تأدب يا موسى
د. خضر محجز | فلسطين
“وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ* وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” الأعراف/155 ـ 158
المشهد: فوق جبل الطور. حيث نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ مع أصفياء مؤمني بني إسرائيل.
الزمان: بعد أن تطهر بنو إسرائيل بقتل كل من عبدو العجل.
المناسبة: الحضور بين يدي الله ليكلم نبيه في حضور أوليائه.
الحدث: يهتز الجبل ويرتجف بمن فوقه من الأولياء، إيذاناً بغضب الله من هول جريمة قومهم. فيشتد هلع موسى الكليم، إذ يخشى أن يصيب الله بني إسرائيل بظلم فئة منهم، فيناجي ربه:
ـ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا، ولو شئت لما كانوا سفهاء. أدعوك يا ربي بأن لا تؤاخذنا بفعلتهم القبيحة، إذ نحن أبرياء لم نشارك ولم نرض.
هكذا يكلم نبي الله ربه، خاشعاً فوق الجبل. فيجيبه الله:
أنا السيد وأنتم العبيد
أنا الخالق وأنتم المخلوقون
أنا المالك وأنتم المملوكون
أنا الرازق وأنتم المرزوقون
أنا الهادي وأنتم المهتدون بهديي،
ولولا أن هديتكم لما اهتديتم
أفيسأل المصنوعُ صانعه فيم يفعل به هذا؟
إنه درس الأدب القرآني، الذي سبقنا آباؤنا البسطاء العظام إلى فهمه، حين رددوا في كل مناسبة قول الله لموسى:
ـ تأدب يا موسى..
يقول التنزيل العزيز بأن الله قال لموسى ثلاث حقائق:
1ـ عذابي أصيب به من أشاء.
2ـ ورحمتي وسعت كل شيء.
3ـ سأكتب رحمتي للمتقين المصدقين العاملين.
وهذا يعني:
ـ أنني لن أكتب رحمتي لغير المتقين المصدقين العاملين.
فمن هم المتقون يا رب؟ هكذا كان من الممكن أن يسأل موسى عليه السلام، لولا أن الله أوضح من هم المتقين.
فالمتقون من بني إسرائيل الذين سيكتب الله لهم رحمته هذه هي صفاتهم المحددة شرطاً: أي أن الله لن يحكم لشخص من بني إسرائيل بالرحمة إلا إن توفرت فيه هذه الشروط:
1ـ اِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ربهم.
2ـ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ.
3ـ ويؤمنون بآياته.
4ـ ويَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ ـ بصفاته الواضحة ـ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ.
فما معنى هذا؟
ما معنى أن يقول الله هذا لنبي وسبعين رجلاً مؤمنين مصدقين؟
إن لديهم التوراة الآن، التي كانت قد تنزلت في الألواح على موسى قبل أيام. وإن فيها صفات محمد، الذي يؤمنون به منذ الآن. لكن ما بال الإنجيل؟ كيف يخاطبهم الله بأنهم سيرون صفات النبي الأمي في الإنجيل الذي سينزل على عيسى، الذي سيولد من بينهم بعد أجيال بعيدة؟
نحن الآن على الجبل، ولا عيسى ولا إنجيل حتى الآن. فكيف نرى ما في الإنجيل ـ الذي لم ينزل ـ صفة هذا النبي المكتوب فيه؟
إذن فالخطاب لهؤلاء عن الأجيال القادمة من أصلابهم.
ـ لن أقبل منهم سوى الإيمان بكل ما يرونه في كتبهم الحقيقية من أوامري وبشائري وصفات حبيبي.
الخطاب ينتهي هنا، بعد الإنذار. ثم يتحول إلى محمد.
هنا يتوقف التنزيل العزيز عن رواية قصة اللقاء فوق الجبل، ليتحول إلى مخاطبة محمد صلى الله عليه وسلم:
ـ لقد قصصت عليك ما كان من أمرهم، وأمر أوامري لهم.
إذن فقم بالإعلان والتبليغ للناس في كل الأرض:
ـ “يا أيها الناسُ إني رسول الله إليكم جميعاً” أنا رسول الله إلى العالمين جميعاً.. أنا الذي كنتم طوال الأحقاب تنتظرون.. أنا الذي أمركم الله ـ في كتبكم وعلى ألسنة أنبيائكم ـ أن تؤمنوا بي ضرورةً لكي تكونوا مؤمنين بأنبيائكم.
لا يكون اليهودي مؤمنا بموسى، إن لم يؤمن بمحمد، لأنه رفض تصديق بشارة موسى .
لا يكون النصراني مؤمناً بعيسى، إن لم يؤمن بمحمد، لأنه رفض تصديق بشارة عيسى “ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد” الصف/6.
هذا هو المعنى التفصيلي لاعتبار المسلمين غيرهم كافرين.
لا أعتقد أن المجاملة هنا تنفع.
ستتكاثر على أذهان من ضعف تصديقه بالغيب الأسئلة: لم، ولم، ولم.. مع أن الجواب موجود في الآيات: “عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء” فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. وكل ذلك في لوح محفوظ، ربما يكشف الله بعض أسراره يوم القيامة.
إن آمنت فقط بما يصدقه عقلك، فقد آمنت بعقلك من دون من خَلَقَ عقلك. فأنت وذاك، ويوم القيامة قف لله وناقشه بعقلك، وانظر إن كان الله سيلهمك حجتك، أم ستعتمد على نفسك تماماً.
هذا والله أعلم بمعاني كلامه