصة أو القصيدة التقليدية. إنها تستثمر «الاقتصاد اللغوي» لتفتح «اقتصادا في المعنى»، حيث كل كلمة تبدو وكأنها تحمل ما لا تستطيع الجمل الطويلة احتواؤه.

 -I الومضة بين المفهوم والممارسة

الومضة الأدبية ـ في صورتها القصصية أو الشعرية ـ هي نص يقوم على الاختزال الشديد والتركيز المكثف في اللحظة الدلالية، بحيث يحدث صدمة أو كشفا في وعي القارئ. هي تميل إلىالقصة القصيرة جدا، إلا أنها ذات بناء دلالي يقوم على المفارقة، والانزياح، والمباغتة. يقول النقاد بأن الومضة لا تروى، بل تلمح، وهي تشتعل دفعة واحدة ثم تترك أثرها الرمزي. من هنا نفهم أن منال رضوان لم تكتب درسا في فن الومضة، بل قدمت ومضة تعلم نفسها بنفسها، إذ يندرج نصها فيما يسميه الناقد الفرنسي رولان بارت بـ “النص الذكي(texte scriptible)”، أي النص الذي يشارك القارئ في صنع معناه.

في «قراءة حرة»، تبدأ الكاتبة بعبارة توهم القارئ بأنها تفتح درسا نقديا أو تأملا تعليميا: “لقصة الومضة تستدعي مفارقة، هاك مثالا: (كنتُ إنسانًا…)”

الافتتاح يشي بخطاب تعليمي، لكنه سرعان ما يتحول إلى خطاب تأملي، فلسفي، وشخصي في آنٍ واحد. فالكاتبة توظف بنية الدرس كقناعسردي، لتخفي خلفه حكاية رمزية عن الإنسان والوضاعة، عن الكينونة والسقوط الأخلاقي. إنها تقدم نموذجا تطبيقيا، لكن هذا النموذج هو في ذاته النص الحقيقي، بينما «الدرس» ليس سوى ستار بلاغي يهيئ المتلقي لتلقي المفارقة الكبرى.

 -IIالومضة القصصية والومضة الشعرية: الخط الفاصل المموه

منذ بدايات ظهور هذا الشكل الأدبي، ظل السؤال قائما: هل الومضة فرع من القصة القصيرة جدا، أم من الشعر النثري؟ إن نص «قراءة حرة» يبرهن أن الحدود بينهما وهمية. فالكاتبة تكتب ومضة هجينة تستعير من القصة شرطها البنيوي (حدث مفارقي، تطور، خاتمة صادمة) وتستعير من الشعر أدواته الإيحائية والإيقاعية.

ففي الجملة “كنتُ إنسانًا…”، يفتح الفعل الماضي باب الزمن والذكريات، وهو سلوك سردي بامتياز. لكن سرعان ما يتحول النص إلى خطاب تأملي يعتمد على الإيقاع الداخلي والمجاز، كما في: “الإنسان لا يهزمه الموت، الخطر لا يكمن في.. كنت، بل في سقوط الكينونة عند مس الوضاعة”.

هذه الجملة تبدو ظاهريا سردية غير أنها شعرية في جوهرها، لأنها تقوم على استعارة فكرية وانزياح لغوي. من هنا، يمكن القول إن منال رضوان تنتمي إلى تيار الكتابة التي تذيب الحدود بين الأنواع الأدبية، وتجعل الومضة فضاء لتجريب الوعي قبل اللغة.

 -IIIالاقتصاد اللغوي والكثافة الدلالية

أحد أهم خصائص الومضة الأدبية هو ما يسميه غاستون باشلار بما معناه اقتصاد الحلم في الصورة، أي تحويل اللغة إلى لحظة مكثفة تلمع فيها الفكرة كما يلمع البرق في السماء. وفي نص «قراءة حرة»، لا توجد جملة زائدة، ولا تفصيل عرضي، بل كل كلمة تعمل كحجر صغير في فسيفساء المعنى.

لاحظ كيف يختصر السطر الأخير “كنتُ إنسانًا أتى من خواء فأجاد الوغد معزوفته من طنين” تجربةً كاملة في تلاشي الهوية أمام الانحطاط. هذه الصورة الأخيرة تعتبر تجليا رمزيا لا حدثا عابرا، يجمع بين الصورة السمعية (طنين)، والوجودية (الخواء)، والمجاز الأخلاقي (الوغد). إن الاقتصاد هنا ليس في الألفاظ فقط، بل في البنية الرمزية نفسها، إذ تتكثف المفاهيم الثلاثة: الإنسان، الخواء، الوغد، في صيغة موسيقية قصيرة.

الكاتبة توظف علامات الوقف («…»، «؛»، «تمت!») كأدوات إيقاعية تنظم الصمت كما تنظم الكلمة. فالحذف المتكرر «…» يبدو فراغا ولكنه في الحقيقة هو مساحة تفكير للقارئ، حيث يتكفل الذهن بإتمام المعنى. وهكذا تمارس الكاتبة أحد أهم مبادئ الومضة: الكتابة بالسكوت، أي أن تقول أكثر حين تتوقف.

 -IVالتهيئة الميتا-نصية: النص الذي يشرح نفسه ليخفي شيئا آخر

من بين السمات الأسلوبية اللافتة في “قراءة حرة” أن الكاتبة تبدأ بــ”حديث عن الكتابة”، أي خطاب ميتا-نصييبدو في ظاهره تعليميّا. فهي تخاطب القارئ بصيغة مباشرة: “أتُراه يصلح مثالًا؟ لم تتضح الفكرة، أليس كذلك؟ هاك فكرة أوضح… “

هذا الحوار الظاهري يجعل النص يبدو كدرس في الإنشاء أو تدريب على كتابة الومضة، لكنه في العمق خداع جمالي متعمد. إذ ما تلبث الكاتبة أن تزحزح مركز الخطاب نحو الذات والجوهر الإنساني، فتتحول من المعلم إلى الإنسان المجروح، ومن المشرح إلى المشارك في التجربة.

إن هذا الأسلوب يذكر بتقنيات ما بعد الحداثة التي تعتمد على التناص الذاتي والخلط بين المقام النظري والمقام السردي. كأن الكاتبة تقول لنا ضمنيا: “أنت تظن أنك تتلقى درسا، لكنك في الحقيقة تشهد اعترافا أو مواجهة داخلية.”

الدرس إذن ليس حول الومضة، بل هو الومضة نفسها. والكتابة هنا تتقمص دور المعلم لتغدو أداة تطهير داخلي أو “رسالة مضمخة بالرمز”، موجهة إلى ذات أو إلى آخر يختبئ وراء كلمة «وغد». هذا الإيهام التعليمي يجعل المتلقي في موقع التواطؤ، فيكمل النص من داخله، لا من خارجه.

 -Vبين التجنيس والانزياح: موقع النص في الخارطة الأدبية

يستحيل تصنيف «قراءة حرة» بدقة ضمن نوع واحد، لأن النص يقوم على مبدأ الانزياح عن التصنيفات. ففي الوقت الذي يحتفي فيه النقاد بالومضة القصصية بوصفها “قصة الحدث المفارق”، تمارس منال رضوان هنا الومضة الفلسفية الأخلاقية، وهي أقرب إلى ما كتبه جبران خليل جبران في «رمل وزبد» أو أنسي الحاج في «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، حيث تتحول الجملة إلى ومضة فكرية مشحونة بالمجاز.

من هذا المنظور، يمكن القول إن النص يمثل تجريبا في اللغة والوعي معا. إنه نص عابر للأجناس، لكنه منضبط بإيقاع داخلي يجعل منه ومضة مكتملة العناصر: بداية، مفارقة، ذروة فكرية، ثم خاتمة صادمة مختصرة. ما يميزه أنه يقدم نموذجا يمكن تدريسه في ورش الكتابة الإبداعية، لأنه يشرح «كيف تكتب الومضة»، بل أكثر من هذا إنه يجسدها فعليا، من الداخل.

 -VIقراءة أولى في العنوان: “قراءة حرة “

العنوان هو المفتاح الأول لأي نص ومضي. في اختيارها لعبارة «قراءة حرة»، تفتح الكاتبة باب التأويل على مصراعيه. الكلمة الأولى «قراءة» توحي بأننا أمام نشاط نقدي، أما الصفة «حرة» فتشير إلى التحرر من القيود المنهجية. لكن الحرية هنا تتجاوز البنية التعليمية لتغدو حرية القول المبطن، أو بتعبير أدق: حرية البوح في هيئة درس. فالنص هو درس في قراءة حرة للألم الإنساني ذاته.

إنها «قراءة» لأنها تمر عبر اللغة والمجاز، و«حرة» لأنها تتخفى من سلطة الخطاب المباشر. بهذا المعنى، العنوان هو إعلانُ تمويه، يوحي بأن القارئ مدعو إلى أن يقرأ بحرية، أي أن يفك الشفرات ويتجاوز الظاهر. فالكاتبة نفسها تمارس الحرية بالمعنى الفني: أن تقول دون أن تسمي، وأن تكتب ما لا يمكن قوله صراحة.

يمكن تلخيص هذا المحور بالقول إن نص «قراءة حرة» ينهض على تجريب واع في شكل الومضة، ويقدم نموذجا فريدا لما يمكن تسميته «الومضة الفلسفية ذات البعد الأخلاقي». إنه نص يلبس ثوب الدرس ليؤدي وظيفة الاعتراف، ويستخدم لغة النقد ليبني حكاية رمزية عن الإنسان حين يختبر سقوطه الداخلي.

الكاتبة تجيد اللعب بالمسافة بين القول والمسكوت عنه، وبين التعليم والتلميح، فتخلق نصا «ذكيا» بارتيا (حسب تصنيف رولان بارت) يجعل القارئ يشارك في بنائه. ولعل أجمل ما فيه أنه يحقق هدف الومضة الأسمى: أن يحدث أثرا في الوعي بعد انتهائه، تماما كما يظل البرق حاضرا في العين بعد اختفائه من السماء.

المحور الثاني: الإنسان والوضاعة

جدلية الكينونة والسقوط الأخلاقي

يظهر في نص «قراءة حرة» أن منال رضوان لا تكتب عن «الومضة» الأدبية بقدر ما تكتب عن الإنسان في لحظة سقوطه الأخلاقي. فالنص الذي يبدو في ظاهره تمرينا بلاغيا حول المفارقة، يخفي في عمقه موقفا وجوديا وأخلاقيا حادا. الجملة الافتتاحية «كنت إنسانًا» اعتراف وجوديينذر منذ بدايته بأن النص يتجاوز، كما أشرناسابقا، البنية التعليمية إلى البنية الاعترافية التي تشبه البوح أو الرسالة الخاصة. هنا يبدأ التحول من الشكل إلى الجوهر، ومن الظاهر إلى المضمر.

 -Iالإنسان في النص: الكينونة قبل الاسم

حين تقول الكاتبة: «كنتُ إنسانًا»، فإنها تستحضر المعنى الفلسفي للإنسان كـ«كينونة» تمتلك الوعي والكرامة والقدرة على التمييز بين النبل والوضاعة. هذا الاستدعاء المجرد للإنسان هو بمثابة وضع معيار أخلاقي مطلق، تقاس عليه لاحقا درجة الانحدار حين يظهر”الوغد”.

فـ«كنتُ» لا تدل هنا على زمن مضى إنما على فقد في الجوهر. إن استعمال الماضي يخفي حنينا إلى حالة وجودية أنبل، كأن الكاتبة تعلن أن «الإنسان» الذي كانت عليه قد تلاشى أو تلوث. هذه الجملة الأولى هي إذا “عتبة وجودية”، تلخص انتقال الذات من حالة نقاء أولى إلى سقوط لاحق.ولعل من أجمل ما يميز هذه الافتتاحية أنها تضع القارئ أمام سؤال كوني خطير:هل يمكن أن يفقد الإنسان إنسانيته وهو لا يزال حيا؟

الإجابة تأتي لاحقا، حين يضاف إلى الإنسان «الوغد»، فيتحول الوجود من كينونة خالصة إلى كينونة مختلطة، مشوبة بالعار.

 -IIجدلية الإنسان والوغد

حين تقول الكاتبة:«كنت إنسانًا مع وغد»، فإنها تفتح باب المفارقة الأخلاقية على مصراعيه. إن التوتر بين الكلمتين (“إنسان” و”وغد”) هو صدام بين مستويين أنطولوجيين:أحدهما يرمز إلى الكرامة، النقاء، النبل.والآخر يرمز إلى الانحطاط، الدناءة، التلوث الروحي.

من الناحية السيميائية، يشكل هذا التركيب “إنسان + وغد” سلسلة دلالية مشحونة بالتناقض، إذ يجتمع فيها النقيضان داخل فضاء واحد، فينتج عن ذلك توتر أخلاقي وفلسفي كثيف. هذه الجدلية تحيل إلى صراع داخلي بين جوهرين في الذات نفسها.

فمن الممكن أن يكون “الوغد” هنا صوتا داخليا، أي تلك “الوضاعة الكامنة” التي تسكن في كل إنسان وتنتظر لحظة ضعف لتظهر. ومن الممكن أيضا أن يكون “الآخر” الحقيقي، شخصا بعينه خان أو غدر، فيتحول النص عندئذ إلى رسالة مبطنة موجهة إليه.

وهنا يبرز جمال الغموض المقصود: الكاتبة لا تُسمي الوغد، بل تتركه رمزا متعدد الدلالة، ما يمنح النص طابعا كونيا، إذ يمكن لكل قارئ أن يرى فيه “وغده” الشخصي.

 -IIIالسقوط الأخلاقي: من الكينونة إلى الخواء

في قولها: “الخطر لا يكمن في.. كنت، بل في سقوط الكينونة عند مس الوضاعة”، يبرز المحور الأخلاقي للنص بكل وضوح.

فالموت، بحسب الكاتبة، هو الانحطاط الأخلاقي للإنسان وهو الموت الحقيقي. وهنا تتقاطع الرؤية مع الفلسفة الوجودية عند سارتر وكامو، ومع النزعة الروحية عند جبران خليل جبران، الذي كتب يوما ما مضمونه: ويل لأمةٍ تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب من نهر ليس من عرقها.

السقوط هنا هو تبدل في الجوهر. فحين تقول: “سقوط الكينونة عند مس الوضاعة”، فهي لا تتحدث عن حدث خارجي، بل عن تحول داخلي يطال هوية الإنسان نفسها. الكلمة المفتاح هي “عند مس”، فهي توحي بأن الوضاعة ليست متجذرة، بل تطرأ بالاحتكاك، بالملامسة، أي بالاقتراب من الشر أو من الشخص الفاسد الذي يعدي بنذالته.

وهذا ما يفسر ظهور “الوغد” في النص بوصفه عنصر عدوى أخلاقية. هو ليس فقط تجسيدا للشر، بل العامل الذي يختبر إنسانية الآخر. فبمجرد أن يمسك الوغد بيده أو بنظره، يبدأ تآكل الكينونة. كأن الكاتبة تقول إن الخطر في الوجود لا يأتي من الموت الطبيعي، بل من الموت المعنوي الذي يصنعه الآخر حين يدنس معناك الإنساني.

 -IVالإنسان والظل: مفهوم النبل في ضوء السقوط

حين تكتب: “إن النبل لا يعرف إلا بظله، جوهر الإنسان لا يفصح عن ذاته”، فإنها تضع تعريفا عميقا للفضيلة. النبل هنا لا يرى في لحظات الصفاء، بل في لحظات الانكسار، تماما كما لا يظهر الضوء إلا بوجود الظل.

إنها رؤية أخلاقية تقوم على الاختبار والتمحيص: لا يقاس الإنسان حين يكون وحده، بل حين يواجه النذالة.

بهذا المعنى، تتحول القصة إلى مرآة أخلاقية، حيث يعري اللقاء مع “الوغد” جوهر الإنسان. فإذا بقي نبيلا رغم ذلك، فهو حقا إنسان. أما إذا سقط، فقد خسر إنسانيته.هذا المفهوم يذكرنا بما كتبه الفيلسوف الألماني نيتشه في “هكذا تكلم زرادشت”: “من يحارب الوحوش عليه أن يحذر من أن يتحول هو نفسه إلى وحش”.

تلك هي المفارقة الكبرى التي تكشفها منال رضوان في نصها: أن الوغد لا يهزمك إلا حين يحولك إلى شبيه له.

 -Vبين الإنسان والوغد: فلسفة المقاومة بالصمت

المفارقة الكبرى في النص أن الكاتبة لا تظهر مقاومة لفظية أو غضبا صريحا. كل شيء يقال ببرود متأمل، بلغة تعليمية ظاهريا، لكنها تخفي غضبا متزنا. وهذا الصمت المهيب جزء من المقاومة نفسها.

إنها لا تفضح الوغد صراحة، لكنها تسقط عنه القناع بطريقة أدبية راقية. حين تكتب “أجاد الوغد معزوفته من طنين”، فهي تدين بالصوت، أي بالضجيج الفارغ، بالشهرة المصطنعة، بالكلمة التي بلا جوهر.

فالطنين هنا استعارة مزدوجة:من جهة، هو ضجيج الذباب، أي رمز الوضاعة والتطفل.ومن جهة أخرى، هو صدى داخلي، يذكر الذات بما فقدته من صفاء.

وهكذا يتحول “الطنين” إلى رمز للنهاية، كما تتحول “المعزوفة” إلى سخرية مرة: فحتى في سقوطه، الوغد يظن أنه يجيد العزف.أما الكاتبة، فترد عليه بأناقة لغوية لا تقل قسوة: “تمت!”، كلمة قصيرة، لكنها تغلق النص كما تغلق الستارة بعد مأساة أخلاقية.

 -VIدلالة الخواء: العدم الوجودي

العبارة “كنت إنسانًا أتى من خواء” تفتح بعدا فلسفيا جديدا. فالخواء هنا هو العدم الوجودي الذي يولد منه الإنسان الضعيف.

إنالإنسان حين يجيء من خواء، يسهل على الوغد أن يغريه أو يهزمه. وكأن الكاتبة تحذر من الفراغ الداخلي الذي يمهد للسقوط الأخلاقي.بهذا المعنى، يصبح النص دعوة إلى ملء الذات بالمعنى، لأن الفراغ يولد الانحدار، كما يولد الليل الخوف.

وهنا يلتقي النص بفكرة ألبير كامو عن أن أسوأ العصور هو عصر لا يصدق فيه أحد بشيء. فالخواء الذي تتحدث عنه منال رضوان هو خواء الإيمان، وخواء القيم، وخواء المعنى.

يختتم النص بعبارة مقتضبة: “فأجاد الوغد معزوفته من طنين. تمت!”.

هذه الجملة الختامية هي نهاية فنية وأكثر من ذلك، إنها حكم أخلاقي نهائي.

فالمعزوفة التي أجادها الوغد ليست سوى عزف على أوتار الانحطاط، والكاتبة، حين تقول “تمت”، لا تعلن فقط نهاية النص، إنها تغلق الباب في وجه الرداءة.

هكذا تتحول القصة إلى رحلة أخلاقية مصغرة: من الإنسان، إلى الوغد، إلى الطنين، إلى الصمت، ثم إلى الكمال بالسكوت.

إنها في جوهرها تأملٌ في الإنسان حين يُختبر بمعناه العميق، حين يُسلب منه النبل فلا يبقى له سوى الكلمة.

وما الكلمة في النهاية إلا آخر ما يحمي الإنسان من السقوط في العدم.

المحور الثالث: الرسالة الملغومة بين الذات الكاتبة والآخر “الوغد”

سنفتح هنا أفقا آخر في قراءة نص الدكتورة منال رضوان، أفقا يربط بين الإبداع والنية، بين القول ووجهته، بين “النص” و”المرمى الشخصي” الذي يلوح بين السطور كما لو أنه رسالة مشفرة. فالقارئ الحصيف يدرك منذ العنوان “قراءة حرة” أن الكاتبة تنسج مقطعا أدبيا تتقمص فيه دور الأستاذة المعلمة لتخفي وراءه أنينا إنسانيا أو موقفا من خيانة أو سقوط ما. النص إذن يتخفى في هيئة “درس”، لكنه في الحقيقة يكتب ذاته ضد “الوغد” الذي أجاد عزفه النشاز.

من هنا تبرز الطبيعة المزدوجة للنص: ظاهر تربوي عقلاني، وباطن وجداني احتجاجي. هذا التداخل بين التعليمي والوجداني هو ما يمنح “قراءة حرة” قوتها التأويلية. فحين تقول الكاتبة مثلا: “كنتُ إنسانًا أتى من خواءفأجاد الوغد معزوفته من طنين”، فهي لا تكتب عن مفهوم المجاز أو عن كيفية بناء المفارقة كما في الظاهر، إنها تنوي فتح ملف عن جرح رمزي، كأنها تعلن عن تجربة سقوط الثقة أو انكشاف الخداع. إن “الخواء” هنا إلى جانب كونه فراغ وجودي فهو بداية انكسار أو لحظة خيبة بعد عطاء. و”الطنين” الذي يجيده “الوغد” هو الصورة السمعية لثرثرة الباطل، لصوت الضجيج الذي يخنق المعنى. بهذه الطريقة، يتحول النص من تأمل في شكل أدبي إلى مواجهة ضمنية مع الذات والآخر في آن.

يبدو أن الكاتبة تمارس في هذا النص نوعا من الكتابة المقنّعة: فهي لا تسمي الشخص، لكنها تترك أثره واضحًا في اللغة. “الوغد” ليس مجرد شخصية لغوية، بل هو رمز لمن خان المعنى الإنساني، لمن بدد النبل أو لوث العلاقة. لذلك، حين تقول: “إن الإنسان لا يهزمه الموت،الخطر لا يكمن في كنت،بل في سقوط الكينونة عند مسّ الوضاعة”، فإنها تتحدث من موقع الفيلسوفة التي تستنكر السقوط الأخلاقي، ومن موقع المجروحة التي رأت النبل يهان. الموت إذن هو سقوط القيمة. فهزيمة الإنسان تتجلى في تدني المعنى، في تخليه عن الكينونة لصالح الوضاعة. هذه الجملة وحدها تختصر الفلسفة الأخلاقية للنص، إذ تجعل من القيمة معيارا للبقاء، ومن السقوط الأخلاقي معادلا رمزيا للموت الحقيقي.

هنا يتبدى البعد “الرسالي” للعمل: الكاتبة لا تكتب ردّا انفعاليا، بل ترد بفكر وجمال. إنها ترد على “الوغد” بالكتابة الراقية، بالأسلوب، بالتأمل، كمن يقول: “قد تظن أنك أسقطتني، لكني أملك الكلمة، وأملك إعادة تعريف ما حدث من موقع السمو لا من موقع الجرح.” وهنا يكمن الذكاء الفني والإنساني في آن.

النص يتطور من التمهيد البسيط – الذي يوهم القارئ بأنه درس في بناء المفارقة – إلى بنية رمزية دقيقة، تتخذ من “المفارقة” نفسها أداة بلاغية وسلاحا معنويا. فالمفارقة لا تقتصر على الفرق بين المعنى الظاهر والباطن، إنما تتعدى ذلك بامتدادها إلى الفرق بين ما يقال وما يقصد، بين ما يظهر النص من حياد وما يخفيه من انفعال. الكاتبة تقول “فلنختصر الدرس”، لكن هذا الاختصار في ذاته تصعيد درامي: إنه يختصر لتكثيف الوجع، لتقنين اللغة دون تقنين الشعور.

من زاوية أخرى، “الرسالة” هنا لا توجه إلى شخص بعينه بقدر ما توجه إلى نموذج من البشر، إلى كل من مثل “الوغد” في تجربة إنسانية. لذلك يغدو النص أشبه بما يسميه النقد:الفرنسي”fable morale” ،حكاية رمزية ذات مغزى أخلاقي. “الومضة” إذن تتجاوز شكلها الأدبي في هذا النص لتصبح وسيلة دفاع راق عن القيم، وردا وجوديا على العبث الأخلاقي. فحين تقول: “أجاد الوغد معزوفته من طنين”، فهي تعري تفاهة العالم المعاصر الذي يحسن الضجيج ويسيء الصمت، الذي يتقن الادعاء ويجهل الأصالة.

تتجلى هنا سلطة الكاتب في تحويل الألم إلى جمال، والموقف الشخصي إلى قضية فكرية. فالكاتبة لا تكتفي بوصف الجرح، إنما تعيد صياغته ضمن معمار لغوي متقن. كل كلمة محسوبة بقدر، كأنها تقول: حتى الألم يمكن تهذيبه. هذه القدرة على تحويل التجربة الشخصية إلى خطاب كوني هي ما يمنح النص عمقه الأدبي.

من الناحية النفسية، يمكن القول إن النص يمارس نوعا من “التطهير بالكتابة.” (Catharsis scripturaire) فالدكتورة منال رضوان تكتب لتستعيد توازنها الداخلي، ولتحول التجربة السلبية إلى معرفة. لذلك فهي تختار أن تخاطب القارئ بضمير المخاطب “هاك مثالًا”، وكأنها تشركه في عملية الفهم والشفاء معا. إنها لا تريد أن تبقى في موقع المتألمة، وتختار موقع المعلمة التي تنقل خبرتها للآخرين من خلال البلاغة.

الكتابة هنا تأخذ بعدا وجوديا أيضا: إنها إعادة بناء للكينونة بعد التصدع. فالجملة “كنت إنسانًا” هي أكثر من افتتاحية إنها صرخة هوية. إنها تقول: “كنتُ”، أي إن هناك لحظة فقد أو تحول؛ “إنسانًا”، أي إن ما فقد هو معنى الوجود ذاته. ثم تأتي الجملة التالية “كنت إنسانًا مع وغد” لتعلن عن السبب: الآخر – الوغد – كان سبب السقوط أو التلوث. لكن المفارقة أن الكاتبة، بكتابتها، تعيد للعبارة معناها النبيل: فهي لم تعد “كانت”، بل “ها هي”، لأنها تكتب وتفكر وتواجه.

إنه نص مكتوب من رماد التجربة، ويضيء من داخله. لا عجب أن تختم الكاتبة بعبارة مقتضبة: “تمت!”، التي تبدو وكأنها ختم أو توقيع على نهاية مواجهة، نهاية جولة فكرية وعاطفية في آن. تلك الكلمة الصغيرة تلخص رحلة كاملة من الانفعال إلى الصفاء، من الألم إلى التجلي.

من هذا المنظور، نص “قراءة حرة” درس في الومضة كما هو درس في الحرية ذاتها: حرية الكاتبة في تحويل الجرح إلى نص، والسكوت إلى صوت، والدرس إلى سلاح أخلاقي. فالنص الحر هو الذي لا يخضع لإملاء الأكاديمية الجافة ولا لإغراء الانتقام، وإنما يخلق فضاء ثالثا يجمع الجمال بالحكمة، والرمز بالحقيقة.

يمكن القول في النهاية إن “الوغد” في النص قد يكون شخصا ماأو فكرة ما مضادة للنبل الإنساني، وأن الكاتبة، وهي تنهي نصها بتلك السخرية الرفيعة من الوضاعة، تضع نفسها في مصاف من يكتبون ليطهروا العالم من شوائب القبح، لا ليضيفوا إلى ضجيجه طنينا آخر.

الخاتمة

هكذا تتأسس الومضة على ثلاث قوى فنية متشابكة: الاختزال الذي يجعل الكلمة الواحدة حاملة لعوالم، المفارقة التي تقلب التوقع وتفتح باب التأويل، والتوتر الذي يربط كل مفصل لغوي بعمق دلالي متفجر. ومن خلال هذه العناصر، تحقق القصة الومضة غايتها الكبرى: أن تصيب جوهر الإنسان في لحظة وعي خاطفة، حيث يتحول القول البسيط إلى سؤال فلسفي عن معنى النبل والوجود والسقوط.

بهذا المعنى، تغلق الومضة بعبارة (فأجاد الوغد معزوفته من طنين) التي تختصر مأساة الوعي الإنساني حين يُهزم لا بالموت، بل بالابتذال. إنها نهاية مفتوحة لا تعلن هزيمة بقدر ما تثير حنينا إلى ما فقده الإنسان من كرامة. في تلك اللحظة الأخيرة، يتجلى صوت الكاتبة كجرس تحذير، وكأنه يقول: الخطر لا يكمن في الفناء، إنما يكمن في أن نحيا بلا نبل.

وهكذا، تنجح نص”قراءة حرة” في أن يختزل الدرس كله في مفارقة موجعة: أن يكون الإنسان إنسانا بصمود الكينونة أمام السقوط.

نتوجه بخالص التحية والتقدير إلى الدكتورة والأديبة منال رضوان، التي أتحفت القارئ بهذا النص البليغ، حيث جمعت بين العمق الفلسفي والاقتصاد اللغوي، فحولت لحظة التأمل إلى تجربة إنسانية مكثفة تقاس بصدقها لا بطولها. لقد استطاعت الكاتبة أن تمنح الكلمة طاقة دلالية تتجاوز حدود القصة إلى فضاء الفكر، وأن تضع بصمتها الإبداعية في مشهد القصة الومضة العربية بما تمتاز به من رهافة الحس وجرأة الفكرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى