لا مكان لرؤية سفارة أمريكية في القدس
المحامي إبراهيم شعبان
رغم الوعود الإنتخابية التي قطعها جو بايدن أثناء حملته الإنتخابية قبل أكثر من عام بعودة القنصلية الأمريكية للعمل في خدمة المقدسيين الفلسطينيين العرب وأهل الضفة الغربية وقطاع غزة، ورغم والوعود التي قطعها أنتوني بلينكين وزير الخارجية الأمريكي بعودة القنصلية الأمريكية للعمل بصفته رئيسا للدبلوماسية الأمريكية، إلا أن هذه الوعود والعهود ذهبت أدراج الرياح، ولم يوف الأمريكيون بما قطعوه ولا بما التزموا به. وكأن الأمور حينما تقترب من الولاية الواحدة والخمسين تتجمد وتتوقف بدون أي سبب منطقي أو عقلي. فلا مشكلة أن يكون وزير الخارجية الأمريكي يهوديا أمريكيا، ولا مشكلة أن يكون السفير الأمريكي الجديد يهوديا، وتتنازعاهما قضية المصالح المتنازعة والتوفيق بين اليهودية والمصلحة الأمريكية. كل ذلك لا يهم ولكن فتح قنصلية أمريكية في القدس تغدو قضية كبرى يتدخل بها بينيت وبايدن وبلينكين وتثير أسئلة واهتمامات وحساسيات.
هذه القنصلية الأمريكية في شرقي القدس والتي افتتحت اثناء الدولة العثمانية وقبل قرنين تقريبا وقبل وجود إسرائيل من أقدم القنصليات الأمريكية في العالم أجمع، فكيف يضحي الأمريكيين بهذا الأثر التاريخي الهام ويتنازلون عنه. وامند وجودها اثناء الحكم الأردني، وأثناء الإحتلال الإسرائيلي بعد عام 1967، وبقيت محافظة على وجودها ردحا طويلا من الزمن حتى عام 2017، حين جاء المدعو المقامر التاجر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقرر إلغاءها من الوجود واستبدالها بسفارة أمريكية في القدس الغربية المحتلة، في خطوة غير قانونية وغير شرعية، بل انتقامية محابية كما صرح هو بكلماته الذاتية.
وها هو رئيس حزب يمينا الإسرائيلي الأمريكي اليميني بينيت صاحب الست مقاعد والذي جاء بغفلة من الزمن وبأصوات منصور عباس، يقرر ويصرح بكل ما فيه من حقد دفين بأنه لا مكان لقنصلية أمريكية في القدس. وكأنه يزعم بعدم وجود فلسطينيين لتخدمهم هذه القنصلية الأمريكية، وكأنه يريد تجاهل وجود احتلال عسكري إسرائيلي لا سيادة له وقد غدا طويل الأجل في القدس العربية إلى الأبد والمحتلة مؤقتا وامتدت أطرافه للضفة الغربية وقطاع غزة بل وصل لمرتفعات الجولان.
ليت الإدارة الأمريكية وهي أمنية صعبة، تفجع بينيت وتخيب أمله، بسحب قرارها بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس وتلغي قراردونالد ترامب الجمهوري والذي يساوي عشرة مليارات من الدولارات على جد تعبير ترامب نفسه في هذا الشأن وتعتبره كأن لم يكن. أية صفعة ستكون غير متوقعة لبينيت الذي يصادر حق الفلسطيني في علاقاته الدولية والدبلوماسية ولا يرغب في رؤية قنصلية أمريكية في شرق المدينة.
كانت القنصلية الأمريكية في القدس بشهادة الدبلوماسيين الأمريكيين معهدا أمريكيا عمليا واقعيا ناشطا غير نظري في الحقل الدبلوماسي، وترجمة النظريات الدبلوماسية لإجراءات واقعية على الأرض. وكانت محطا لكثير من الدبلوماسيين الأمريكيين للخدمة في شرقي القدس حيث الأحداث تتوالى وتتلاحق، وهذا من صميم عمل الدبلوماسي وكتابة تقاريره ومقابلة الشخصيات والخبراء المحليين. وكانت القنصلية تعج بمريدي التعلم واكتساب الخبرة الدبلوماسية. وكانت القنصلية مستقلة عن السفارة الأمريكية في تل أبيب، ولها مركز قانوني مباشر مع واشنطن ووزارة الخارجية الأمريكية عن غير طريق السفارة في تل أبيب. وكان رجال السلك السياسي الأمريكي يمكثون ثلاث سنوات على الأكثر لتراكم خبرتهم في هذا المكان الحيوي. فلماذا تغلق الخارجية الأمريكية هذا المعهد الحيوي المليء بالإثارة والتجديد بناء على توصية من شخص جاهل بالأصول الدبلوماسية والعمل السياسي كبينيت.
ليت الإدارة الأمريكية تعود لمنابع سياستها بعد الحرب العالمية الثانية، وتعود لقرار التقسيم رقم 181 وبخاصة موضوع التدويل لمدينة القدس، والتي اعتبرته محورا أساسيا في نهج سياستها الخارجية. ليت الإدارة الأمريكية تعود لقرارات مجلس الأمن التي حظرت أي تغيير في القدس العربية وبطلان إجراءاتها التشريعية والإدارية والبلدية والتي لم تعترض عليها ولم تنقضها. ليت الإدارة الأمريكية تعود لميثاق بوغوتا في كولومبيا بأمريكا الجنوبية سنة 1932 الذي يمنع ويحظر ضم أي جزء محتل نتيجة للغزو العسكري . ليت القابعين في وزارة الخارجية الأمريكية يطالعون ويقرؤون مقدمة قرار مجلس الأمن رقم 242 التي تحظر الغزو كسبب لكسب أراضي الغير بالقوة المسلحة. وليتهم يثقفون أنفسهم بقراءة قواعد القانون الدولي الجديد عبر فقهائهم والتي تحظر الغزو واستعمال القوة المسلحة في هز وقلب العلاقات الودية السائدة بين الدول والتدخل في الشؤون الداخلية للدول .
لو كانت الولايات المتحدة الأمريكية راغبة في حل القضية الفلسطينية وليس في إدارة الصراع كما فعلت من عام 1948 إلى يومنا هذا، لسحبت سفارتها من القدس وأعادتها إلى تل أبيب كما هو حال جميع البعثات الدبلوماسية لمعظم الدول بشكل ساحق ما عدا عدد بعدد اصابع اليد، عملا بقرار 181 وبقواعد القانون الدولي الإنساني للإحتلال الحربي، وفق ما قرته اتفاقية لاهاي الرابعة لعام 1907 ، واتفاقية جنيف عام 1949 الرابعة، والعرف الدولي واتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية وقرارات محكمة العدل الدولية. لوكانت الولايات المتحدة تطبق قانون حقوق الإنسان، لرفضت الضم الإسرائيلي للقدس الشرقية والتوحيد الزائف لها والذي لم يسأل أحد من الفلسطينيين رأيه فيه، وعدم منحهم حقوقا سياسية ومدنية واقتصادية واجتماعية وثقافية كاملة، واعتبارهم مقيمين ونزع صفة المواطنة عنهم.
لم تكن القدس عاصمة يوما لإسرائيل يوما ما بل هي أرض محتلة سواء قبل عام 48 أو بعد 67 . فهي لم تكن واقعة ضمن قرار التقسيم ضمن الدولة اليهودية عام 1947، بل تم احتلالها كخرق صريح لقرار التقسيم حينذاك. وقرر بن غوريون اعتبارها عاصمة. وفي عام 1967 تم احتلال الجزء الشرقي عبر الغزو والقوة العسكرية. والأحرى على الولايات المتحدة الأمريكية رفض الضم الإسرائيلي لمدينة القدس وإقامة علاقات دبلوماسية في مدينة القدس المحتلة . ووضع الوزارات الإسرائيلية والكنيست ومحكمة العدل العليا الإسرائيلية لا يؤكد وجود عاصمة ولا ينفيها. فهذه أعمال قامت بها الحكومة الإسرائيلية بصورة منفردة. فضلا عن أن العاصمة كمفهوم إداري قانوني هو مفهوم حديث لم يكن معروفا في التاريخ القديم ولا الأوسط، وبالتالي لم يكن لليهود عاصمة ضمن هذا المفهوم العصري وترويج هذا الأمر هو زيف وبطلان. فضلا عن أن كثيرا من المدن المهمة تاريخيا ودينيا ليست عواصم لدول كثيرة. فمكة المكرمة والمدينة المنورة ونيويورك ولاهاي ليست بعواصم.
يبدو أن الأمريكيين يظنون أن توزيع بعض الفتات هنا وهناك ومن خلال بعض المساعدات العينية والمالية ووكالة الغوث، وكلمات معسولة مضللة كإعادة فتح القنصلية الأمريكية في شرقي القدس، يمكن أن تضمن لهم وقتا مريحا ومطمئنا بدل أن يتخذوا مبادرة جريئة بسحب السفارة الأمريكية ويعيدوا الوضع إلى سابقه إلى حين وضع حل شاف للقضية الفلسطينية.
الولايات المتحدة الأمريكية إن كانت جادة في حل سياسي عادل للقضية الفلسطينية عليها أن تسعى لعودة الأمور إلى قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947 وحظر الإستيطان الإسرائيلي والإعتراف بالمحكمة الجنائية الدولية وقرارات الأمم المتحدة، والخطوةالأولى في نظر المقدسيين الفلسطينيين العرب أن لا مكان لرؤية سفارة أمريكية في القدس الغربية أو الشرقية على حد سواء وبالتالي سحب السفارة الأمريكية من القدس وإعادتها إلى تل أبيب فلا ثمار مشروعة لأعمال العدوان!