قرطاج تستضيف محمود درويش و”علّيسة” تشيّعه برماد جسدها
مقال كتب عن آخر أمسية شعرية أقامها الشاعر محمود درويش في تونس
حياة الرايس | أديبة تونسية – باريس
كان ليل ضاحية “قرطاج” ساكنا صامتا ينام على خيال خصب وسط الغابات المخملية الداكنة يكتنز الأسطورة والتاريخ والميثولوجيا.
حتى اشتعلت أضواء الكاتدرائية القرطاجنية (فضاء الأكروبوليوم) المنتصبة على قمّة مرتفعاته. وانتشرت أنوارها، مرافقة الصوت الجهوري الجوهري: صوت الشاعر “محمود درويش” ينبعث من بين أنوارها ويشع معها على الليل، يوقظ صمته ويدعوه إلى احتفاء خاص.
كانت الكنيسة تنفرد بإضاءة هذا الليل، كما تنفرد الشمس بإضاءة النهار. وكان “محمود درويش” ينفرد بصوته، أمام آلاف الأصوات الشعرية المتناسخة يوميا عن بعضها البعض. في آلة “الإبداع” المعطوبة، المجروحة، المكرورة، المتشابهة، المنسوخة أصواتها، حدّ الاهتراء، حدّ غياب الملامح.
كانت الكنيسة شامخة، شاهدة، على عظمة قرطاج: قرطاج الرومنطيقية. التي عاشت مأساة “صلامبو” والتي شهدت غراميات الملكة “ديدون” و”أيني”. قرطاج القاسية، مدينة الإله “مولوك” والمتوقد حنبعل بطل الحروب البونيقية. قرطاج المسيحية، التي مسحتها روما من الأرض ثم بعثت من جديد…
قرطاج تحتضن اليوم شاعر المقاومة محمود درويش. تحنو عليه هامسة:
–“تعال نتوسد جراحنا ونتجاوزها، لنثأر لشعب أسطوري النضال. يُقتل كل يوم. ويبعث كل يوم من جديد. كطائر الفينيق. ليرد لأرض الأنبياء والقديسين طهارتها.”
أسطورية الجراح كانت “علّيسة”. تضع رأس الشاعر على ركبتها، قبل أن تضرم النار في جسدها. وتحكي له قصصا طويلة… تبتدئ من صور إلى شواطئ جنوب المتوسط… وتحكي له قصة مدينة سوّرت بحجم جلد ثور. كانت تهدهده لينام. لكن الشاعر لا يستطيع أن ينام … يؤرقه حبها… فيخبرها كيف بكى بين نساءها…
“… تونس أرجعتني سالما من حبّها
فبكيت بين نساءها في المسرح
في لغتي دوار البحر في لغتي رحيل
غامض من صور لا قرطاج تكبحه ولا
ريح البرابرة الجنوبيّين. جئت على
وتيرة نورس ونصبت خيمتي الجديدة
فوق منحدر سماوي سأكتب ههنا فصلا
جديدا في مديح البحر : أسطورية
لغتي وقلبي موجة زرقاء تخدش صخرة …
“أقول لها سأمكث عند تونس بين
منزلتين : لا بيتي هنا بيتي ولا
منفاي كالمنفى وها أنذا أودعها …
يجرحني التأمل في الطريق اللولبي إلى ضواحي الأندلس.”
تودّعه علّيسة من فوق أعلى قمة في مدينتها، بحفنة من رماد جسدها. تذروها وراءه مع الريح … فيشتعل الزعتر والإكليل في فلسطين.
يشمّ الشاعر رائحة كبرياء جسدها … إنها تشبه رائحة كبرياء تراب فلسطين …
في الداخل كانت الكنيسة مليئة بالحضور، الذي فاض إلى ردهاتها الخارجية، طلبا لنسائم الصيف الشحيحة هذه الليالي في تونس.
كان أغلب الجمهور من المثقفين والكتاب والأدباء والشعراء والإعلاميين وبعض الطلبة ولا أظن أن السهرة قد مست نبض الشارع ووصلته. كان الجمهور نخبويا وكثير من الشباب في تونس لا يعرفون محمود درويش شعريا وإبداعيا، إلاّ كونه إسما متداولا، معروفا بالسماع زد على ذلك أن المكان (فضاء الأكروبوليوم) بعيد عن العاصمة متوغل في غابة بعيدة عن العمران ما عدى فيلات أرستقراطية قرطاج التي تحيط به …
صاحبت محمود درويش في هذه السهرة العازفتان ياسمين عزيز وزهرة مداني في مراوحة بين الشعر والموسيقى وقد قدمتا سمفونيات كلاسيكية راقية وممتعة أنشد بينها محمود درويش عدّة قصائد منها “شكرا لتونس” و”الكمنجات تبكي” و”أحن إلى خبز أمي” و”خطوة الهندي الأحمر” و”من تعاليم حورية”
أنشد: ” أمي تعد أصابعي العشرين عن بعد
تمشطني بخصلة شعرها الذهبي
تبحث في ثيابي الداخلية عن نساء أجنبيات وترفو جوربي المقطوع ،
لم أكبر على يدها كما شئنا: أنا وهي ، افترقنا عند منحدر الرخام …
وأنشأ المنفى لنا لغتين دارجة. ليفهمها الحمام ويحفظ الذكرى
وفصحى. كي أفسر للظلال ظلالها”.